بيروت الـ 82: حكاية الصمود الذي صار مقاومة
|| صحافة عربية ودولية || الأخبار اللبنانية
التاريخ يعامل الفدائيين والمقاومين معاملة خاصة: إن تضحياتهم تزداد توهّجاً مع الزمن، وشهادتهم تبقى صرحاً وطنياً وإنسانيّاً، تهتدي به الأجيال المتعاقبة. 36 عاماً مرّت على انطلاق «جبهة المقاومة الوطنيّة اللبنانيّة» (جمّول)، شهدت منقلبات وتحوّلات، وحروباً ومجازر، واحتلالات ومعارك تحرير… كل عام مرّ لم يكن إلا تأكيداً لفرادة هذه الشرارة التي باتت نهجاً أعطى للمقاومة الشعبية أن تعيد كتابة التاريخ، وتصحح أخطاءه. تلك المبادرة الوطنيّة أطلقها مناضلون ومناضلات من أحزاب وطنيّة ويساريّة، قوميّة وعلمانيّة، لا عقيدة لهم سوى الحريّة، ولا حلم إلا خريطة الوطن العربي، ولا بوصلة إلا فلسطين. اليوم مجدداً ننحني أمام الشهداء والأبطال، ونستعيد مواقع العمليّات ضد العدو، ونقيس كل الإنجازات التي تحققت، بعدما تحطّمت أسطورة التفوق الإسرائيلي، وانهزم العدو، وبات يقبع مذعوراً في الملاجئ والخطط الدفاعيّة. في مسيرة الشعوب، تنتقل البندقية من كتف إلى كتف، لكن الأرض لا تفرّق بين الدماء الزكيّة التي روتها وترويها في الطريق إلى فلسطين. واليوم، ككلّ عام، ها هي المقاومة، بمعناها الأشمل، تجدد عهد الوفاء لـ«جمّول». التاريخ يعامل الفدائيين والمقاومين معاملة خاصة، شرط أن يبقى هناك شعب يتذكّرهم ويحتفي بهم ويواصل طريقهم…
تصل المقاتلين في المدينة أخبار التقدم الاسرائيلي على جبهات القتال في الجنوب (حزيران 1982)؛ فخلال أيام ثلاثة قطع جيش العدو مسافة 40 كيلومتراً، متوغلاً في عمق الاراضي اللبنانية. صور تقاوم ثم تسقط، وكذلك صيدا. انهيار كبير في الدامور، فيما تشهد خلدة معركة عنيفة تعيق التقدم السريع.
في حوزة الحزب الشيوعي معلومات مهمة مصدرها موسكو تفيد بأن هدف «الإسرائيلي» احتلال بيروت. لذلك لم يجد أمامه سوى إخراج بعض كوادر تنظيمه السري إلى العلن، لتسلّم دفة القيادة، ومنهم قيادي بيروتي وقع عليه الاختيار لإدارة معركة العاصمة.
لم يحتر طويل القامة ذو الملامح الحازمة في تحديد أولوياته. فالرجل الأسمر سرعان ما صار اسمه مرادفاً لمركزَي الحزب في «القصر» (مركز الحزب الشيوعي في عفيف الطيبي) و«الجريدة» (النداء). صعد سلم المسؤوليات والمهمات الحزبية بسرعة تشبه حيويته واندفاعته، فكان من أوائل الذين خضعوا لدورة عسكرية وسياسية خارج البلاد.
عليه الآن أن يشرع في تأمين المنازل السرية ومخابئ الأسلحة، إضافة إلى مطبعتين سريتين ستتوليان لاحقاً إصدار جريدة النداء ومنشورات أخرى. المقاتلون انتهوا من حفر الخنادق عند المدخلين الجنوبي والشرقي للعاصمة. يتوجه القيادي الشيوعي نحو كورنيش المنارة متفقّدا الواجهة البحرية لبيروت. يطلب تعزيز منطقة جل البحر قرب فندق الريفييرا بنقاط عسكرية، فهناك عند الشاطئ ممرات تحت الأرض تؤدي من مسبح الجامعة الاميركية إلى داخل حرمها.
عملية صيدلية بسترس كانت فاتحة العمل المقاوم المنظّم
هو الآن في منطقة المتحف يسترق النظر من خلف ساتر ترابي إلى العلم الاسرائيلي مرفوعاً في الجهة المقابلة، ويقول في نفسه «هذه بيروت، بيروت التي تستمع إلى ثلاثية عبد الناصر وعبد الباسط وأم كلثوم، كيف لها أن تسقط؟». يزداد وجهه تجهماً كلما التفت ناحية الشرق. يقطع شروده القصف المدفعي وما رافقه من محاولة تقدم لدبابة اسرائيلية عند المتحف. تجاوزت الدبابة السيارات المحطمة وسط الطريق العام فوقعت في كمين أجبرها على التراجع.
كان الاستيلاء على المتحف مهمة مركزية للعدو، فقد تقاطع ذلك مع معلومات فرنسية وصلت للقيادة الفلسطينية، مفادها أن بشير الجميل طلب من جيش العدو الاسرائيلي السيطرة على منطقتين؛ المنطقة الاولى هي بعبدا، عن طريق تلال عبية بهدف تأمين القصر الجمهوري. اما الثانية، فهي اختراق خط المتحف نحو كورنيش المزرعة لعزل المخيمات الفلسطينية في صبرا وشاتيلا ومحاصرة منطقتي الفاكهاني وطريق الجديدة حيث توجد المقار الرسمية للمقاومة الفلسطينية.
المعركة في أوجها. الغارات الجوية لا تتوقف. العدو لا ييأس من محاولات اختراق خطوط الدفاع عن بيروت. ويحصل أن تتكرر عمليات الإنزال الفاشلة عند شاطئ الرملة البيضاء. والقيادي البيروتي لم يترك محاور القتال. يذهب لتفقد مخزون السلاح، ويعود ليشارك في اجتماعات التنسيق مع الفصائل والأحزاب اللبنانية. تقضي الخطة باستدراج القوات المهاجمة إلى الشوارع الضيقة ومن ثم الانقضاض عليها والالتحام معها عن قرب لإخراج الطائرات الحربية من المعركة.
كان التنقل بين أحياء العاصمة مهمة شاقة. الطرقات مقفلة إما بساتر ترابي أو بركام الأبنية المدمرة. تستهدف الطائرات أحد المباني في برج ابو حيدر، فتهرع سيارات الاسعاف إلى المكان. يدور الحديث عن اغتيال ياسر عرفات. القيادي الشيوعي موجود في نقطة مراقبة في أحد أبنية كليمنصو. يناديه رفيقه، طالباً إليه النظر إلى مبنى مقابل. يتركان جانباً مراقبة البوارج الإسرائيلية في عرض البحر، ويشرعان في تأمل «أبو عمار» وهو يضع الكوفية على رأسه. لم يتأخر الوقت قبل أن يراه مرة ثانية، لكن هذه المرة في بناية المارينيان في الحمرا، حيث أشرف على تأمين المبنى أثناء زيارة سرية قام بها أبو عمار لجورج حاوي.
إنه غروب السبت في الاول من آب. فبينما كان يستريح في مركز الحزب، تلقّى القيادي عبر جهاز اللاسلكي نداءً عاجلاً: «العدو ينفّذ إنزالاً كبيراً على مطار بيروت الدولي». قفز من مكانه واتجه مسرعاً نحو محور المتحف.
فوهة من النار صبّت حممها على بيروت في تلك الليلة. أكثر من 14 ساعة من القصف المتواصل. القذائف المدفعية انهالت كالمطر على الشوارع. البوارج البحرية وقفت في عرض البحر بصورة مستقيمة ولم تتوقف للحظة عن القصف. موجات وموجات من الغارات نفذتها أسراب الطائرات على مساحة جغرافية لا تتجاوز 5 كيلومترات مربعة في «بيروت الغربية». مبان كثيرة سوّيت بالارض. الاشجار مقطوعة في الطرقات وسيارات مدنية تحترق.
تحولت العاصمة إلى مدينة أشباح لا أثر فيها للحياة. وبقيت تشتعل حتى مساء الاحد 2 آب. ذلك الأحد الذي سمّي «الأحد الأسود»، كان اليوم «الأصعب والأقسى والأكثر دموية» في حياة القائد الشيوعي.
نداءات الاستغاثة تملأ الشوارع. يسارع القائد الميداني إلى السؤال عن حال الجبهات، فتصله التقارير تباعاً عن تماسكها برغم الدمار الهائل الذي سبّبته عشرات آلاف القذائف التي سقطت على بيروت في تلك الليلة. الخرق الوحيد تمثل في توغل العدو مسافة أمتار قليلة على المدرج «ب» من مطار بيروت الدولي، مع اعترافه بمقتل 19 جندياً واصابة 84 آخرين.
التقى القائد الميداني الأمين العام للحزب جورج حاوي أكثر من مرة، خاصة في ظل هدنة الأيام الثلاثة التي جاءت عقب «الاحد الأسود»، وعلم منه أن المفاوضات ذاهبة باتجاه خروج المقاتلين الفلسطينيين بسلاحهم الفردي من بيروت.
ما العمل؟ وماذا بعد؟ هو الذي عاش الإحباط في نكسة عام 1967، واجتاحه الحزن لوفاة جمال عبد الناصر، وشعر بالعجز عن تقديم العون في أحداث أيلول الاسود في الأردن. وها هي المرارة تتكرر الآن مع خروج 13 ألف مقاتل فلسطيني سيتم نقلهم بين 18 آب (1982) ونهايته إلى تونس.
من دون سابق إنذار، جاءه عضو في المكتب السياسي يطلب منه الذهاب إلى البيت، لأن الأمور انتهت. نزل عليه القرار كالصاعقة. كيف يترك السلاح وجنود الاحتلال يسيرون في شوارع المدينة خلف دباباتهم مدجّجين بالسلاح؟ شاهدهم قرب منزل الرئيس سليم الحص، يسيرون في شارع الاستقلال يجلسون على الأرصفة، يضعون أمتعتهم وينامون قربها. كيف تكون هذه المدينة التي لم ترفع راية بيضاء مقراً آمناً للمحتل؟
كان يروح ويجيء في الطرقات بلا خوف. هو يدرك أنه لن يشي به أحد، لأن «هذه هي ثمرة الإخلاص لبيروت». لكن أكثر ما كان يزعجه رؤية السلاح مرمياً قرب أكوام النفايات فـ«السلاح إن لم يكن في يد المقاتل، فيجب أن يكون مخبأً لمعركة قادمة».
«جمول»: تنظيم المقاومة
منذ أوائل أيلول صار الرجل من دون مهام استثنائية، يتردد على مراكز الحزب السرية ويدقق في كل ما يجري، يؤمّن الصلات ويجول مع أبو أنيس (حاوي) على شخصيات مؤثرة.
أخبار العمليات والمواجهات غير المنظمة تتوالى إليه. العاصمة ترفض التسليم. يأتيه خبر استشهاد شاب من طريق الجديدة اسمه محمد السيلاني بادر إلى إطلاق النار على جيب عسكري قرب جامع الخاشقجي. محمد عرابي شاب لبناني هو الآخر يسقط شهيداً عند النصب التذكاري لجمال عبد الناصر في محلة عين المريسة بعد أن رمى قذيفة «آر بي جي» باتجاه زورق حربي حاول الاقتراب من الشاطئ. يستعيد بعضاً من فرحه حين يسمع عن قذيقة إنيرغا أطلقها محمود ديب من الخندق الغميق على ملالة صهيونية تمركزت فوق جسر الرينغ. يأتيه أحد الرفاق يبلغه أن الرفيقين محمد مغنية وجورج قصابلي استشهدا عند تقاطع كليمنصو – الوردية.
تزداد الحماسة مع تزايد الاشتباكات المتفرقة. في عائشة بكار اشتباك، وآخر قرب سينما «إتوال»، فمحطة سليم في الغبيري. ثم إحباط محاولة تقدم نحو منطقة الفاكهاني وحصول اشتباك عند كلية الهندسة، جنود صهاينة يتركون ملالاتهم في الطريق عند جسر سيلم سلام ويفرّون نحو حوض الولاية في مواجهة هي الأعنف.
عملية خالد علوان أفهمت العدوّ أن كل مقاتل تحوّل إلى مقاوم يختار هدفه وينفّذ عمليته ويختفي
تُرتكب المجزرة (صبرا وشاتيلا) في 16 أيلول. وفي اليوم نفسه يصدر بيان إعلان جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية، الذي يدعو إلى تنظيم حمل السلاح في مواجهة الاحتلال. في صباح اليوم التالي يستقبل القيادي موفداً من قبل جورج حاوي يطلب منه «التجاوب مع من سيأتي إليه». القرار قد اتخذ. عاد الرفيق إلى مهامه السرية. جاءه المسؤول الحزبي الذي طلب منه ذات نهار سيّئ الذهاب الى المنزل، لكن هذه المرة لمطالبته بإعادة تنظيم صلاته مع من يراه مناسباً للعمل. تحرك سريعاً، وأرسل خلف قائد فصيل في الحزب الشيوعي يدعى مازن عبود، طالباً منه التحرك سريعاً لتنفيذ عملية. فالتعليمات كانت واضحة بضرورة إنجاز عمل ما. توجه مازن ومعه رفيقان في ساعات المساء الأولى باتجاه صيدلية بسترس (تقاطع الصنائع – فردان)، حيث رُصدت مجموعة إسرائيلية متمركزة هناك. اقترب الثلاثة من مسافة معقولة من الصهاينة، ومن هناك رمَوا عدداً من القنابل اليدوية على مجموعة من الجنود الذين كانوا يتحلقون بعضهم حول بعض، فأردوهم بين قتيل وجريح. كانت تلك فاتحة العمل المقاوم المنظّم، لتكرّ بعدها سبحة العمليات في مختلف المناطق اللبنانية.
كل مقاتل… مقاوم
عملية أخرى تحصل عند تقاطع محطة أيوب (البطريركية)، تليها عملية مقر منظمة التحرير الفلسطينية. يروي الشيوعي أن جورج حاوي طالب بتنفيذ تلك العملية، وهو من حدد الهدف، انطلاقاً من أنه «لا يجوز أن يأخذوا مقر منظمة التحرير الفلسطينية من دون رد». كان لافتاً أن المجموعات التي نفذت العمليات الثلاث انطلقت من منزل القيادي. بعدها ينفذ الشهيد خالد علوان من الحزب السوري القومي الاجتماعي عملية نوعية وجريئة في مقهى الويمبي. هي عملية فتحت الباب على مواجهة من نوع جديد. وسيكون لها بالغ الأثر على المحتل الذي صار يخشى من تحول كل مقاتل في بيروت الى مقاوم يختار هدفه، ينفذ المهمة، ثم يمضي.
لا يخفي الرجل الستيني فخره بما أنجزته مدينته من صمود ومقاومة، هو الذي يؤمن بأن الأهمية للعمل وليس للأشخاص. وعلى الرغم ممّا يحمله من ذكريات عن بطولات أسهم في تسطيرها إلى جانب رفاق كثر، إلا أن أكثر ما تحمله ذاكرته بكثير من الفخر هو يوم السادس والعشرين من أيلول عام 1982. حينها أطل بوجهه الضاحك من على شرفة منزله ليشاهد سيارة عسكرية إسرائيلية تسير خلفها مجموعة من الجنود، أحدهم يردد على طول الطريق، عبر مكبّر الصوت: «يا أهالي بيروت لا تطلقوا النار نحن منسحبون».