تنزيه الحسين عن الروايات القادحة في أسباب نهضته
|| مقالات || عدنان الجنيد
إن تحرك الإمام الحسين -عليه السلام – إلى أرض كربلاء له دلالات عظيمة، وأبعاد فخيمة إذ أنه رسم- بتحركه ذلك – الطريق للأحرار والثوار الذين سيأتون بعده إلى قيام الساعة في كيفية الخروج على الظالمين والتحرر من المستبدين والوصول إلى الهدف الأسمى والذي من خلاله ستنعم الإنسانية بالعزة والكرامة بعد تحررها من الذلة والاستكانة.
إن الإمام الحسين بتحركه الشجاع يجسد الموقف الرسالي الرافض للظلم والفساد وذلك من أجل أن تتخذ الأمة الإسلامية والإنسانية الموقف ذاته تجاه الظلم والعدوان.
وبتحركه العظيم انكشفت أكذوبة الروايات التي تأمر بطاعة الظالمين وبحرمة الخروج عنهم مثل حديث: ( من كره من أميره شيئا فليصبر عليه فإنه ليس أحد من الناس خرج من السلطان شبرا فمات عليه إلا مات ميتة جاهلية )(1). وحديث:(…. كيف اصنع يا رسول الله إن أدركت ذلك ؟ قال: تسمع وتطيع للأمير وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك فا سمع وأطع ) (2).
وحديث:( الجهاد واجب عليكم مع كل أمير برا أو فاجرا…). (3). وهذه الأحاديث وغيرها تجدها مبثوثه في كتب الصحاح والسنن والأدهى من ذلك قولهم بالإجماع على عدم الخروج على السلطان الجائر فقد نقل ابن حجر في الفتح عن ابن بطال أنه قال:( وقد أجمع الفقهاء على وجوب طاعة السلطان المتغلب والجهاد معه، فإن طاعته خير من الخروج عليه ….) قلت: وهذه مجازفة وتعصب مقيت ويكفي في ردهم على إجماعهم هذا هو خروج الإمام الحسين- عليه السلام – على الطاغية يزيد بن معاوية وقتاله لجيش بني أمية وشهادته هو وأهل بيته وأصحابه وانصاره- عليه وعليهم السلام – في واقعة كربلاء …. فخروج الإمام الحسين على الظالم يزيد حجة على المسلمين ويجعل تلك الأحاديث الآنفة بأنها مكذوبة، كيف لا والإمام الحسين من أهل البيت الذين قال الله فيهم إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا ) (4) .
وهو الذي قال فيه رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ ( حسين مني وأنا من حسين أحب الله من أحب حسيناً…).رواه الترمذي. إضافة إلى أن تلك الأحاديث تتعارض مع كتاب الله تعالى قال تعالى: ( ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار) (5) وإذا كان الركون إلى الظالم حراماً فكيف يكون للظالم ولاية وإمامة على المسلمين؟ وقال تعالى:( يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به)(6) والطاغوت هو الظالم المتجبر وسمي بالطاغوت لإفراطه في الطغيان والكفر به بمعنى الرفض والإنكار والتبِّري منه وقال تعالى:( أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت )(7) والاجتناب أن يعزل المسلم موقعه وحسابه عن موقع الطاغوت وصفّه ونظامه ونفوذه ويعلن انفصاله عن الطاغوت وبراءته عنه.
وقال تعالى:(والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها وأنابوا إلى الله لهم البشرى..)(8) وعبادة الطاغوت: طاعته والانقياد له.
وقال تعالى:(ولا تطيعوا أمر المسرفين الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون)(9) وقال:(فاصبر لحكم ربك ولا تطع منهم آثماً أو كفورا)(10) والآيات من هذا النوع كثيرة تأمرنا بالتصدي للظالمين وعدم طاعتهم والخضوع لهم.
بهذه الآيات الكريمات قام الإمام الحسين ـ عليه السلام ـ بثورته المباركة وفضح بني أمية وكشف حقيقتهم حيث كانوا يتسترون وراء هذه الأحاديث المكذوبة ويحكمون تحت غطائها.
إن الإمام الحسين بثورته العظيمة أحيا الرسالة الإسلامية والمبادئ الإنسانية بعد أن كادت تضيع وسط أهواء ورغبات الحكام الفاسدين لكن العجيب أن بعض الروايات تجعل من تحركات الإمام الحسين ـ عليه السلام ـ على أنها آنية وبعضها تجعله دون مقامه اللائق به فمثلاً: تقول الروايات بأن خروجه من المدينة إلى مكة ثم إلى العراق إنما كان بسبب الكتب والرسائل التي وصلت إليه من الكوفة والتي تدعوه إلى المجيء لأحقيته بالأمر وبالبيعة وبأن الناس تبع له.. إلخ.
ثم نجد بعض الروايات تصرح بأنه لو لا هذه الرسائل التي وصلته لما خرج إلى العراق. ففي تاريخ الطبري [5/87] أن الإمام الحسين قال ـ لجند ابن زياد لما أرادوا قطع الطريق عنه ـ مخاطباً لهم: ( أما بعد فإنكم إن تتقوا الله وتعرفوا الحق لأهله تكونوا أرضى لله عنكمـ إلى أن قال ـ وإن أبيتم إلا الكراهية لنا والجهل بحقنا وكان رأيكم الآن غير ما أتتني به كتبكم وقدمت به عليَّ رُسُلكم انصرف عنكم) .
وفي موقف آخر قال لهم: (وإن لم تفعلوا وكنتم لمقدمي كارهين انصرف عنكم إلى المكان الذي جئت منه إليكم). وفي مواقف أُخرى تكلم بمعنى هذا الكلام ولكن بألفاظ مختلفة.
فلاحظ في عبارته الآنفة وهي أنه سيعود إلى المدينة وهو المكان الذي جاء منه فيما إذا كانوا لمقدمه كارهين، وكأنه يقول لهم إن سبب خروجي من المدينة ومجيئي إليكم هو كتبكم ورسائلكم التي وصلتني وإلاَّ لما خرجت.
إن هذه العبارات ـ الآنفة الذكرـ تفوح برائحة الذلة ولا يمكن أن تصدر من الإمام الحسين الذي هو مصدر الإباء كذلك ـ هذه العبارات ـ تتنافى وتتناقض مع ما خرج الإمام الحسين من أجله. اسمعه وهو يقول: ـ في وصيته لأخيه محمد بن الحنفية ـ (( إني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي، أريد آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر وأسير بسيرة جدي وأبي علي بن أبي طالب)) (11).
فلم يقل خرجت من أجل كتب ورسائل أهل الكوفة التي وصلتني، بل قال خرجت لطلب الإصلاح وهذا تصريح منه في وصيته بأن دافع ثورته عنوان (الإصلاح) وهذا يعني أن انحرافاً كبيراً حدث في المجتمع الإسلامي، أراد الإمام الحسين ـ عليه السلام ـ إصلاحه وقال ـ أيضاً ـ مبيناً أسباب ثورته وخروجه على الظالم : ( ألا ترون أن الحق لا يُعمل به وأن الباطل لا يُتناهى عنه؟ ليرغب المؤمن في لقاء الله) (12) وفي أعيان الشيعة [1/603] قال ـ عليه السلام ـ : ( ألا وإن الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين بين السلة والذلة, وهيهات منا الذلة! يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون وجدد طابت وحجور طهرت وأنُوف حميّة ونفوس أبيّة لا نؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام)
وقال ـ أيضاً ـ عبارته المشهورة: ( لا أرى الموت إلا سعادة والحياة مع الظالمين إلا برما). بهذه العبارة الرائعة سن الإمام الحسين ـ عليه السلام ـ سنة الإباء لكل من يدين بقيم السماء وينتمي إليها ويدافع عنها وانطلق من هذه القاعدة ليغير الواقع الفاسد.
إذاً فهذه العبارات الحسينية وغيرها تبين الهدف الأسمى والغاية العظمى من ثورته وخروجه على الظالمين والفاسدين وتبين عدم صحة تلك العبارات التي تنسب إليه والتي مضمونها بأن السبب في خروجه ـ عليه السلام ـ إلى العراق هو كتب ورسائل أهل الكوفة والتي تدعوه إلى الشخوص إليهم لبيعته ومناصرته والتي لولاها لما خرج إلى العراق ولما ثار على الظالمين.
إن الإمام الحسين ـ عليه السلام ـ يعلم بأن أهل الكوفة قد خانوا أباه وأخاه من قبل .. بل وقد علم ـ وهو في طريقه إلى العراق ـ بأنهم قد خذلوه وقتلوا رسله منهم مسلم بن عقيل وقيس بن مُسهر الصيداوي وغيرهما…هذا إضافة إلى الذين حاولوا منعه وحذروه من غدر أهل الكوفة كأخيه محمد بن الحنفية وعبدالله بن عباس والفرزدق القائل (إن قلوبهم معك وسيوفهم عليك) قال له هذه العبارة لما سأله الإمام عن أخبار أهل الكوفة.
فرغم منعهم له من الذهاب إلى العراق ورغم علمه ـ عليه السلام ـ بمقتل رُسُله الذين ارسلهم إلى الكوفة ورغم علمه بتخاذل أهل الكوفة، رغم هذا كله وهو مازال ـ عليه السلام ـ مصراً على المسير إلى العراق بل قد قال لأصحابه وأهل بيته بما استجد من الحوادث ليكونوا على بصيرة من الأمر.
قال لهم: (بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد فإنه قد أتانا خبر فظيع قتل مسلم بن عقيل وهاني بن عروة وعبدالله بن يقطر وقد خذلنا شيعتنا فمن أحب منكم الانصراف فلينصرف في غير حرج ليس معه ذمام)
فرغم هذا كله وهو ـ عليه السلام ـ ما زال مصراً على المسير إلى العراق.
إذا ما ذاك إلا لتعلم الأمة بأن خروجه للإصلاح في أمة جده ولإحياء رسالة الإسلام مهما كلفه الأمر وليس استجابة لرسائل أهل الكوفة.
فلو كان خروجه لهذا الأمر لعاد من فوره بمجرد علمه بمقتل رُسُله وتخاذل أهل الكوفة في نصرتهم له.
إن الإمام الحسين ـ عليه السلام ـ أراد بخروجه ذلك أن يدعو الأمة بأفعاله وتحركاته الحقة وكأنه يقول للمسلمين ها أنا خرجت ومعي أسرتي وأصحابي .. خرجت بهؤلاء القلة كي أنهي فساد بني أُمية وظلمهم للعباد وأحيي رسالة الإسلام التي تتعرض للتشويش والتحريف والإزالة من قبل هذه الشرذمة الخبيثة.
إن دعوته الفعلية ـ هذه ـ حجة على المسلمين كافة فكان وجوباً عليهم ـ سيما الذين في عصره وكان لهم سبيل إلى نصره ـ أن يخرجوا معه ويثوروا ضد الفساد ويقوموا بنصرته على بني أمية الذين استعبدوا العباد..
لماذا؟ لأنه ـ عليه السلام ـ إمام حق مفترض الطاعة على من دونه سبيله سبيل أخيه الحسن وأبيه الإمام علي بن أبي طالب ـ عليهم السلام ـ في عدلهما وفضلهما.
فلم تكن نهضته ـ عليه السلام ـ وثورته حركة آنية أو ردة فعل مفاجئة بل كانت حركة إلهية وثورة عالمية وبهذا أصبحت أنموذجا يحتذى به لمقارعة ومقاومة كل نظام يستشري فيه الفساد
وأما من يشكك في قول الإمام الحسين ـ عليه السلام ـ : ( هل من ناصر ينصرنا) ويظن بأنه قالها عن ضعف ولهذا شكك في هذه العبارة ونسبتها للإمام ـ عليه السلام .
فأقول: إن الإمام الحسين ـ عليه السلام ـ قال هذه العبارة مقتدياً بالقرآن الكريم قال تعالى:(والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون) أي يطلبون النصرة من الغير.
إن الإمام الحسين قال هذه العبارة عن علم وإدراك وذلك ليقيم الحجة على الساكتين والمتخاذلين ويبين المحجة للمتقاعسين بل يقيم الحجة على بني الإنسان وعلى الأجيال اللاحقة، فأينما تجد المستضعفين والمظلومين بأي بقعة في العالم فهم يخاطبونك بلسان الحال (هل من ناصر ينصرنا).
فتتذكر الإمام الحسين ـ عليه السلام ـ فتهب لنصرتهم، كذلك قالها ليثبت النواميس الكونية (ناموس الأسباب) فالله سبحانه ينصر عباده بعباده فهم مظاهره وفيهم جواهره.
وأما من قال بأن الإمام الحسين لو كان يعلم بأن القوم سيخذلونه لما قال (هل من ناصر ينصرنا).
أقول بأنه قالها وهو يعلم بخذلانهم وكما قلت آنفاً ليقيم الحجة عليهم إضافة إلى أن الكثير من الروايات منها صرحت ومنها لوحت بعلمه بمقتله وبالأرض التي سيقتل فيها ولم نذكرها ـ طلباً للاختصارـ وأما اصطحابه لعائلته فهو لأجل أن يكون وجودها معه بمثابة حجة قوية على المسلمين لنصرته لأنهم أحق بنصرته وهو أحق بتغير الفساد من غيره لهذا ضحى بنفسه وبأولاده وأهله وأصحابه لإحياء الرسالة المحمدية التي كاد بنو أمية أن يطمسوها بانحرافهم وتحريفهم للأحاديث والسيرة المحمدية، وضحى من أجل سعادة الإنسان واستقلاله وحريته، ولهذا نجحت ثورته المباركة فأتت الثورات من بعده مستمدة من روح ثورته وإلى يومنا هذا نجد جميع الأحرار في جميع بقاع العالم تأثروا بثورة الإمام الحسين وتأثروا بشخصه ـ عليه السلام ـ مثل جيفارا وتشافيز وغاندي القائل (لقد علمني الحسين كيف أكون مظلوماً فأنتصر)، وغيرهم من الأحرار والمفكرين والعظماء.
والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
————-
الهوامش :
1ـ صحيح مسلم [1478:3، الباب 13، كتاب الإمارة، ج 1849].
2 ـ صحيح مسلم [1476:3, الباب 13, كتاب الإمارة، ج 1847].
3ـ سنن أبي داود[17:2] باب الغزو مع أئمة الجور، كتاب الجهاد.
4 – الأحزاب (33)
5 – هود (113 )
6 – النساء: 60
7 – النحل: 36
8 – الزمر: 17
9 – الشعراء: 151-152
10 – الإنسان: 24
11 – انظر ((مقتل الحسين))صـ 156 للمقرّم
12 – تاريخ الطبري [403:5]