الإمام الحسين واليمنيون .. بين السِلة والذلة

|| مقالات || حمود عبدالله الأهنومي

وقف في طريق الإمام الحسين الثوري طابورٌ طويل من الصحابة والتابعين لثنيِه عن ثورته، وكانت لهم حسابات تقديرية مختلفة، ومن هؤلاء ابن عباس، وكان أحد علماء هذه الأمة وحذاقها، الذي نصحه أن يذهب إلى اليمن بدلا عن العراق، ولكن هل كان الإمام الحسين من الغفلة وقصر النظر بالشكل الذي جعله يرمي بكل تلك النصائح عرض الحائط؟ أم كان للمسألة لديه تقديرات مختلفة؟

إنه حين نعرف أن الإمام الحسين كان ينفذ مهمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، التي ستكون لها نتائجها وثمارها على مستوى العالم الإسلامي كله، وعلى مستوى التاريخ الإسلامي أيضا بجميع مراحله، فإن تصميمه على صحة عمله الثوري أثبت خطأ حسابات أولئك، التي كانت في معظمها تنطلق من الإشفاق عليه من القتل، وهل كانت حسابات القتل في طريق العظماء أمرا يؤثر على قراراتهم الاستراتيجية متى ما علموا أنه قد تحتم عليهم التحرك الفاعل لإنقاذ الأمة، وهز ضمائرها، وتحريك واقعها الراكد؟

ليس على المصلح والثائر أن ينجح ماديا، ولكن عليه أن يبدأ المضي في طريق الحرية، ليأتي مَنْ بعده فيسلكوا فيه، ويُكملوا مسيرته، وهذا الشهيد القائد حسين بدر الدين الحوثي أقربُ مثَلٍ يثبت صحة هذا الخيار، على أن الشهيد القائد كان قد ذكر هذه القضية، وبيّن أن الواجب على الإمام الحسين وأمثاله الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وليس الواجب عليه أن يجلس على كرسي الحكم وتكون له عاصمة سياسية ويبعث الولاة إلى الأقطار، فإذا لم يستطع الوصول إلى تلك الحالة قال الناس عنه إنه مقصر، فهل قام الإمام الحسين والإمام زيد وأمثالهما بهذا الواجب أم قصروا فيه؟

أما خيار الذهاب نحو اليمن فهو اختيارٌ للمكان غير المناسب للتغيير، فمن المعروف جغرافيا أن اليمن كانت على هامش عواصم القرار الروحية والسياسية والاقتصادية، مكة والمدينة، ودمشق، والكوفة، والبصرة، واختيار اليمن للتأثير في تلك العواصم يعني تهميشا قاتلا للثورة، فتكون بمثابة إحداث تغيير جزئي على هامش مشهد العالم الإسلامي، على أن الحسين عليه السلام كان يرى أن قد توفّرت لديه الحيثيات الكثيرة التي تقنِع مثلَه بوجوب القيام في مثل تلك الظروف، وأنه آن الأوان لإيقاظ الأمة التي انساقت في سبات عميق وراء حكامها لإماتة الإسلام، وآن الأوان لفعلِ عملٍ مبادر، ينطلق من أسس معرفية صحيحة متطابقة مع الشرع.

يؤكد السيد القائد عبدالملك الحوثي – في خطاب عاشوراء العام الماضي – المعنى الذي أوردته المقالة الماضية نقلا عن الشيخ محمد الغزالي، وهو أن موقف الإمام الحسين وثوريته كانت منطلقة من حسابات دقيقة للوضع وخياراته السيئة، وأهمية التحرك وبدائله القاتلة، فيقول: “موقفٌ ليس متهوِّرا، وليس عبثيا وليس انتحاريا، بل هو موقفٌ مسؤولٌ بكل ما تعنيه الكلمة، فرضه الله سبحانه وتعالى، ويحدّده الإسلام، ثم هو أيضا موقفٌ واعٍ، هو نتاجٌ لوعيٍ حقيقي بحتمية ذلك الموقف، ووعيٍ بالبدائل التي يمكن أن تحدُث لو لم يُتّخذ ذلك الموقف، وهي بدائل فظيعة جدا”.

ألا يقول عبيد الأهواء والملذات اليوم الذين يمضون في ركاب العدوان عن الأحرار من أبناء هذا البلد بأنهم مغامرون ومسحورون وأغبياء؛ لأنهم يتصدون لأقوى وأغنى القوى العالمية المعتدية؟ ألا يرون أن العقل والمنطق يكمنان في استسلام أولئك الأحرار للذلة التي رفضها الإمام الحسين واختار الموت بشرف أمامها؟

ذلك الاختلاف ليس جديدا، بل هو خلاف الأحرار لمن استمرأوا حياة الذلة والعبودية، وخلاف المؤمنين للأشرار الذين تنصلوا عن المسؤولية، أو رضوا بأن يكونوا وقودا للشيطان وأعوانه، إنه اختلاف ثقافي، وفكري، وسلوكي.

وبعيدا عن حسابات الدين وما يمليه على المكلفين به من واجب؛ فإن النزول عند مقتضى تلك النصائح المهادنة والتي وقفت أمام حركة الإمام الحسين هل يمكن أن تصل بالإنسان إلى ما يريده ويبتغيه من الرخاء المادي والاقتصادي، مع الحفاظ على قليل من العزة، كلا .. فقد أثبتت أحداث يزيد وجرائمه بعد استشهاد الإمام الحسين أن رهان أبناء الصحابة على حياة الدعة والمسالمة والمجاملة رهان محفوف بالمخاطر، وخيار مملوء بالمصائب والخسائر.

إن ما تحتاجه المرحلة والواقع والأمة من عملية التغيير، في زمن معين، ومكان محدّد، هو من مسؤوليات علَم الهدى من الثوار الأحرار، من أهل البيت الأطهار، وعلى هذا النحو جرى الإمام الحسين عليه السلام.

لاحقا برز الإمام زيد بن علي عليه السلام للجهاد فقال: “سلوني، فو الله ما تسألوني عن حلال وحرام، ومحكم ومتشابه، وناسخ ومنسوخ، وأمثال وقصص إلا أنبأتكم به، والله ما وقفْتُ هذا الموقف إلا وأنا أعلم أهل بيتي بما تحتاج إليه هذه الأمة”؛ وهو أمر يفيد أنه على دراية واسعة بأحوال الأمة وما تحتاجه من عملية تغيير مناسبة، بمقتضياتها المختلفة، ولفظة (ما تحتاج إليه هذه الأمة) تشمل كل ما تحتاجه الأمة تشريعا وتطبيقا، مفترَضا وواقعا، تنزيلا وتأويلا.

إن الوعي الثوري يأتي نتيجة كون القائد الثائر عالما، والعِلم هو العلم بالنظرية الإسلامية بشكلٍ جيّد وكاف، والعلم بالواقع، والعلم بكيفية إيجاد علاقة صحيحة شرعية بين الشرع وذلك الواقع، ولا بد من الحضور الكافي على صعيديهما معا، أما من يعلم الواقع ولا يعلم الشرع، أو يعلم الشرع، ولا يعي الواقع؛ فإنه لن يقدم للأمة أمرا فيه رشد وطاعة لله تعالى.

وعليه فليس عدلا تصوُّرُ الإمام الحسين وكأنه رجلٌ لا يجيد غير الحرب والقتال، وأنه كان بعيدا حتى عن المعرفة التصورية للواقع الذي كانت عليه الأمة.

إن ذلك اختزالٌ غير بريء لحركة الإمام الحسين وشخصيته العظيمة.

لم تكن كل أيامه سلام الله عليه قتالا، ولم يكن خياره القتال والحرب، ويوم عاشوراء الدامي كان يوما واحدا من أيام حياته، ولكنه كان خاتمة مطاف حكمته العميقة، وحياته المملوءة بالدروس والتعاليم، وقد كانت أيامه كلها حكمة، وتعليما، وإنتاجا، إنه الجهاد بأوسع معانيه، ثم جاءت ثورة كربلاء باعتبارها ضرورة مفروضة وماسة.

قبل أن يكون الحسين عليه السلام بطلا ثائرا وجدناه مزارعا مُنتِجا في مزرعته بالبغيبغة في ينبع، وكان على خبرة عميقة بشؤون الاقتصاد والاجتماع والفكر والدين، وكان قد اتخذ من الحج موسما لنشر دعوته وعلمه فحج لأكثر من 25 سنة، يعلم فيها أمة جده، ويحاضرهم.

لقد كان العالم، قبل أن يكون الثائر، وكان المعلم والمربي قبل أن يكون القائد والمحارب، قال معاوية لرجل من قريش : “إذا دخلتَ مسجد رسول الله صلّى الله عليه واَله وسلّم فرأيتَ حلقةً فيها قومٌ كأنَّ على رؤوسهم الطير – فتلك حلقة أبي عبد الله، مؤتزِراً على أنصاف ساقيه، ليس فيها من الهُزّيلى [الهزل الذي لا جد فيه] شيء”.

ولما حوسِب عبدالله بن عمر بن الخطاب على عملٍ، وذُكِّر بعمل الحسن والحسين عليهما السلام وهما أصغر منه، أقرّ أنهما كانا “يُغَرّان العلمَ غرًّا” من رسول الله، أي يزقّانه زقا، كما يزق الطائر فرخه، وهو أي الإمام الحسين سلام الله عليه هو مَنْ علّم أولاده وأهل بيته، فالإمام زيد بن علي عليهما السلام في مجموعه الحديثي يروي الحديث عن والده زين العابدين، عن جده الحسين، عن علي عليهم السلام عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

لقد حمل مؤهلات القيادة في كل شيء، وأهم تلك المؤهلات العلم بدين الله، والعلم بالواقع الذي عاشه، والعلم بماهية العلاقة التي يجب أن تسود في ذلك الواقع، ولهذا ميّزه علمه عليه السلام بالواقع ليضطلع بالدور المنتظَر من أمثاله في إحياء الإسلام وإماتة الرجعية العربية القبلية، على خلاف كثيرٍ من معاصريه، والذين جهلوا البدائل السيئة لجمودهم وسكوتهم، وجهلوا أنهم جنوا على الأمة جناية بالغة حتى يومنا هذا، حيث أسسوا كل هذا الاستبداد والتخلف والرجعية المنقلبة على تعاليم الإسلام السمحة.

وهل أغنى استسلام بعض أهل الجنوب والشمال للعدوان والاحتلال عن أنفسهم شيئا؟ هل تحققت لهم آمالهم التي باعوا وطنهم وأهلهم من أجلها؟ وهل نجوا من حياة القتل والقتال التي هربوا منها إلى الدعة والاستسلام؟ أم زج بهم المحتلون في كل معركة، وأجبروهم على القتال تحت أجندتهم ومن أجل مشاريعهم في مناطق عديدة؟ في الوقت الذي يرتكبون بحق أبنائهم وأهلهم في عدن وغيرها أقذر الجرائم وأوسخها على مر التاريخ..

تلك الحكمة الحسينية التي لا يفقهها المنافقون، وجدنا سليل بيت النبوة يتلقّفها عن جده كابرا عن كابر، وإذا بهذا اليمن الإيماني يمضي في سبيل هويته الإيمانية حسينيا محمديا إسلاميا، وكيف لا والسيد القائد انتهى إلى القول في خطابه الكربلائي العام الماضي:

– بأن الإمام الحسين عليه السلام: “حدّد لنا في كل مراحلِ التاريخ الموقفَ الشرعي، والموقفَ المسؤولَ، والموقفَ المبدئيَّ، والموقفَ الأخلاقيَّ حينما نواجِهُ حالة من تلك الحالات التي فُرِضَتْ عليه أن يتحمّل مسؤوليته وأن يتحرّك تحرُّكَه”.

– وأن مثلَ يزيد وابن زائد، ومعاوية وابن سلمان، وكل ذلك النوع من الحكام المتسلِّطين والجبابرة الطغاة “لا يجوز للأمة أن تسكُتَ عنهم، ولا أن تُحَكِّمَهم في رقابها وفي مقدّراتها، ولا أن تُذْعِنَ لهم وتستكينَ لهم ليمارسوا بها وفيها هوايتَهم من الظلم والجبروت والطغيان والعبث والنهب والسلب، فيعبثوا بالأمة ويحوّلوا حياتها إلى جحيم”.

-وأن خيار المواجهة ورفض الذلة هو الخيار الرابح، والمنتصر، وهو الخيار الأقل خسارة حتى بمقاييس الدنيا.

قد يعجبك ايضا