الإمام الحسين.. والشرعية التي قتلته وأطفالَ اليمن
|| مقالات || حمود عبدالله الأهنومي
احتشدت جهودُ وعواملُ وعناصر وظروف كثيرة لتصنع من (يزيد بن معاوية) أميرا للمؤمنين، بشرعيةٍ زعموا أن جزاءَ من خالفها واعترض عليها القتلُ، والإبادة، والنهب والسلب، وانتهاك الأعراض، وسبي النساء؛ وعليه فإِنَّ شرعيته المزعومة تلك سوّغت كل تلك الجرائم التي وقعت منه ومن جيوشه في العراق والحجاز.
في 2009م أثناء دراستي الماجستير في جامعة صنعاء، تجادلْتُ مع أحد أساتذة قسم التأريخ بجامعة صنعاء، حول أحقية ثورة الإمام الحسين، ولما ألقمْتُه حجر الحجة والدليل، قال لي بالحرف الواحد: “لو كنتُ مكان يزيد لقتلْتُ الحسين، ولنفّذْتُ كُلّ ما قام به يزيد من قتلٍ وقمعٍ”، فقلت له: “وبما أنك كذلك فإنك أنت مَنْ تنتظر أن تكون (سيد شباب أهل الجنة) لا الحسين، أما الحسين فبحسب منطقك هذا فيجب أن يذهب إلى الجحيم، أَوْ في أقل الأحوال أن لا يكون سيدا في الجنة”، فلم يحِر ذلك الدكتور جوابا.
ليس غريبا أبدا أن تكون هناك طائفةٌ كبيرة من حَمَلة الشهادات الأكاديمية والعلمية تُخَنْدِق اليوم في صف العدوان السعودي الأمريكي الإماراتي ضد شعبها تحت ذريعة محاربة الانقلاب على شرعية (الدنبوع)؛ لأنها ظلت تتغذّى وتنشر وتبارِك الثقافة اليزيدية وشرعيته التي استمرأت قتل الحسين وأهلِ بيته وجمعٍ كبير من الصحابة والتابعين، وأبناء الأنصار والمهاجرين في مكة والمدينة، وقصف الكعبة، ونهب المدن، وانتهاك المحرمات، وقتل الأطفال، وسبي النساء؛ بذريعة خروج أولئك الثوار على شرعية (يزيد) المصنوعة إفكا وزورا، كما صُنِعَت شرعية (الدنبوع) تَمَاماً.
ما أشبهَ شرعية (الدنبوع) الليلة ببارحة شرعية (يزيد) وهي تقتل الأطفال والنساء وتهتك الأعراض، وتوغل في الجريمة باسم الدفاع عن الشرعية المزيفة.
في كتب الرجال من المحدِّثين لم يكن يزيد لديهم أهلا حتى لرواية الحديث، وقال فيه ابن حجر العسقلاني: «مقدوحٌ في عدالته، وليس بأهلٍ أن يُروَى عنه»، وقال أحمد بن حنبل: «لا ينبغي أن يُرْوَى عنه».
ولما أراد معاوية أخْذَ البيعة له استشار زيادا ابن أبيه في ذلك، فقال له: «فما يقول الناس إذا دعوناهم إلى بيعة يزيد، وهو يلعب بالكلاب والقرود، ويلبس المصبغ، ويُدْمِنُ الشرابَ، ويمشي على الدفوف، وبحضرتهم الحسين…، ولكن تأمُرُه يتخلّقُ بأَخْــلَاقِ هؤلاء حولا أَوْ حولين فعسينا أن نموِّهَ على الناس…».
ومن أجل إنجاح هذه المهمة سجّلت المصادرُ التأريخية في حوادث سنة (50هـ/670م) غزوَ يزيد أرضَ الروم، كما تكبّد عناءَ السفر الطويل من الشام إلى الأراضي المقدّسة ليقيمَ الحج آخرَ تلك السنة، وكان ميدانُ الغزوِ للكفار والحج بالمسلمين جزءًا من عملية التلميع والتسويق لهذا الخليفة الشرعي القادم.
في عام 50هـ استدعى معاوية أعيان الأمصار إلى مؤتمر بيعة يزيد، ورتّب في كواليس ذلك المؤتمر مع علماء بلاطه بأن يخطبوا في محبّتهم لتولية يزيد وليا للعهد، حتى لا تفترق الأُمَّــة، وأنهم رأوه «حسَنَ المذهب وميمونَ النقيبة، وأنه قسم اللهُ له المحبة في المسلمين، والشَّبَه بـ(أمير المؤمنين)، أبيه، في عقله وسياسته وشيمته المرضية، وأنهم قد عرفوا صدقَ لسانِه ووفائه وحسنَ بلائه».
في ذلك المؤتمر تبارى القومُ في ترصيع أحسن الكلام، ونسج أجمل الصفات للمدعوّ إلى بيعته، وأظهر بعضهم براعة فائقة في التزلف والملق، فقال أحدُهم لمعاوية: «أنت أمير المؤمنين، فإن هلكْتَ فيزيدُ بعدك، فمن أبى فهذا، وسلّ سيفه»، فقال له معاوية: «أنت سيد الخطباء».
وجاء أحدُهم إلى معاوية فقال: «يا أمير المؤمنين، إعلم أنك لو لم تُوَلِّ يزيد أمور المسلمين لأضعْتَها»، والأحنفُ بن قيس جالسٌ ساكت، فلما خرج الأحنف لقيَه الرجلُ بالباب، فقال له: يا أبا بحر إني لأعلم أن شرَّ من خَلَقَ الله هذا وابنُه، ولكنهم قد استوثقوا من هذه الأموال بالأبواب والأقفال، فلسنا نطمع في استخراجها إلا بما سمعْتَ، فقال الأحنف: “يا هذا أمسِكْ عليك، فإِنَّ ذا الوجهين خليقٌ ألا يكون عند الله وجيهاً”.
وتنتابني سخرية شديدة لذلك الوفد الذي أرسله المغيرةُ بنُ شعبة من أهل الكوفة إلى معاوية يُعْلِمونه أنهم قد رضوا ابنَ أمير المؤمنين علَمًا لهم من بعده، فتندَّر معاوية على ذلك الإخلاص الشديد منهم، وسأل زعيمَ الوفد (ابن المغيرة) قائلا له: بكم اشترى أبوك من هؤلاء دينَهم؟ قال: بأربع مئة دينار.
من جهة أُخْــرَى نفذت السلطة الأموية عددا من الاغتيالات السياسية، ومنها اغتيال عبدالرحمن بن خالد بن الوليد سنة (46هـ/666م)، لما استشار معاوية أهل الشام من يولّيه عليهم بعده، فأشاروا بعبدِالرحمن بن خالد، لكن ابن خالد هذا سرعان ما تخطّفه الموت، على يد طبيب نصراني أوعزت السلطة إليه بسمه، كما سُمَّ من قبله سعد بن أبي وقاص، بل كان الاغتيال بالسم أحدَ طرق تلك السلطة لتصفية خصومها، بدءا من الأشتر النخعي سنة (38هـ/658م)، بل وحتى أم المؤمنين عائشة هي الأُخْــرَى شكَّتْ في اغتيال معاوية لأخيها عبدالرحمن بن أبي بكر سنة (53هـ/672م) بعد موقفِه المتصلِّب ضد ولاية العهد ليزيد.
ومن لم تنفع معه سياسة شراء الذمم، استُخْدِمت معه سياسة التهديد والقتل، وكانت سياسة ولاة الأمصار آنذاك أخذ البريء بسبب قريبِه المعارِض، كما يظهر ذلك من خطبة زياد المشهورة بالبتراء غداة قدومه البصرة سنة (44هـ/664م)، والتي كان لها أثرُها الفاعل في توطيد الخوف والرعب من سلطاته؛ قال فيها: «وإني أقسِم بالله لآخذَنَّ الوليّ بالمولى، والمُقيمَ بالظاعن، والمُقبِل بالمدبر، والمطيعَ بالعاصي، والصحيحَ منكم في نفسه بالسقيم»، ولما أعلن حالة الطوارئ ومنْعَ التجوالِ الليلي، أمر صاحبَ شرطته أن يسير ولا يلقينَّ أحدا إلا أتى برأسه، فصبّح على باب القصر 700 رأس في تلك الليلة، كلهم لا يعلمون بهذه الأوامر، ثم خرج في الليلة الثانية فجاء بخمسين رأسا، ثم خرج في الليلة الثالثة فجاء برأسٍ واحد، ثم لم يجئْ بعدها بشيء.
واعتبر الشيخ محمد الغزالي مبايعة يزيد التواءً برسالة الله، وتسويدا للصعاليك، نتجت عن سوءِ تقدير المعاصرين لذلك الحدث الخطير، وقال: “ولو أن المسلمين الفضلاء الذين عاصروا هذه الأحداث الهائلة قدّروا فداحة النتائج التي تمخَّضت عنها، ولحقت بصميم الإسْــلَام من جرائها – لسفكوا دماءهم في الحيلولة دون وقوعها، ولكنهم ظنوها فلتة متداركة”، وكان قد رأى أن يزيد “شابٌّ خليع لا يصلح أن يليَ أمر مدرسة ابتدائية”.
تلك هي الحالة التي صُنِعَت على عينها (شرعية) يزيد القرود والخمور، والتي كان من الطبيعي في ظلها أنه إذا أبدى أحدٌ رأيا مخالفا لما يريده الوالي لاسيما في ما يتعلق بالخلافة ـ فإِنَّ التهم الجاهزة من قبيل (الطعن على السلطان) و(خلاف ولي الأمر) ستكون موجّهة إليه.
لقد صوّر حالة الناس يومذاك الشاعرُ العربي المعاصر عبدُالرحمن السلولي، إذ قال:
فإن تأتوا بـ(رملةَ) أَوْ بـ(هندٍ) عامر
نبايعها أميرة مؤمنينا
إذا ما مات كسرى قام كسرى
نعدُّ ثلاثةً متناسقينا
تَمَاماً كالظروف والعوامل التي فصّلت قميص شرعية (الدنبوع)، وهل تركت أدوات السعودية التي هي أداة أمريكية في الأصل خيارا للشعب، غير (رملةِ الدنبوع) أَوْ (هندِه)؟!
كلا.. فقد فصّل قميصَها الأمريكيون وعملاؤهم في المنطقة، بالتفريعِ على ما يسمى بالمبادرة الخليجية، والتي كان أهم أهدافها مواجهة ثورة الشعب اليمني ضد الظلم والطغيان، والتي أشعل فتيلها حسين العصر الشهيد القائد في مران في 2004م، ثم جيء به بانتخاباتٍ صورية وهزلية، مرشحها لا شريك له، ثم كانت لمدة سنتين وانتهت زمنيا، ثم انتهت حجيتها المعنوية باستقالته على فرض وجود حجة لها فرضا بعيداً، ثم انتهت بخيانته للبلاد، ورهن قرارها بيد الأعداء، واستدعائهم لقصف اليمن، وتدميره وتدمير مقدراته، واحتلاله، وقتل رجاله وأطفاله ونسائه، واغتصاب أرضه وأعراض نسائه، وكل ذلك يسقط ألفَ شرعيةٍ وشرعية.
وبهذا يتبين:
– أن الطغاة لن يعدموا علة يتعللون بها، وأن شرعية الدنبوع هي تَمَاماً مثل شرعية يزيد، أريد من التعلق والتعلل بها ارتكاب الجرائم، ومعاقبة الشعوب، وتبرير الفظائع.
-وأنه ليس غريبا من كثير من حمَلة الشهادات العلمية أن كانوا في صف العدوان؛ ذلك أن ثقافتهم وتربيتهم وقيمهم قيمٌ مادية يزيدية ميكافيللية، لا تنتمي لهوية الإسْــلَام، ولا للإنْسَان.
– وأن علماء ذلك البلاط الأموي يذكّروننا إلى حَدٍّ كبير بهؤلاء الناعقين في القنوات الفضائية من أصحاب اللحى الحمراء، وهم يجيزون قتل الأطفال والنساء، ويحللون كل المحرمات، بذريعة تلك الشرعية المزعومة، وكثير منهم يوقن في نفسه أن (الدنبوع) لا يصلح لولاية نفسه، فكيف بولاية شعب كاليمن، وهو الذي لا يجيد قراءة آية من كتاب الله، أَوْ حتى عبارة واحدة من كلام العرب، ولكن نزولاً عند مقتضيات المال والنفوذ السعودي الأمريكي لاتخاذه قميصَ عثمان في ضرب الثورة الشعبية التحررية.
-وأن خيارنا كشعب مؤمن ومجاهد أن نكون حسينيين، وكما قال السيد القائد في خطاب عاشوراء 1439هـ فهو: “خيار مسؤول بكل ما تعنيه الكلمة، خيار مبدئي، خيار محقّ، وخيار واعٍ؛ لأنَّ البديل عنه أن نكون ضحية للطغاة والمستكبرين، وأن نكون مسؤولين حين إرخاص أنفسنا، وحين استسلامنا لقُوى الطاغوت المستكبِرة، لتعبث بنا”، وأن “هذا من الدروس المهمة، وهي كثيرة جداً” من دروس ثورة عاشوراء.