ثورة وطنية ضد الاستعمار والتجزئة

|| مقالات || أحمد الحبيشي

تحتفلُ بلادُنا بالعيد الخامس والخمسين لثورة 14 أكتوبر المجيدة التي انطلقت من جبال ردفان الشماء عام 1963م، وأشعلت شرارةَ الكفاح الشعبيّ المسلح ضد الاستعمار البريطاني الغاصب في الشطر الجنوبي المحتلّ من الوطن اليمني الواحد..

وقد جاءت هذه الثورةُ العظيمةُ امتداداً لنضالِ الحركة الوطنية اليمنية المعاصِرة في القرن العشرين المنصرم ضد الاستعمار العُثماني والاستعمار البريطايني والكيانات السلاطينية التي دخلت معه في معاهداتِ صداقة وحماية، بمعنى التعاون مع قُــوَّات الاحتلال مقابل حماية عروشها من المقاومة الوطنية..

كما جاءت الثورةُ كنتاجٍ موضوعيٍّ لقيام المملكة المتوكلية اليمنية، وهي أولُ دولة حملت الهُوية اليمنية بعد أن دكت معاقل الاستعمار العُثماني، وفتحت الطريقَ أمام تطوّر نضال شعبنا من أجل الحرية والاستقلال وبناء الدولة الوطنية.

لقد كان لثورة 14 أكتوبر المجيدة أثرٌ عظيمٌ وتأريخي في دعم ثورة السادس والعشرين من سبتمبر وتعزيز مسيرتها الكفاحية الصاعدة.. فهي من جِهة نقلت المواجهةَ بين الثورة وأعدائها من أطراف النظام الجمهوري الذي أقامته ثورة 26 سبتمبر، إلى داخل الشطر الجنوبي الذي كان مستعمراً ومحتلّاً آنذاك.. ولا زلنا نتذكرُ الجبهاتِ الرجعية المعادية التي فتحها الاستعمار البريطاني لمواجهة الثورة والنظام الجمهوري في أطراف بعضِ المناطق الجنوبية والشرقية التي كانت تحكُمُها سلطناتٌ وإماراتٌ محمية من قبل الاستعمارِ البريطاني.

وقد أَدَّى انطلاقُ ثورة 14 أكتوبر إلى فتح العديد من جبهات الكفاح الشعبيّ المسلح ضد الاستعمار وركائزه في الجنوب اليمني المحتلّ، الأمرُ الذي أسهم في تعظيم مفاعيل الكفاح الوطني على طريق تحقيق الأَهْــدَاف الاستراتيجية للثورة اليمنية، ومن بينها التحرّر من الاستعمار وتحقيق وَحدة الوطن وبناء المجتمع الديمقراطي.

وكما تعمَّدَ نضالُ شعبنا ضد الاستبداد ومن أجل الدفاع عن الثورة والنظام الجمهوري بالتضحيات وبدماء الشهداء الأبرار، فقد تعمد نضالُ شعبنا ضد الاستعمار ومن أجل استكمال الاستقلال الوطني والوحدة بالدماء والتضحيات الغالية التي لا يمكن تجاهلها أَوْ التنكر لها.

 

سقوطُ الهُويات الملفَّقة

بانتصار ثورة 14 أكتوبر المجيدة، تمّ تحريرُ الوطن من دنس المستعمرين، وإنْهَاء الكيانات الانفصالية التي بلغ عددُها 22 سلطنة وإمارة ودويلة، وصولا ً إلى توحيدها في إطار كيان شطري واحد ومؤقت حمل اسم اليمن عقب رحيل آخر جندي بريطاني بعد غروب الشمس في يوم الاثنين الموافق 29 نوفمبر 1967، كخطوة على طريق تحقيق وحدة الوطن اليمني ارضا ً وشعبا ً، حيث تم إعلان قيام جمهورية اليمن الجنوبية الشعبيّة وهي ثاني دولة وطنية تحمل اسم اليمن، حيث أُعيدت الهُويّة الوطنية اليمنية للشطر الجنوبي الذي كان محتلّاً ثم أصبح حراً بفضل انتصار ثورة 14 أكتوبر.. وكان ذلك مقدمة لاستكمال تحقيق أَهْــدَاف ثورتَي 26 سبتمبر وَ14 أكتوبر في الوحدة والديمقراطية، حيثُ تم رفعُ علَمِ الجمهورية اليمنية الموحدة في مدينة عدن يوم 22 مايو 1990م.

والثابتُ أن الوطنَ اليمنيَّ استعاد وجهَه الشرعي الواحد، بقيام الجمهورية اليمنية التي دمجت دولتين شطريتين كانت كُـلّ واحدةٍ منها ابناً شرعياً لكلٍّ من ثورتَي 26 سبتمبر وَ14 أكتوبر.

بَيْدَ أن يومَ الثاني والعشرين من مايو 1990 لم يكتسب أهـميّتَه الوطنية من كونه اليوم الذي أنهى فيه شعبُنا واقعَ التشطير الجغرافي والسياسيّ الذي انقسمت البلاد في ظله إلى دولتين ونظامين، بل أنّه بالإضَافَـة إلى ذلك جاء تتويجاً لنضال طويل خاضته الحركةُ الوطنية اليمنية المعاصرة، من أجل استعادة حرية الوطن والإنْسَــان، والقضاء على كُـلّ القيود التي تحول دون تطوره الحر والمستقل.

بهذا المعنى يمكنُ القولُ: إنّ يوم 22 مايو المجيد 1990م كان ثمرةً لمسيرة كفاحية طويلة، تعمّدت بالدماء والتضحيات الغالية، في سبيلِ انتصار مبادئ وأفكار الحرية والاستقلال والتقدم والوحدة.. وما كان لهذا الإنجاز الوحدوي الوطني العظيم أن يتحقّـق بالوسائل السلمية والديمقراطية، لكن هذا الإنجاز الوطني الكبير تعرض لنكسةٍ بعد حرب 1994 ووحدة 7/7 التي وضعت البلاد بأسرها تحت سيطرة الأوليغارشيات العسكريّة والإقطاعية والعائلية التي استولت على السلطة والثروة والجمهورية والوحدة، قبل ثورة 21 سبتمبر التي حرّرت البلاد من الوصاية والتبعية ونهب المال العام.

 

عدن مدينةُ المعارك الكبرى

لم يكن صدفةً أن تشهَدَ مدينةُ عدن التوقيعَ على اتِّـفَاق 30 نوفمبر 1989م الوحدوي التأريخي بين قيادتَي الشطرَين سابقاً، وأن تشهد هذه المدينة الباسلة رفع علَم دولة الوحدة في لحظة تأريخية مهيبة من صباح يوم 22 مايو 1990م الذي قامت فيه الجمهورية اليمنية الموحدة.. فقد كانت مدينة عدن ميداناً لأعظم المعارك السياسيّة والفكرية والثقافية التي تصدى من خلالها اليمنيون، لمختلف المشاريع والمُخَطّـطات الاستعمارية الرامية إلى تكريس التجزئة وطمس الهُوية اليمنية وتلفيق هُويات بديلة ومناطقية وانعزالية تحت مسمّيات مختلفة أبرزها (الجنوب العربي)!!!

على أرض مدينة عدن تجسّدت وحدة الكفاح الوطني، حيثُ أثمرت هذه الوحدةُ الكفاحية ثقافةً وطنيةً وقومية وإسْــلَامية تحرّرية، أسهم في تشكيلها الرواد الأوائل من قادة العمل الوطني والنقابات العمالية والمثقفون والصحافيون والأدباء والفنانون، الذين رفعوا عالياً أفكار ومبادئ الحرية والاستقلال والوحدة وتعرضوا في سبيلها لمختلف أشكال القمع والاعتقال والاضطهاد والنفي.

كانت معركة الهُويّة أولى المعارك التي اجترح الوطنيون الأوائل مآثر كفاحية على محرابها.. فقد أصر الوطنيون اليمنيون على التمسّك بالهُوية اليمنية للجنوب المحتلّ، والتصدّي لكل المشاريع الاستعمارية والسلاطينية التي استهدفت فصله عن الكيان الوطني اليمني التأريخي الواحد، وتجزئته إلى 22 سلطنة وإمارة منضوية في أربعة كيانات انفصالية يحتفظ كُـلٌّ منها بعلم خاص وجوازات وحدود وجمارك وقُــوَّات مسلحة خَاصَّــة بها!!!.

كما قاوم الوطنيون اليمنيون بجسارة وثبات محاولات إضفاء هُويّة مستقلة على كُـلّ واحد من هذه الكيانات الانفصالية، حيث حمل الكيان الأول اسم (اتّحاد الجنوب العربي)، وحمل الكيان الثاني اسم (سلطنة حضرموت الكثيري) وحمل الكيان الثالث اسم (سلطنة حضرموت القعيطي) فيما حمل الكيان الرابع اسم سلطنة المهرة وسقطرى)!!!

والثابتُ أنّ الاستراتيجيةَ الاستعمارية عملت – في بادئ الأمر – على تكريس تجزئة الجنوب اليمني المحتلّ، إلى أَكْثَــرَ من 22 سلطنةً وإمارة، وربط هذه السلطنات والإمارات بالإدَارَة الاستعمارية، من خلال ما كانت تسمى بمعاهدات الحماية والصداقة مع وحكومة بريطانيا، كما حرصت على تحويل هذه الكيانات السلاطينية إلى دويلات لكلٍّ منها هياكلُها الإدارية والجمركية والأمنية بالإضَافَـة إلى حدودها المستقلة عن الأُخْــرَى!!

بعد نشوء الحركة الوطنية المعاصرة وتبلور أَهْــدَافها الوطنية، والتحرّر من الاستعمار والكيانات الانفصالية المرتبطة به في جنوب الوطن، وصولا ً إلى تحقيق الوحدة اليمنية، قام الاستعمار البريطاني في نهاية الخمسينيات بتسويق مشروع اتّحاد إمارات الجنوب العربي، الذي ضم سلطنات وإمارات ما كانت تسمى بالمحميات الغربية وولاية عدن، بالإضَافَـة إلى تسويق مشروع آخر لإقامة اتّحاد بين المحميات الشرقية التي كانت تضم سلطنات حضرموت القعيطي والكثيري والمهرة وسقطرى.

وسيسجل التأريخ بأحرفٍ من نورٍ للطلائع الوطنية في مدينة عدن وكل مناطق الجنوب اليمني المحتلّ آنذاك مقاومتها الباسلة لتلك المشاريع التي استهدفت تجزئة الجنوب إلى بضعة كيانات انفصالية وإضفاء هُويّة خَاصَّــة منها.. وقد تصدى شعبُنا وحركتُه الوطنية لهذا المُخَطّـطِ الاستعماري بوسائل مختلفة، كالإضرابات العمالية والمظاهرات الشعبيّة والاعتصامات والشعارات والأغاني الشعبيّة والقصائد والملصقات، فيما تعرضت رموزه الوطنية للفصل من الوظائف الحكومية والاعتقال والمحاكمات الصورية والنفي، وغير ذلك من أشكال القمع والملاحقة..

واستمرت هذه المواجهة منذ بدء تسويق هذه المشاريع في نهاية الخمسينيات من القرن العشرين المنصرم، وحتى يوم الزحف الشعبيّ الكبير على المجلس التشريعي بتأريخ 24 سبتمبر 1962م، حيث تحوّلت مدينة عدن إلى ساحةٍ ملتهبة لمعارك شرسة بين المتظاهرين والقُــوَّات الاستعمارية التي أطلقت الرصاص عليهم، ما أَدَّى إلى سقوط عددٍ من الشهداء والجرحى، والزج بمئات المناضلين في غياهب المعتقلات؛ بسببِ تصديهم لمشروع سلب الهُويّة الوطنية اليمنية عن الجنوب المحتلّ، وتلفيق هُويّات بديلة ومناطقية على كياناته المجزأة!!

شاء التأريخ أن يضمد جراح مدينة عدن بعد يومين من تلك الأحداث الدامية، بانفجار ثورة 26 سبتمبر 1962م في صنعاء، وقيام أول جمهورية في شبه الجزيرة العربية.. ومنذ ذلك اليوم دخلت الحركة الوطنية اليمنية منعطفاً تأريخياً جديداً، حيث التزمت الثورة ونظامها الجمهوري الفتي بدعم نضال شعبنا في الجنوب اليمني المحتلّ، من أجل التحرّر الوطني والوحدة، وخُصّصت حقيبة وزارية لشؤون الجنوب المحتلّ في أول حكومة وطنية تم تشكيلُها في صنعاء بعد قيام الجمهورية؛ تجسيداً لوحدة الأرض والشعب.

ولئن تعرضت ثورة 26 سبتمبر ونظامُها الجمهوري لخطر التآمر الداخلي والخارجي من قبل النظام السعوديّ، فقد كان الدفاعُ عنها مرحلةً جديدةً من مراحل الكفاح الوطني تجسّدت فيها وحدةُ الثوريين اليمنيين شمالاً جنوباً، حيث تعمّدت هذه الوحدة بدماء الشهداء من مختلف مناطق اليمن دفاعاً عن الثورة والجمهورية.

 

رمالٌ متحَـرُّكةٌ وعواصفُ عاتية

صحيحٌ أنّ طريقَ استكمال وحدة الوطن اليمني تعرَّضَ لكثيرٍ من العوائق والرمال المتحَـرُّكة بعد استقلال الشطر الجنوبي من اليمن، وحدوث عواصفَ عاتية في الشطر الشمالي.. بيد أنّ قضيةَ توحيد الوطن أرضاً وشعباً ظلت عنوانَ العَلاقة بين حكومتي الشطرين، وخَاصَّــةً منذ وصول الرئيس الشهيد إبراهيم الحمدي إلى قمة السلطة في الشطر الشمالي من الوطن عام 1974م، حيث شهدت البلادُ نمواً متسارعاً للعمل الوحدوي السلمي بين القيادتين السياسيّتين، فيما تزايد دور منظّـمات المجتمع المدني وفي مقدمتها اتّحاد الأدباء والكُتّاب اليمنيين الذي كان أول مؤسّسة وحدوية تجاوزت واقعَ التجزئة، وجسّدت مشاركة المبدعين والمثقفين في تعظيم دور الثقافة الوطنية كرافعة قوية لمشروع الوحدة.

وبفضل استعادة الوطن وجهَه الشرعي الواحد، تمكّن شعبُنا من استيعاب صدمة المتغيرات ودهشة التحوّلات.. وأصبح مسار الوحدة أَكْثَــرَ قدرة على مواجهة العواصف العاتية وتجاوز المنعطفات الحادة وتضميد الجراح.

منذ ذلك اليوم ــ الذي لا يمكن فصله عن زمن الثورة اليمنية (26 سبتمبر ــ 14 أكتوبر ــ 21 سبتمبر)، جرت مياهٌ كثيرةٌ على نهر الوَحدة والديمقراطية.. وشهد العالمُ متغيراتٍ عاصفة ورياحاً عاتية أدّت إلى تبديلِ خرائطَ وسقوط نُظُم، واختفاء دول، واندلاع حروب داخلية وخارجية كان ولا يزالُ نصيبُ اليمن منها كبيراً.

قد يعجبك ايضا