المواجهة الاميركية – الاوروبية.. قراءة استراتيجية لعناصر الاشتباك
|| مقالات || شارل ابي نادر
لا شك أن هناك توتراً واضحاً في العلاقة بين الولايات المتحدة الاميركية وأغلب دول الاتحاد الاوروبي، خاصة بين قائدتي هذا الاتحاد: المانيا وفرنسا. هذا التوتر يمكن إكتشافه في عدة ملفات مشتركة بين الطرفين، أو في ملفات بعيدة عن الطابع الاميركي – الاوروبي الصرف، كملف ايران والاتفاق النووي معها وتداعياته على العلاقة، وملف سوريا والأكراد و”داعش” المنهزم، والدور أو النفوذ التركي فيه.
انطلاقاً من هذا التوتر الأميركي – الأوروبي، الذي يظهر على شكل مواجهة مباشرة أو غير مباشرة، ما هي عناصر المناورة التي يعتمدها كل من الطرفين في هذا الصراع؟
أولاً: النقطة الأهم في هذا الصراع، التي ظهرت مؤخراً، تتعلق بالتباين القوي أو الخلاف الكامل حول الملف الايراني، لناحية الاتفاق النووي وانسحاب الاميركيين لوحدهم دون الاوروبيين منه، ولناحية عدم مجاراة هؤلاء لواشنطن في العقوبات وفي الضغوط الاقتصادية والدبلوماسية على طهران.
في الوقت الذي يطلب الأميركيون من الاتحاد الاوروبي مشاركتهم الضغط على ايران، في العقوبات وفي مجالات واسعة أخرى، يرفض ذلك الاتحاد معتبراً أن هذه المشاركة تعتبر وكأنها بمثابة العقوبات عليها، حيث ان وقف التزاماتها الاقتصادية واتفاقاتها وعقودها مع طهران، صحيح أنه يحرم الأخيرة من مصادر مالية مهمة، وقد يقيد حركتها وعلاقاتها مع دول وأحزاب مناهضة للسياسة الاميركية في المنطقة، لكن ذلك يضرب اقتصاد الدول الاوروبية بشكل قاسٍ، وخاصة أن أسواقها بدأت تضيق، بسبب الأميركيين وحربهم الشعواء على المنتجات الاوروبية عبر الرسوم الجمركية، أو بسبب الصينيين ومنافستهم الكاسحة للاسواق عبر أسعارهم المعقولة وجودة بضائعهم.
من ناحية أخرى، يعتبر الأوروبيون، وهذا واقعي وصحيح، أن ايران قد شكلت بعد سريان مفاعيل الاتفاق النووي معها، السوق الأوسع والأنجح لهم، ومن غير المنطقي أو العادل أن تقوم هذه الدول بأي إجراء ضد ايران يسبب اقفال هذا السوق الاساسي والضروري لها، كما ان الولايات المتحدة الاميركية لا يمكن أن تطالب هذه الدول أن تكون تابعة لها، متخلية عن تعهداتها الدولية الملزمة لها قانونا، خدمة لمناورة أميركية غير واضحة المعالم.
الرد الأميركي على الدول الاوروبية – على خلفية الخلاف حول ايران – جاء في مكان آخر لم يتوقعه أحد من تلك الدول، وذلك عبر انسحاب واشنطن من معاهدة خفض الصواريخ القصيرة والمتوسطة المدى، والذي نتج عنه مباشرة انسحاب روسيا من المعاهدة، الأمر الذي أسس لسباق تسلح جديد ولحرب باردة مرتقبة، ستكون الساحة الأوروبية المستهدف الأول منها.
مفاعيل هذا الرد الأميركي تمثلت في نقطتين، حددها الأميركيون بشكل واضح في مؤتمر ميونيخ الأخير للأمن، والذي عُقِدَ على خلفية انسحاب الروس والاميركيين من معاهدة الصواريخ وهي: رفع نسبة التمويل الاوروبي لميزانية حلف الناتو (حلف شمال الاطلسي)، والسير مع واشنطن في الانسحاب من الاتفاق النووي مع ايران والمشاركة في إجراءات معاقبتها، والنقطتان تمسان وتستهدفان الامن الاقتصادي والاجتماعي الاوروبي بشكل حساس ومؤلم.
ثانيا: النقطة الأخطر في الصراع، التي ظهرت أيضاً مؤخراً، وبشكل متزامن تقريباً مع الموضوع الايراني، وهي مصير عناصر “داعش” من أصحاب الجنسية الأوروبية، الذين كانوا ينتشرون في آخر نقطة ميدانية عسكرية للتنظيم في شرق الفرات، أو الذين أوقفوا مع قوات سوريا الديمقراطية أو مع قوات التحالف، خلال الاشتباكات السابقة مع التنظيم.
عناصر الخلاف بين الأميركيين والاوروبيين في هذا الموضوع المتعلق بـ”داعش”، تتمثل في الضغط الأميركي على الدول الاوروبية لاستعادة مواطنيها من “داعش” الموقوفين، والاّ (تهديد اميركي صريح) إطلاق سراحهم مع احتمال عودتهم الى اوروبا بشكل عشوائي، مع ما يمثلونه من أخطار أمنية غير محسوبة داخل المجتمعات الاوروبية، وحيث يُعتبر (موضوع عودة الدواعش الى اوروبا) خياراً مرّاً، تخشاه أغلب دول الاتحاد، وتحاول واشنطن ابتزازهم من خلاله.
هذه الورقة التي تستخدمها واشنطن، تخفي مناورة تتعلق بالضغط على الدول الاوروبية لتشكيل تحالف اوروبي – غربي لا يشترك فيه الاميركيون طبعاً، ليكون بديلاً لوحداتهم التي ستكمل انسحابها قريباً من سوريا، ومن شرق الفرات بالتحديد.
بالنسبة للاوروبيين، فإن هذا التحالف (الاوروبي) يُشَكِّل الحل الأنسب، من جهة لابقاء عناصر “داعش” الموقوفين تحت عهدته في سوريا، ومن جهة أخرى لحماية الأكراد المهددين من الدخول التركي، وهذا التحالف (المطلوب أميركيا) ما زالت دول الاتحاد تبحث أبعاده وتأثيراته وتداعياته فيما لو وافقوا على تشكيله، وامكانية الخلاف مع روسيا حوله.
من ناحية أخرى، يضغط الأميركيون لإنشاء هذا التحالف الاوروبي في شرق سوريا، لأنهم يريدونه مخرجاً لإبعاد السلطة السورية عن شرقها، حيث قد يقتنع الأكراد بها مرغمين، وفي نفس الوقت للايحاء لحلفائهم الاكراد الذين ربما لمسوا واقتنعوا بالتخلي الاميريكي عنهم، بأنهم ساعدوهم من خلال خلق تحالف أوروبي لحمايتهم من تركيا بعد الانسحاب الاميركي من سوريا.
وأخيرا، لا شك أن هناك أسئلة مهمة وحساسة، من المنتظر أن تتوضح الاجابة عنها قريباً وهي، أولاً: كيف ستنتهي المواجهة الاميركية ـ الاوروبية حول الملف الايراني؟ وثانياً: هل يكون الاوروبيون بديلاً للأميركيين في الشرق السوري؟ أم أن الحل سيكون، إمَّا بدخول الدولة السورية وانتشارها على كامل جغرافيتها، وإما بسلوك التسوية التركية مع روسيا واعادة تفعيل اتفاق أضنة، والذي سينتج عنه توزيع الانتشار العسكري بين الجيش العربي السوري والوحدات التركية؟.