تل أبيب بعد «صاروخَي الفجر»: تواضع الرد وضيق الخيارات
|| صحافة عربية ودولية ||
قد يرى البعض أن من الصعب تقدير أسباب إطلاق الصاروخين الفلسطينيين على تل أبيب، وإن كانت نتيجة الإطلاق مفهومة وواضحة لناحية التأثير إيجاباً على الجانب الفلسطيني، الذي كان يدير مفاوضات غير مباشرة مع الإسرائيلي بواسطة الجانب المصري، لتخفيف الحصار عن غزة.
والقصف الذي جاء بلا جدال مفاجئاً لإسرائيل، أعلنت الفصائل الفلسطينية عدم مسؤوليتها عنه، بل حُملت على إدانته، فبات القاصف مجهولاً والمقصوف معلوماً، وما بينهما توجه إسرائيلي إلى احتواء الموقف والامتناع عن التصعيد، مع إعادة تقويم المعطيات حول الموقف الفلسطيني، ومكامن الخطأ في تقدير حدود امتناعه الفعلي عن المواجهة.
من إيجابيات القصف كنتيجة، بما يشمل مستوى رد فعل إسرائيل في أعقابه، أنه عرّى حقيقة ما أفرطت تل أبيب في التهديد به أخيراً، وتصريحها المتكرر عن أنها لن تتوانى عن المواجهة الشاملة مع غزة، بوجود انتخابات أو من دونها، إن تجاوز الفلسطينيون سقف توقعاتها، وعمدوا إلى التصعيد الأمني لتحقيق مطالبهم.
والمفاجأة الإسرائيلية تفسّر أيضاً تذبذب اتهامات إسرائيل وتقديرات جيشها وتعارضها، في أعقاب إطلاق الصاروخين، إلى أن استقرّت أخيراً على رواية «الإطلاق بالخطأ». وهذه، للمفارقة، نسخة مكررة تكاد تكون قاعدة إسرائيلية متبعة عند تلقي كيان الاحتلال ضربات ورسائل بالنار، بحيث لا تكون تل أبيب معنية بالانجرار خلفها والرد عليها لضيق خياراتها، وتحديداً في ما يتعلق بالحرب الشاملة والاجتياح البري، وفي حدّ أدنى في أيام قتالية طويلة.
الاحتلال غير معني بالمبادرة الابتدائية إلى مواجهة فصائل المقاومة في غزة
هذه هي إحدى نتائج حادثة القصف الصاروخي لتل أبيب، وربما أهمها، علماً بأن الحادثة كانت تكفي في ذاتها إسرائيلياً، لو أن الظروف مغايرة مع إرادة مواجهة مبيّتة، لتبرير أي مستوى من الاعتداءات، مهما علت واتسعت. وللدلالة، قصف تل أبيب لا يُقاس، في شكله ومضمونه، بقصف أيّ من مستوطنات غلاف قطاع غزة أو المستوطنات البعيدة عنها، والتي كانت إسرائيل تبادر إلى الرد على استهدافها، حتى لو لم يخلّف ذلك أضراراً، ولو أتى رداً على اعتداءات قامت بها هي ضدّ فلسطينيي القطاع، فكيف الحال في قصف تل أبيب نفسها «بلا مبرر»، ما يعني قياساً بمواقف إسرائيل وأفعالها في السابق، ضرورة المبادرة إلى مواجهة شاملة في أقل تقدير؟
إلا أن رد فعل إسرائيل كان لافتاً و«حكيماً» منذ اللحظة الأولى ـــ رغم المزايدات الداخلية ـــ، وتحديداً من قِبل الجيش، صاحب القرار عملياً في تحديد الرد ومستواه ووجهته. مسارعة المؤسسة الأمنية إلى «تبرئة» «حماس»، بل والحديث أيضاً عن أن الحركة فوجئت بالقصف، ومن ثم الحديث عن القصف بالخطأ، هدف إلى تخفيض سقف التوقعات استباقياً، والحدّ من مواقف التهديد العالية النبرة، والتي من شأنها التأثير على طاولة القرار، في حين أن المصلحة الإسرائيلية ربطاً بالنتائج وأضرارها، هي في الابتعاد عن المواجهة، كما الامتناع عما يتسبب بها.
في حدّ أدنى، صاروخا «الفجر» (النوع الإيراني ذو الدلالات الخاصة)، والرد الإسرائيلي عليهما، أعادا التأكيد عملياً على أن الانتخابات الإسرائيلية مانعة للحرب لا دافعة إليها، وذلك ربطاً بنتائجها المقدّرة وأضرارها على صاحب القرار النهائي في تل أبيب، وهو في هذه الحالة رئيس حكومة العدو بنيامين نتنياهو، بوصفه أيضاً وزيراً للأمن. يعني ذلك أن إسرائيل ليست متوثبة، وهي غير معنية بالمبادرة الابتدائية إلى مواجهة فصائل المقاومة في غزة، كما أن أسباب امتناعها تنسحب أيضاً على المواجهة المبنية على الرد وبسببه. وأي موقف لإسرائيل خلاف ذلك، كان من شأنه دفع صاحب القرار فيها إلى استخدام الحادثة الأخيرة لشن حرب، ومن المستبعد أن تتاح لإسرائيل فرصة تبرير أي عمل عسكري مبادَر إليه، مماثلة لِما أتاحه قصف تل أبيب، من دون أي سبب مباشر يدفع الفلسطينيين إليه.
من المتوقع أن يكون قصف تل أبيب مادة رئيسية في السجال الانتخابي بين المرشحين، إلى حين موعد الصمت الانتخابي قبل إجراء الانتخابات في التاسع من الشهر المقبل. وهي مزايدات ومواقف «حربجية» ما كانت لتُترجم عملياً لو أن أصحاب المزايدات هم أصحاب القرار في تل أبيب. من جهة اليمين، ستكون المزايدة مبنية على تظهير صورة التطرف والإفراط فيها للتمايز عن نتنياهو الذي جاء ردّه «متواضعاً» قياساً بفعل قصف تل أبيب نفسها، أما الهدف فسيكون إزاحة كتلة ناخبة يمينية عن «الليكود»، وإعادة توزيعها على الأحزاب اليمينية الأخرى، والتي من بينها أحزاب في دائرة خطر السقوط كما هو وضع حزب «إسرائيل بيتنا»، برئاسة وزير الأمن السابق، أفيغدور ليبرمان. من ناحية الوسط واليسار، ستكون المزايدة على الأسباب التي أتاحت للفلسطينيين، مع القصف أو من دونه، تحدي إسرائيل ومقارعتها، مع تراجع ردعها. من جهة أحزاب الوسط، ستضع اللوم على سياسات نتنياهو المترددة والفاقدة للخيارات ضد الفلسطينيين، الأمر الذي أوصل إسرائيل إلى وضعية دونية قبالة غزة!
في السياق، كان لافتاً هذه المرة أيضاً فشل منظومة «القبة الحديدية» في اعتراض الصواريخ الفلسطينية، وحماية تل أبيب وغوش دان عموماً. فشلٌ لم يجد تفسيراً في العلن لدى الجيش الإسرائيلي إلا من خلال الحديث عن المبادرة إلى تحقيق. فشل سيكون حاضراً في حسابات الجانب الفلسطيني يوم الأمر، وهو ما سيكون مدعاة قلق إضافي لإسرائيل، في سياق تراكم عوامل القلق تحسّباً لمواجهات شاملة مع أعدائها.