الانتخاباتُ التكميلية في اليمن.. جمهوريةُ الثورة وديمقراطيةُ الشعب
|| مقالات || إبراهيم محمد الهمداني
اتسم نظامُ الحكم في اليمن – منذ القدم – بصبغته الديمقراطية الشوروية، رغم المسمَّى الملكي لمعظم تلك الأنظمة التي حكمت اليمن في التأريخ القديم، مثل مملكة سبأ وحمير ومعين وغيرها، إلَّا أن الحاكم/ الملك لم يكن ليتخذَ القراراتِ بصورةٍ فردية، بل كانت القراراتُ تُعرَضُ على مجلسِ الأقيال، وهم الذين يقرُّون أَو يرفُضون أَو يعدّلون تلك القرارات، ومجلسُ الأقيال هو عبارة عن مجلس كبار مشايخ القبائل اليمنية، الذين تختارُهم قبائلُهم (الشعب) ليمثلوها في النظام الحاكم، وهو يشبهُ إلى حَــدٍّ كبير ما يُعرَفُ عندنا اليوم (مجلس النواب)، وكان لمجلس الأقيال -خَاصَّـةً في عصر الأقيال والملوك- اليدُ الطُّولَى والصلاحياتُ الواسعةُ في معظم شئون الدولة/ المملكة، وحتى في تنصيب الملوك وعزلهم، بوصف الأقيال هم نواب الشعب وممثليه، ونجد مصداقَ ذلك فيما حكاه لنا القُـرْآنُ الكريم عن قصة بلقيس ملكة سبأ لما وصلتها رسالةُ سليمان، حَيْــثُ خاطبت مجلسَ الأقيال ليس فقط من منطلق طلب المشورة، وإنما من منطلق الشراكة السياسيّة في الحكم واتّخاذ القرار، حَيْــثُ قالت: (يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونَ) صدق الله العلي العظيم.
يمكن القول إن تلك السمة التشاورية في الحكم قد سادت معظمَ الأنظمة المتعاقبة عبر التأريخ على تفاوت مستوى حضورها من عصر إلى عصر، وبالوصول إلى العصر الحديث نجدُ أن صيغةَ الحكم قد تبلورت تحت مسمى الديمقراطية، وفق محدّدات وأسسٍ نظرية علمية بحتة، لكن الأنظمةَ التي خلَفت الاستعمارَ الغربي في حكم البلاد العربية، كانت في معظمها حالةً من حالات الاستخلاف الاستعماري المستبد، لكنها ذات صبغة محلية ومسمى جمهوري ديمقراطي، فالحكم فيها قائمٌ على مؤسّسة الرئيس وليس مؤسّسة الرئاسة؛ لأَنَّ الأُولى تجعلُ من منصبِ الرئاسة والدولة والشعب مؤسّسةً خَاصَّـةً يملكُها الرئيس، بينما الثانية لا يعدو الرئيسُ فيها عن كَونه موظفاً يتوجبُ عليه تكريسُ وقته وجهده وكل إمكاناته في خدمة الشعب، ونظراً لعدم تحقق هذا النموذج في تأريخ اليمن السياسيّ، إلاَّ على شكل طفرات تمثلت في الرئيس الشهيد إبراهيم الحمدي والرئيس الشهيد صالح الصمّاد، رحمهما الله، فقد ظلت اليمن -كغيرها من البلدان العربية- تفتقرُ للإدارة الصحيحة، وتعاني من الأزمات والاختلالات الأمنية، والتهديدات الداخلية والخارجية، علاوةً على الاستلاب والتبعية والشعور بدونية الذات وغيرها.
والطريفُ في حال تلك الأنظمة هو تقنعها بمسمى الجمهورية وتدثرها بلباس الديمقراطية، لكنها في الحقيقة جمهورية الملك، وديمقراطية الحاكم المطلق والخيار الأوحد، ولم تكن تلك الانتخابات التي زعموا بها تجسيد الديمقراطية، غير مهزلة واضحة ومناسبة سياسيّة للاستهلاك الإعلامي، تمر عبرها الكثير من المشاريع الإقطاعية، التي تستنزف ثروات الشعب وخيراته وتصادر حقوقه وقراراته.
هدف العدوان الصهيوسعوأمريكي على اليمن، إلى تعطيل كافة مؤسّسات الدولة وإفراغها من محتواها، خَاصَّـة بعد أن أيقن أن الشعب اليمني – من خلال ثورة ٢١ سبتمبر – قد اتخذ مسارَه التحرّري، وبدأ يفلت من قبضة الوصاية السعوديّة الأمريكية، لذلك سعت السعوديّة ومن خلفها أمريكا وتحالف العدوان العالمي، إلى إعادة اليمن إلى حظيرتها وطاعتها، وحين يئست من ذلك وتساقط عملاؤها وانكشفت أوراقها، قامت بتنفيذ عدوانها الإجرامي بحق الشعب اليمني محاولة إركاعه وإخضاعه مهما كلف الأمر، وقد اتخذت من مزعوم إعادة الشرعية مبرراً لها أمام الرأي العام، كما أنها ألقت على القوى الوطنية المقاومة للعدوان وعلى رأسها مكون أنصار الله، عدداً من التهم الباطلة، منها أنهم يريدون إقامة حكم ملكي بديلاً للحكم الجمهوري، غير أنها أكاذيب وافتراءات يدحضها الواقع ويرفضها العقل والمنطق.
المضحك في الأمر أن من يطلق تلك الاتّهامات هم الملوك والأمراء والحكام المستبدون، الذين لم يعرفوا حتى معنى جمهورية أَو ديمقراطية، بينما الجمهورية اليمنية مازالت حتى الآن تتوهج بجمهوريتها وثورتها، وتتألق بأعراسها الديمقراطية، ففي الوقت التي مازالت فيه حكومة الفنادق ورئيسها في أبراجهم العاجية في الرياض، ها هي الحكومة اليمنية في صنعاء، ورئيس الشعب ومجلس نوابه، يباشرون مهامهم على أرض الوطن وبين أبناء الشعب، ليثبتوا للعالم أن الشرعية ليست مجرد مسمى، وإنما هي حالة واقعية متجسدة على الأرض وواقع الحياة، وأن الديمقراطية ليست نظرية، والجمهورية ليست صناعة أفلاطونية، فها هي اللجنة العليا للانتخابات تعلن عن خلو عدد من المقاعد في البرلمان، وتدعو إلى إجراء انتخابات تكميلية، وهي الدعوة التي تبناها رئيس الجمهورية اليمنية الأستاذ/ مهدي المشّاط، وبذل -بالتعاون مع الحكومة- كُــلّ الجهود والإمكانات لإنجاحها، ليؤكّــدوا للعالم أجمعَ زيفَ افتراءات ودعاوى المرتزِقة وأسيادهم، وأن تلك الانتخابات التنافسية التي فتحت المجال للترشح أمام الجميع على مقاعد مجلس النواب، ما هي إلاَّ جزء من حقيقة الصورة الكاملة لأنصار الله والحكومة والرئيس، الذين هم جمهوريون أكثر من أمراء ممالك الرمال، ومن ارتمى في أحضانهم من العملاء والمرتزِقة، وبأنهم ديمقراطيون أكثر من أولئك الملوك المستبدين ومرتزِقتهم الأنانيين، وبأنهم الشرعية التي اكتسبت أحقيتها وحضورها وتمثيلها من الشعب، وليس من أوكار العمالة والخيانة، أَو إجازات وفتاوى الكنيست الصهيوني والبيت الأبيض والأمم المتحدة.
مما لا خلافَ عليه أن مجلس النواب اليمني، هو المؤسّسة التشريعية التي مازالت الأمم المتحدة تعترف بشرعيتها، حسب معايير الأمم المتحدة نفسها – إلاَّ أنها تغض الطرف عن تلك الشرعية التي يجب أن تستمع إلى صوت الشعب اليمني من خلالها، يضاف إلى ذلك أن الحكومة اليمنية التي باركها الشعب ومنحها الشرعية، تتوفرُ فيها كُــلُّ المعايير الدولية التي تمنحها حَـقّ الاعتراف بها دولياً، والشعبُ اليمني كغيره من الشعوب هو مَن يمنح حكومته وممثليه ورئيسه الشرعية أَو يسلبها منهم، غير أن الأمم المتحدة لا تعملُ وفق القوانين والأعراف والدساتير، التي تزعم أنها تتبناها وتسيرُ على نهجها، وإنما هي صاحبة مصالح، وتسعى لفرض هيمنها ونفوذها، وتجميل قبح حقيقتها ووجهها الاستعماري البغيض، بشعارات رنانة مثل حقوق الإنْسَان والحرية والعدالة والمساواة… إلخ، بينما سياستها على أرض الواقع تفضحها وتعري قبحها، ويكشف تناقض مواقفها وتوصيفاتها، عن عمق الاختلال المفاهيمي والسقوط الأخلاقي والقيمي، الذي تمارس من خلاله سياستها العدائية الاستعمارية ضد الشعوب، فحين تصف ما حدث في اليمن انقلاباً، ترى أن ما حدث في السودان تغييراً مقبولاً، وحين تغض الطرف عن جرائم العدوان ومجازره وانتهاكاته، تصف حَـقّ الرد – المكفول والثابت شرعاً وقانوناً – وحق الدفاع عن النفس، اعتداءً على عملائها، وتهديداً لمصالحها، ثم ما تلبث أن تظهر في وجه صورة العدوان كشريك أساس، لتسقط بذلك كُــلّ مزاعمها وكذبها وشعاراتها ومشروعيتها الدولية.
لم يعد للأمم المتحدة مشروعية حقيقية بعد أن أسقطتها بتحيزها وتناقضاتها، ولم يعد لأمريكا وأزلامها – من الملوك والأمراء – وصايةٌ على الشعب اليمني بعد اليوم، خَاصَّـةً بعد أن عرفهم الشعبُ وذاق مرارةَ إجرامهم وتوحشهم، ولم تعد السياسةُ الداخلية والخارجية في اليمن رهينة قرارات وتوجيهات السفارات، ولن يحكُمَ اليمنَ غيرُ أبنائه الرجال الأوفياء المخلصين أمثال الرئيس الشهيد الحمدي والرئيس الشهيد الصمّاد، والرئيس المجاهد المشّاط، الذين ترجموا وما يزالون رغبة الشعب في الحرية والانعتاق من قيود التبعية والارتهان والوصاية الخارجية والهيمنة الاستعمارية، ورفضه للمخططات الاستعمارية الصهيونية في المنطقة.
ها هو الشعب اليمني – برعاية ودعم رئيسه الشرعي/ مهدي المشّاط – يعيش عرسه الديمقراطي، ويسعى لسد الفراغ وملء المقاعد الشاغرة في مجلس النواب، من خلال الانتخابات التكميلية، رغم ما يعانيه من جرائم العدوان الغاشم، وتداعيات الحصار الخانق الظالم، مؤكّــداً تمسكه بالجمهورية والديمقراطية والدستور اليمني، ومؤكّــداً – أيضاً – أنه صاحب الصوت الأقوى والشرعية المطلقة، وأنه قد منح رئيسه وحكومته وممثليه في البرلمان مشروعية تمثيله، وأقام معهم عقداً اجتماعياً، يمنحهم حَـقّ حكمه وتسيير شئونه ومصالحه، مقابل تأييده ودعمه لهم مطلقاً؛ ولهذا يتوجب على الأمم المتحدة والمجتمع الدولي، أن يفكروا ألف مرة عند تعاطيهم للملف اليمني، فالشعب اليمني قال كلمته، وخاض تجربة ديمقراطية ناجحة بامتياز على كافة المستويات، رغم الظروف الاستثنائية الصعبة، ولم يعد في ذلك قول لمتقوِّلٍ أَو دعوى لمرجف، وليقدم بذلك دليلاً عملياً على صدق توجّهه الجمهوري الديمقراطي، وحقيقة من يتهمونه، بخلاف ذلك من الغزاة والمحتلّين وعملائهم، حَيْــثُ رفضوا إجراء الانتخابات التكميلية في تسع دوائر انتخابية، في المناطق الواقعة تحت الاحتلال السعوديّ الإماراتي وأدواتهم، الذين منعوا اللجان الإشرافية من الدخول وإجراء العملية الانتخابية، لتسقط بذلك كُــلّ الدعاوى والمزاعم والافتراءات، التي يشنون العدوان على الشعب اليمني باسمها.