الحرب السعودية الباردة: تدمير منهجي للاقتصاد

رشيد الحداد // جريدة الاخبار اللبنانية


مع الدخول في عصر الطفرة النفطية في السبعينيات تحول الدور السعودي من السلبي إلى العدائي تجاه اليمن (الأناضول)
للعدوان السعودي على اليمن وجوه كثيرة أخترها وأقصاها كان التدمير الممنهج للاقتصاد اليمني منذ عقود بوسائل عدة، ما منع البلد الجار الغني بموارده من التنعّم بها، وترك شعبه يرزح تحت وطأة الفقر الثقيل. حربٌ على العملة، تضييق على النفط، استخدام المال لتغذية الصراعات واستغلال العمالة اليمنية في السعودية، كلها أسلحة شهرتها الرياض بوجه نهوض الشعب اليمني

يدرك معظم اليمنيين أن عداء السعودية لليمن متوارث من الآباء إلى الأبناء. فعلى مدى العقود الماضية لم تخرج العلاقات بين البلدين عن مقولة الملك الأب عبد العزيز «سعادة السعودية بشقاء اليمن»، ما يفسّر عمل السعودية على إفقار اليمن وتدميره اقتصاديا منذ زمن.
فالسعودية التي حوّلت البنية التحتية اليمنية إلى ركام، وهي تواصل تشديد حصارها على 25 مليون يمني، يعاني نصفهم الفقر والبطالة، هي ذاتها التي شنّت حرباً باردة على الاقتصاد اليمني منذ عقود طويلة، لم يكن العدوان والحصار الحاليان إلا تتويجاً لها.

«حرب» العملات
تمارس السعودية حرباً مالية على اليمن منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي. وتمثلت تلك الحرب في سحب السيولة من العملة الوطنية، ودفع أدواتها في الداخل إلى سحب العملات الصعبة من السوق المحلية لاستنزاف الاحتياطي النقدي الأجنبي، بهدف انهيار أسعار صرف العملة الوطنية (الريال اليمني) مقابل الدولار الأميركي.
واشتدت تلك الحرب المالية خلال النصف الثاني من عقد التسعينيات، حيث اكتشفت السلطات اليمنية دوراً محورياً للسعودية في سحب السيولة المالية من عدد من الفئات. ولذالك التزمت السعودية في «اتفاق جدة» (2000) تأمين العملة اليمنية، إلا أنها سرعان ما انقلبت على ذلك البند. فقد ثبت وقوف السعودية وراء سحب فئة 200 ريال من الأسواق اليمنية خلال النصف الأول من العقد الماضي.
وعلى الرغم من استمرار حرب العملات التي تقف السعودية خلفها في إطار حربها الباردة على الاقتصاد اليمني، جرت أكبر عملية لسحب العملات الصعبة خلال النصف الثاني من عام 2009 حتى نهاية النصف الأول من 2010. وتمثلت بسحب السيولة المالية من المصارف المحلية والمضاربة بأسعار العملة. كادت تلك العملية أن تستنزف نصف الاحتياطي النقدي الأجنبي في حال استمرارها، لولا تدخل البنك المركزي حينذاك بضخ ما يزيد على نصف مليار دولار للبنوك والمصارف المحلية كسيولة.
وحتى الآن لا تزال أدوات الرياض تمارس تلك اللعبة في محاولة منها لزعزعة أسعار صرف الريال اليمني مقابل الدولار (215 ريالا يمنيا مقابل الدولار الواحد). ومنذ اندلاع العدوان، حاولت الرياض فعل ذلك لثلاث مرات، الأولى كانت في الأيام الأولى للعدوان، ولكن إجراءات البنك المركزي منعتها، حين أوقفت التعامل بالدولار والريال السعودي الذي يحتل المرتبة الأولى في التداول في المصارف المحلية، يليه الدولار. حالت تلك الإجراءات دون انهيار أسعار الصرف ودون سحب العملات الصعبة من السوق. وتجددت المحاولة في آب الماضي في المضاربة بأسعار الصرف وباءت بالفشل وعاود أدوات الرياض الأسبوع الماضي لتفشل أيضاً.

المال السعودي يغذي الصراعات
بالرغم من أن اقتصاد السعودية لم يكن قوياً في ستينيات القرن الماضي، إلا أنها ادت دوراً سلبياً في اليمن عقب قيام ثورة «26 سبتمبر» (1962). فمال آل سعود كان حاضراً بقوة في تغذية الصراعات بين التيارين الملكي والجمهوري، وأُطلق على تلك الحروب التي تصاعدت اسم «حرب الذهب».
ومع الدخول في عصر الطفرة النفطية في السبعينيات، تحول الدور السعودي في اليمن من السلبي إلى العدائي. ومثّل وصول الرئيس ابراهيم الحمدي إلى سدة الحكم في منتصف 1974 عقبة بالنسبة إلى السعودية. فالرئيس الشاب الذي امتلك مشروع تحديث استطاع في ظرف ثلاث سنوات أن يقود ثورة تنموية شاملة في الجمهورية العربية اليمنية (اليمن الشمالي)، وهو ما عزّز مخاوف السعودية من نظامه القائم على إدارة الموارد وتوظيف الخصائص الاقتصادية في البلاد، فسعت إلى إجهاض مشروع الحمدي بشتى السبل قبل أن يجري اغتياله.

التوسع في المناطق النفطية
وخلال تسعينيات القرن الماضي، سعت السعودية إلى التمدد في الأراضي الحدودية الواقعة في شرورة وفي الوديعة (أراضٍ غنية بالنفط). وخلال الفترة الممتدة من 1995 إلى 1999، تصاعدت الخلافات بين اليمن والسعودية إلى أعلى المستويات حتى وُقّع «اتفاق جدة» لتتوقف تلك المناوشات العسكرية على الشريط الحدودي.
إلا أن السعودية سعت إلى توسيع دائرة الموالاة لها في أوساط القبائل في المحافظات الحدودية والمحافظات الأخرى عقب التوقيع على اتفاق جدة عام 2000، حيث استقطبت المئات من مراكز القوى المؤثرة وأنشأت اللجنة السعودية لتنفيذ أجندتها في اليمن بطريقة غير مباشرة. كذلك، منحت البدو الرحَّل في المناطق الحدودية الغنية بالنفط جنسيات وامتيازات، وصولاً إلى بناء مدن سكنية في الشريط الحدودي بعد موجة التجنيس بغرض التوسع، حيث التهمت نصف أراضي المهرة الصحراوية، وسعت إلى تجنيس أبناء القرى الحدودية.

ورقة العمالة وخرق الاتفاقات
وعلى الرغم من استحالة استغناء المملكة عن العمالة اليمنية، إلا إنها اتخذت منها ورقة سياسية خلال العقود الأخيرة متنصلةً من التزاماتها التي قطعتها على نفسها في معاهدة الطائف وملحقاتها عام 1934، والتي أكدها اتفاق جدة لترسيم الحدود الموقعة بين البلدين عام 2000. تلك الاتفاقية مُنحت بموجبها العمالة اليمنية في السعودية عددا من الامتيازات كحق العمل والإقامة المفتوحة وحرية اﻻستثمار والملكية وعدم مصادرة الممتلكات أو الحجر عليها، حيث أن الامتيازات التي تمتعت بها العمالة اليمنية في السعودية قبل أزمة الخليج عام 1990 نقضتها المملكة بعد تحقيق الوحدة اليمنية في 22 أيار 1990، جراء مخاوف الرياض من رفض الدولة الوليدة تجديد اتفاق الطائف الذي كان مستحقاً عام 1992، فافتعلت أزمة سياسية مع اليمن لترحل مليوناً و350 ألف عامل يمني.
سلوك السعودية تجاه العمالة اليمنية حينها، وترحيلهم من مختلف مناطق المملكة ومصادرة ممتلكاتهم، حمّل اقتصاد دولة الوحدة أعباء كبيرة وأصابه بالركود. وعقب ذلك فرضت السعودية قيوداً مشددة على دخول اليمنيين إلى السعودية بغرض العمل، ولم تسمح بدخول العمالة اليمنية إلا بعد توقيع اتفاق جدة عام 2000.
وحتى الآن لا تزال المملكة تستخدم ملف العمالة لإجهاض أي تحسن في المجال الاقتصادي، ففي عام 2013، فتحت الحكومة السابقة ملف نفط الجوف، إلا أن الرياض ردت بالطريقة نفسها، حيث رحلت 360 ألف عامل يمني مقيم بطريقة شرعية وغير شرعية وفرضت قيودا مشددة على التحويلات المالية للمغتربين.

ولم يأتِ تصحيح أوضاع قرابة الـ 350 ألف عامل يمني في المملكة في الآونه الأخيرة وفق نظام «أجير» (يمنح العامل ستة أشهر قابلة للتجديد) من فراغ بل خشية رد فعل غاضب في أوساط العمالة اليمنية على خلفية جرائمها في اليمن.
ولكون الوضع القانوني الحالي للمستفيدين من النظام لا يزال هشاً، فإن كل التوقعات تشير إلى أن الرياض ستسعى إلى الاستغناء عنهم وترحيلهم عقب انتهاء عدوانها على اليمن أو توقفه.

نفط الجوف كابوس الرياض

عملت السعودية على إبقاء محافظة الجوف اليمنية بدائية وبذلت جلّ جهودها خلال العقود الماضية لإعاقة أي تنمية فيها، ابتداءً بالطرقات وانتهاءً بعدم التنقيب عن النفط، عبر شراء الولاءات واستخدام الريع المالي للقبائل المحاذية لأراضيها وتغذية الصراعات المحلية في المحافظة التي تعد من كبرى المحافظات اليمنية مساحةً.
في ثمانينيات القرن الماضي، دخل عدد من الشركات النفطية ومنها شركة «هنت» الأميركية إلى صحاري الجوف للتنقيب عن النفط ثم انسحبت من دون مبرر، على الرغم من وجود عشرات الآبار النفطية في الحدود الموازية لها في المناطق السعودية. وتقول بعض المصادر إن زعماء قبليين يحملون التابعية السعودية وقفوا خلف منع الشركات النفطية من التنقيب عن النفط في الجوف.
وفي مطلع عام 2013، فُتح ملف نفط الجوف المجاورة للسعودية ومخزونها النفطي الكبير. فالتقارير حينها كشفت عن وجود 34% من مخزون النفط العالمي في اليمن، وهو ما أثار خفيظة السعودية.
وتحت ضغط شعبي كبير، تولت وزارة النفط اليمنية في بداية عام 2014 تنشيط عمليات الاستكشاف النفطية في عدد من المحافظات وفتحت عشرات القطاعات النفطية أمام الشركات الاستثمارية، ولأول مرة دخلت القطاعات النفطية في الجوف من بين القطاعات، ومُنحت لشركة صافر النفطية اليمنية، وبعد وقت قصير على بدء المسح الميداني في مناطق تبعد عن الحدود اليمنية السعودية 40 كلم، وفي ظل ترحيب أبناء الجوف وترقب كل اليمنيين باشرت أعمال الحفر والاستكشاف الأولي، وأعلنت الشركة وجود نطاقات هيدروكربونية.

كذلك، أظهرت النتائج الأولية اكتشافات غازية بكميات تقدر بملايين الأمتار المكعبة من الغاز يومياً، ولكن شعلة النفط في الجوف التي أشعلت لم تستمر طويلاً، فقد توقفت شركة صافر عن التنقيب بصورة مفاجئة وسحبت كل معداتها.
وبعدما انطفأت شعلة النفط في الجوف توارى الحديث عن العشرات من القطاعات النفطية التي عرضت للاستكشاف، وبعد فترة وجيزة جرى التخلص من وزير النفط السابق المهندس أحمد دارس الذي اهتم بالاستثمارات النفطية وفتح قطاعات النفط على مصراعيها بطريقة أو بأخرى.
ولم تمر سوى أشهر عدة حتى أعلنت السعودية منح هادي خلال زيارة خاطفة للملك عبدالله في جدة، مليارا و200 مليون دولار والتكفّل بمرتبات «اللجان الشعبية» التابعة للحكومة من الذين جرى تجنيدهم لمحاربة تنظيم «القاعدة» في أبين ولحج.
ولم تكتفِ السعودية بذلك، بل أكدت مصادر قبلية أن الرياض اخترقت اتفاقية الحدود وأقدمت، خلال العامين الماضيين، علي السيطرة على مساحة 40 كلم مربع داخل الأراضي اليمنية، كما استقدمت شركات نفطية لاستكشاف النفط فيها.

تدمير بيئة الاستثمار بواسطة «القاعدة»

منذ سنوات، تنامى دور «القاعدة» في عدد من المحافظات النفطية، الأمر الذي لفت أنظار العديد من المراقبين. فمنذ عام 2006، تسلل عشرات العناصر المتشددة السعودية إلى محافظة مأرب وشكلت مجموعات هناك لتتحول إلى تنظيم «القاعدة في جزيرة العرب». وجود التنظيم في تلك المناطق وامتدادها إلى محافظة شبوة وحضرموت وأبين خلال السنوات الأخيرة، أثار مخاوف الشركات الاستثمارية في المجال النفطي ودفع الكثير منها إلى توقيف استثماراتها والانسحاب من اليمن. كذلك، لوحظ مدى الترويج الإعلامي لوجود «القاعدة» في تلك المحافظات عبر قنوات تمولها الرياض، ما تسبب بتدمير بيئة الأعمال في تلك المحافظات. وجرى أخيراً تصدير «القاعدة» إلى محافظة الجوف أيضاً. في مطلع عام 2012، وعقب انتقال السلطة من الرئيس السابق علي عبدالله صالح إلى عبد ربه منصور هادي، وفق «المبادرة الخليجية»، تحولت صنعاء إلى قبلة للاستثمارات الأجنبية والعربية، واستقبلت العشرات من كبريات الشركات الاستثمارية في مختلف القطاعات. لكن هذا الوضع لم يستمر طويلاً بسبب تنامي الأعمال الإرهابية واتساع نطاقها إلى عدد من المحافظات.

قد يعجبك ايضا