نص المحاضرة الرمضانية الثامنة والعشرون لقائد الثورة السيد عبدالملك بدرالدين الحوثي 1440
موقع أنصار الله – صنعاء– 30 رمضان 1440هـ
أَعُوذُ بِاللّهِ مِن الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمِن الرَّحِيمِ
الحَمْدُ لله رَبِّ العالمين، وأَشهَـدُ أنْ لَا إلهَ إلَّا اللهُ المَلِكُ الحقُّ المُبينَ، وأشهَدُ أنَّ سيدَنا مُحَمَّــداً عَبْدُه ورَسُــوْلُه خاتمُ النبيين.
اللّهم صَلِّ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــدٍ، وبارِكْ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــدٍ، كما صَلَّيْتَ وباركت على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ إنك حميدٌ مجيدٌ، وارض اللهم برضاكَ عن أصحابه الأخيار المُنتجبينَ، وعن سائر عبادك الصالحين.
أيها الأخوة والأخوات، السَّـلَامُ عَلَـيْكُمْ وَرَحْـمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُه
وتقبّل اللهُ مِنا ومِنكم الصيامَ والقيامَ وصالحَ الأعمال، اللهم اهدنا وتقبّلْ مِنا إنك أنت السميع العليم، وتُبْ علينا إنك أنت التوابُ الرحيم.
بدايةً نُعلِنُ ونؤكِّدُ تضامنَنا مع الشعبِ السوداني الشقيق في مَا تعرَّضَ لهُ مِن اعتداءاتٍ وحشيةٍ وإجرامية مِن جَانِب المجلسِ العسكري، الذي دخلَ في صَفقاتٍ مع قوى دوليةٍ وإقليمية، ومِن خِلالها تسعى تلك القوى الدوليةُ والإقليميةُ إلى الاعتمادِ عليهِ للسيطرةِ مِن خِلالِهِ على الشعبِ السوداني الشقيق، ومُصادرَةِ حُريةِ هذا الشَعب، واستقلالِه، ووأدِ طُموحِهِ في بناءِ دولةٍ حُرةٍ تُحقِقُ لهُ أهدافَه في الحياةِ الكريمة، فنحنُ نُعلِنُ تضامنَنا معَ الشعبِ السوداني الشقيق، ونُدِينُ كلَّ تلك الجرائمِ الوحشية، وكلَّ تلك المَساعي الراميةِ إلى السيطرةِ على هذا الشعبِ العزيز.
بالأمسِ بدأنا بالحديثِ على ضَوءِ الآياتِ المُبَارَكةِ مِن سُورة لُقْمَان، لُقْمَان الحكيم الذي اُشتهرَ عبرَ التاريخ – مِن زمَنٍ قديمٍ – بحكمتِه، ولأنَّ القرآنَ الكريمَ هو كتابُ حِكمةٍ فقد سمَّى سُورةً مِن سُوَرِهِ باسمِ هذا الحَكيمِ المَشهورِ في التاريخ، وقدَّمَ لنا تصوراً إجمالياً عن حِكمَةِ لُقْمَان الحكيم، ثم أوردَ لنا بَعضَاً مِن أهمِ حِكَمِهِ التي ألقاها وقدَّمَها، هي أيضاً تقدِّمُ لنا تصوراً عن ما كانَ عليهِ مِن الحِكمةِ والرأي الصائبِ والسديدِ والتصوِر السليمِ والمُنطلقاتِ الصحيحةِ التي اعتمدَ عليها، وتتضحُ لنا الأهميةُ الكبيرةُ للحِكمة، إنَّ اللهَ يُريدُ لكلِ المُسْلِمين والمُسْلِماتِ أن يَكونَوا حُكماء، لأنَّ الحكمةَ تُعبِّرُ عن الرُشْدِ الفكري، وعن الاستِقَامةِ في العَمَلِ، وعن السَدادِ في القَولِ، وعن الانضباطِ في المَواقِف، وعن المَسؤوليةِ في التصرفاتِ، فالإنسانُ عِندَما يتحركُ بحكمةٍ، عِندَما ينطلقُ في مَسَاره في هذهِ الحياةِ بحِكمة هو يبتعدُ عن التصرفاتِ العشوائيةِ والاندفاعية، لأنَّ البَعضَ قد يتصرفُ باندفاعٍ في كثيرٍ مِن أمورِه، ليسَ مُتوازِناً ولا مُنضَبِطاً في أعمالِه وتصرفاتِه ومَواقِفِه وسُلوكياتِه بميزانِ الحِكمة، وبالمَعاييرِ الأخلاقيةِ والشرعيةِ والضوابطِ التي مِن المُهمِ أنْ يَضبِطَ بها تصرفاتَه بِكُلِّها، فاللهُ يُريدُ لنا كمُسْلِمين أن نتحلّى بالحكمةِ، وأن نُحسِنَ التصرفَ، وأن نتجهَ بشكلٍ صَحيح، وهذا ما ينبغي أن نحرِصَ عليه.
ثم كلُ الذين هُم في مَواقِعِ المَسؤوليةِ عليهم مَسؤوليةٌ أكبرُ في أن يَكونَوا أكثرَ حِكمةً، وأكثرَ انضباطاً، وأعظمَ مَسؤوليةً والتزاماً، هذه مسألةٌ مُهِمَة، لأنَّ الكوارثَ مِن جَانِبهم أكبر، والضررَ مِن جَانِبهم أعظم، على مُستوى المَسؤولِ في الدولة، الشيخ، الوجيه، كلّمَا كانَ للإنسانِ تأثيرٌ أو نفوذٌ في واقِعِ هذهِ الحَياةِ كانَ أحوجَ إلى أن يَكونَ أكثرَ حكمةً في تصرفاتِه، في مَواقِفِه، في سُلوكياتِه، في كلامِه، في أعمالِهِ، وإلا كانت النتيجةُ هي الجِناية، أن يَجنيَ على الآخرين، ويَجنيَ على نَفْسِهِ، وأن تنشأَ عن ذلكَ كثيرٌ مِن السَلْبياتِ والأخطاءِ في الكلامِ والعَمَلِ والتصرفِ والسُلوك.
لُقْمَانُ الحكيمُ “عليه السلام” أولاً ركَّزَ على أن يبنيَ مَسيرة حَياتِه على أساسٍ سَليمٍ وصحيح، هذه أولُ خُطوةٍ، كيفَ يبني مَسيرةَ هذه الحياةِ على أساسٍ ينطلقُ مِن خِلالِه في هذهِ الحياةِ؟ في التصرفات، والأعمال، والسُلوكيات، والمَواقِف، وهو أساسٌ إيمانيٌ عظيم، هذا الأساسُ هو الشكرُ لله، الشكرُ للهِ مِن خِلالِ العِرفان بالنعمة، والتقديرِ لنِعم اللهِ سُبحانَه وتعالى، وهذا مهمٌ جداً في مَا له مِن أثرٍ عظيمٍ في استِقامةِ الإنسان، وفي رُشْدِه الفكري، وسلامتِه الأخلاقية.
لُقْمَانُ الحكيمُ انطلقَ على هذا الأساسِ مِن واقِعِ العِرفان بالنعمة، والتجنبِ لكلِ مَا يمثِّلُ إساءةً إلى اللهِ سُبحانَه وتعالى، وبالتأكيدِ هذا الأساسُ مُهمٌ في أن ينطلقَ الإنسانُ في واقِعِ الحياة إيجابياً، يَكونُ إيجابياً ومُتفائلاً، لهذا أثرٌ مُهمٌ حتّى على مشاعرِ الإنسان، وعلى طبيعةِ عَلاقتِه بالله سُبحانَه وتعالى، لأنَّهُ يُدركُ أنَّ كلَ ما هو فيهِ مِن خيرٍ إنما هو يتقلَّبُ في نِعمِ اللهِ سُبحانَه وتعالى، وهذه مسألةٌ مُهمةٌ جداً، النِعَم المَعنوية، والنِعَم المادية، والنِعَم التي لا تُحصى ولا تُعدّ التي تشملُ كلَ جوانبِ الحياة، فالإنسانُ عِندَما ينطلقُ على هذا الأساسِ هو ينطلقُ في هذهِ الحياةِ إيجابياً، ومتفائلاً، ويحملُ انطباعاتٍ إيجابيةً، أيْ غيرَ مُعَقَّدٍ، غيرَ مُعَقَّدٍ، الإنسانُ المُعَقَّدُ جداً والذي يحملُ الكثيرَ والكثيرَ مِن العُقَدِ في نَفْسِهِ ومَشاعرِه ونظرتِه التشاؤميةِ في واقِعِ الحياة هو لا يدركُ نِعمَ اللهِ سُبحانَه وتعالى، وهو لا يحملُ الشعورَ الإيجابيَ لا نحوَ الله، ولا نحوَ خَلقِه، ولهذا أثرٌ سيئٌ على الإنسان.
{أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ} فكانَ هذا هو الأساس، إذن مِن الحِكَمِ التي نستفيدُها مِن لُقْمَانَ الحكيم أولاً كيفَ يبني الإنسانُ أولاً الأساسَ الذي ستبني عليه مَسيرة حياتِك في أعمالِك ومَواقِفِك وتصرفاتِك، حتّى لا تخرجَ وتتحركَ في هذهِ الحياةِ مِن دُونِ أساسٍ تبني عليه، {أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ}، الإنسانُ هو المستفيدُ إذا شَكَرَ، لأنَّ اللهَ شكورٌ لمِن يشكرُه، الشكرُ يعني أن تحظى بالمزيدِ مِن رعايةِ اللهِ سُبحانَه وتعالى، ومِن نِعمِه، ومِن ألطافِه، نِعمِهِ الواسعةِ المعنويةِ وليسَ فقط المادية، فأنتَ المستفيد، الله جلَّ شأنُه قالَ {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ}(إبراهيم ـ مِن الآية 7)، الله جلَّ شأنُه هو القائلُ {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا}(النساء ـ الآية 147)، مِن عظيمِ فَضلِه أنّه شكورٌ لمِن شكَرَه، شكورٌ لمِن يشكرُه، مع أنّه لا حقَ عليهِ لعِبَادِه، ولكن مع ذلك يشكرُ مَن شكرَه، يَزيدُه مِن فضلِه، يَزيدُه مِن رعايته، يَزيدُه مِن نِعمِه، ويُحيطُه بنِعمِه الواسعة، فلذلك الإنسانُ هو الذي يَستفيد، حتّى على مُستوى الفِطرةِ والسلامةِ النَفْسية والأخلاقيةِ لهذا أهميةٌ كبيرةٌ جداً جداً، ينسجمُ الإنسانُ مع فِطرَتِه بشكلٍ كبير.
{وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} الكفرُ هنا ليسَ هو كفرُ الجُحود، هو أشمَل، هو عُنوانٌ أوسع، هو كُفرُ النعمة، الإنسانُ في مَسيرةِ حياتِه إمّا أن يَكونَ شاكراً لله، وإمّا أن يَكونَ كافراً لنِعَمِ الله، في مُقابلِ الشُكرِ الكُفرُ للنعم، وعدمُ التقديرِ لنِعَمِ اللهِ سُبحانَه وتعالى، والتجاهلُ لها، والإنسان – كما سبقَ في دَرْسَ أمسٍ في قولِ اللهِ سُبحانَه وتعالى {إِنَّا هَدِيناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا}(الإنسان ـ الآية 3)، لا يخلو مِن هذا، إمّا أن يَكونَ شاكراً ويتجنبَ ما يُمثِّلُ إساءةً إلى اللهِ سُبحانَه وتعالى في أقوالِه، في تصرفاتِه، في أعمالِه، وإن زلّ أنابَ ورَجِع وتابَ، أو أن يَكونَ كافراً لنعمِ الله سُبحانَه وتعالى، وفي هذهِ الحَالَةِ يقولُ الله {فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ} لا يتضرر، والإنسانُ الذي يَكفرُ النعمةَ ولا يشكرُها ولا يقدِّرُها ويتنكرُ للهِ في فَضلِه وكرمِه ورحمتِه هو الذي يخسرُ هو، ويتضررُ هو، أمّا الله فهو غَنِيٌّ لا يحتاجُ إلى شُكرِنا، ولا إلى أعمالِنا، ولا إلى طاعتِنا، حَمِيدٌ، هو حقيقٌ بأن يُحمَد، ولا يحتاجُ في أن يَكونَ مَحموداً وحَميداً إلى أن نشكرَه وأن نحمدَه، هو حقيقٌ بالحَمْدِ أصلاً.
لُقْمَانُ بَنى على هذا الأساسِ الكبيرِ العظيمِ المُهم السليم، فكانَ هو العُنوانُ الأولُ في حِكمةِ لُقْمَان، في حكمتِه، ثم كان يمتلكُ رؤيةً، لُقْمَانُ الحكيمُ كانَ يمتلكُ رؤيةً صحيحةً سليمةً مُفيدةً حكيمةً في بناءِ الإنسانِ وتربيةِ الأبناء، وهذه الرؤيةُ المُهمةُ والصحيحةُ والحكيمةُ قدَّمَها اللهُ لنا في هذهِ السُورةِ المُبَارَكة.
{وَإِذْ قَالَ لُقْمَان لِابْنِهِ}، لأنَّهُا رؤيةٌ مُهمةٌ لتربيةِ الأبناء، ولبناءِ الإنسانِ بشكلٍ عام، {وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}(لُقْمَان ـ الآية 13)، في رؤيةِ لُقْمَان الحكيم “عليه السلام” نجدُ أنَّ أولَ ما في هذهِ الرؤيةِ المهمةِ جداً هو الاهتمامُ بالسلامةِ العقائدية، والاهتمامُ بسلامةِ العقيدة، أن يَكونَ الابنُ وأن يَكونَ الإنسانُ بشكلٍ عام يحملُ عقيدةً سليمةً تجاهَ اللهِ سُبحانَه وتعالى، وطبعاً قبلَ كلِ ذلك نلحظُ أهميةَ العنايةِ بتربيةِ الأبناءِ تربيةً صحيحة، وتربيةً سليمة، وأنَّ الأبناءَ همُ المستقبلُ الواعِدُ للأمَّة، وهمُ الجيلُ القادم، وإذا حظوا بتربيةٍ صحيحةٍ واهتمامٍ على المُستوى التربوي فسيَكونُ لهم دورٌ مُهمٌ وبنَّاءٌ في هذهِ الحياة، فكانَ لديهِ هذا الاهتمامُ لُقْمَانُ الحكيم، وأولُ ما في ذلك هو سلامَةُ العقيدة، وهذا درسٌ مُهمٌ للآباء، أن يَحرِصوا في تربيةِ أبنائِهم وفي تعليمِ أبنائِهم على سلامَةِ العقيدة.
أولُ خَلَلٍ، وأكبر خَلَلٍ، وأسوأ خَلَلٍ أن يحملَ ابنُكَ عقائدَ سيئةً نحوَ اللهِ سُبحانَه وتعالى في مَا يتعلقُ بمَعرِفةِ اللهِ سُبحانَه وتعالى، وفي مَا يتعلقُ بالأساسياتِ الإيمانيةِ والأسسِ الإيمانية التي نبني عليها إيمانَنا باللهِ سُبحانَه وتعالى، والأبناءُ مُعرَّضُونَ في هذا الزمَنِ لهذهِ المُشكلةِ بشكلٍ كبير لِما في المِناهجِ الدراسيةِ ـ عادةً ـ مِن عقائدَ سيئةٍ وأخطاءٍ كبيرةٍ في هذا الجَانِب، ولما قد يَرونه ويُشاهدُونه، أو يَطّلعون عليهِ ويَسمعون بِه مِما يستهدفُهم بِه أعداءُ الأمَّةِ مِن قوى الضلالِ والكفرِ والإلحادِ التي تتحركُ بشكلٍ واسعِ في مواقِعِ التواصلِ الاجتماعي، في الشبكةِ العنكبوتية، في القنواتِ الفضائية، وأحياناً تنشطُ حتّى في الساحةِ وتتحركُ في المَيدان، فالسلامةُ العقائديةُ مسألةٌ مُهمةٌ جداً.
أولُ مبدأٍ ركَّزَ عليه لُقْمَانُ الحكيم “عليه السلام” هو مبدأُ التوحيدِ للهِ سُبحانَه وتعالى {يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ}، مبدأُ التوحيدِ هو المبدأُ الأولُ والأساسُ في العقيدةِ الذي ينبغي ترسيخُه، وهو مبدأٌ مُهمٌ ثمرَتُه أن يَضبِطَ مَسيرةَ الإنسانِ نحوَ الله سُبحانَه وتعالى في الخضوعِ للهِ والطاعةِ المُطلَقةِ للهِ سُبحانَه وتعالى، وبالتالي التحررِ مِن كلِ أشكالِ العبوديةِ لغيرِ اللهِ جلَّ شأنُه.
{إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}، الشِّرْكُ أكبرُ حَالَةٍ وأكبرُ خللٍ تُبنى عليه كلُ الانحرافاتِ والمَفاسدِ والمَساوئ، لأنَّهُ يمثِّلُ انصرافاً كلياً عن اللهِ سُبحانَه وتعالى، وهذه حَالَة سَلْبية رهيبة جداً وشنيعة، وهو أكبرُ ما يتنافى مع الشكرِ للهِ سُبحانَه وتعالى، لماذا؟ في حَالَةِ الشِّرْكِ أنت تتوجهُ مِن مَوقعِكَ ومِن واقِعك كعَبدٍ مَملوكٍ لتُمَلِّكَ نَفْسَكَ غيرَ المَالِك، عِندَما تجعلُ للهِ شريكاً تُخضعُ له كلَ نَفْسِك في هذهِ الحياة، تتجهُ إليهِ بأعمالِك، تتوجهُ على أساسِ الخضوعِ المُطلَقِ له في كلِ ما يشاؤه ويُريدُه، أنت هنا تُمَلِّكُ نَفْسَكَ غيرَ المَالِك، المَالِكُ الحقيقيُ لكَ هو اللهُ سُبحانَه وتعالى، ثم أنتَ تتوجهُ أيضاً بالشُكرِ والتقديرِ إلى مَن لا نِعمَةَ مِنه أصلاً، وتتركُ مِن لا نِعمَةَ إلا مِنه وهو اللهُ سُبحانَه وتعالى، الذي كلُ النِعَمِ مِنه، كلُ النِعَمِ هي مِن اللهِ سُبحانَه وتعالى، لا نِعمَةَ إلا مِنه، {وَمَا بِكُمْ} قالَ اللهُ جلَّ شأنُه {وَمَا بِكُمْ مِن نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ}(النحل ـ مِن الآية 53)، فأنت تتوجهُ بما أعطاكَ المُنعِمُ العظيمُ وهو اللهُ سُبحانَه وتعالى الذي لا نعمةَ إلا مِنه جلَّ شأنُه، تتوجهُ بِكُلِّ هذا إلى مَن لا نعمةَ مِنه أصلاً، ثم كذلك على مُستوى الخَلق، اللهُ سُبحانَه وتعالى هو الذي خلقك، وهذه أعظمُ نعمة، هو الذي وَهبَك الحياةَ ووهبَك الوجودَ، ثم أنت تتنكرُ له وتتوجهُ بِكُلِّ وجودِك نحوَ غيرِه لتجعلَه إما مُساوياً له، وإمّا أن تنصرِفَ إليهِ كلياً، وهذا تنكرٌ كبيرٌ للنعمة، وكفرٌ للنعمة، وبُعدٌ عن الشكر، فكانَ ظُلماً عظيماً، ومُنافياً للعَدل، ومُنافياً للإنصاف.
{وَوَصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ}، مِثلما وصَّى اللهُ الآباءَ بأبنائِهم، وأن يحرِصوا على العنايةِ بِهم وبتربيتِهم التربيةَ الصالحة، وعادةً في واقِعِ الآباءِ هُم يتجهون أصلاً للعنايةِ بتربيةِ أبنائِهم والاهتمامِ بِهم في مَا يتعلقُ بالجَانِب المادي، ترى الكلَ “بيشقى على عِيالِه” على قَولتِنا في التعبيرِ المَحلي، فِطرياً وتلقائياً الكثيرُ مِن الناسِ يحرِصُ على تربيةِ أبنائِه في مَا يتعلقُ بالتربيةِ المادية، وتوفيرِ احتياجاتِ حياتِهم الضروريةِ مِن غذاءٍ وكساءٍ ومُتطلباتِ الحياةِ الضرورية، وبحسبِ ظروفِ الإنسانِ وما يستطيعُه، هذا يحصلُ تلقائياً في واقِع البشر، ولكن هنا يَلفِتُ القرآنُ الكريمُ نظرَنا مِن خِلال لُقْمَان الحكيم كيفَ أنه حَرِصَ على الاهتمامِ بالجوانبِ الأخرى التي يُهملُها الكثيرُ مِن الآباء، الكثيرُ مِن الآباءِ ـ إذا هو وفَّرَ لابنِه التغذيةَ الملابسَ الاحتياجاتَ الضروريةَ العلاجَ عِندَ المَرَض، هذه المُتطلبات والاحتياجاتُ الاعتياديةُ في الحياةِ والضروريةُ والروتينيةُ في الحياة ـ يتجاهلُ الجوانبَ الأخرى، الجَانِبَ العقائدي، الثقافي، السُلوكي، الأخلاقي لابنِه، يتجاهلُ كلَ هذهِ الجوانبِ ولا يبالي بها، ولا يُركِّزُ عليها، ولا يحرِصُ عليها، ولا يتنبهُ لها، ولا يتنبهُ أن يبنيَ حياتَهم على أساسِ كيفَ تكونُ علاقتُهم معَ اللهِ سُبحانَه وتعالى، لأنَّ ذلكَ هو الأساسُ لصلاحِهم حتّى تجاهَ الآباء، أنت عِندَما تشدّهُم إلى اللهِ سُبحانَه وتعالى وتُربيهم تربيةً إيمانية، اللهُ يُوصِّيهم تجاهَك، لن تخسرَ كأبٍ، لاحِظوا، بَعضُ الآباءِ يَهمُه كيفَ يَكونُ ابنُه جيداً تجاهه، إذا نجحَت في أن يَكونَ ابنُك جيداً نحوَ اللهِ سيَكونُ جيداً نحوَك، لأنَّ اللهَ يُوصيه بِك، الأمُ كذلك إذا نجحتْ في أن تُربيَ أبنائَها تربيةً إيمانية سيَكونُون أبناءً صالحين وجَيدِين تجاهَها، لأنَّ اللهَ يُوصِّي الأبناءَ تجاهَ الوالدِين.
{وَوَصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ}، وصيةُ مِن اللهِ مُباشرَةً، ويؤكدُ على أهميةِ هذا المَوضوع، وسيأتي مَا المطلوبُ في هذهِ الوصية، سيأتي التوضيحُ ما هي هذه الوصية {وَوَصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ} الأبُ والأمُ {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ}، والأمُ هذه توصيةٌ أيضاً خاصةٌ بالأم، اللهُ وَصّى بالأبِ والأم، وإضافةً إلى ذلك عزّزَ هذه الوصيةَ تجاهَ الأم، ولفتَ الانتباهَ إلى مُعاناتِها يومَ حَملتْ بكَ فكانت كُلَّمَا مَضى الوقتُ في حَملِها وعَظُمَ حَملُها زادَها ذلك وَهْناً، وأضعفَ صلابتَها، وأتعبَها، وحمَّلَها المَشقةَ حتّى وصلتْ إلى الولادةِ كَرْهاً بمَشقةٍ بالغة، ثم في فترةِ الرضاعةِ وما فيها مِن معاناةٍ ومتاعبَ حتّى في نومِها وفي كلِ أحوالِها، {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ}، فما هي هذه الوصية؟ {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ}، هنا أتى بالشُكرِ للوالدِين مع الشُكرِ للهِ سُبحانَه وتعالى، وبَعدَ الشُكرِ لله، لنعرِفَ أولاً عظيمَ حَقِهما علينا، ليعرِفَ كلُ إنسانٍ عظيمَ حَقِ الوالدِين عليه، وفي ذلك أيضاً حَقُ الأم، وفي الوقتِ نَفْسِهِ أنه بَعدَ حَقِ الله، بَعدَ حَقِ الله سُبحانَه وتعالى، فالمطلوبُ هو الشُكرُ {وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ}، إلى اللهِ سُبحانَه وتعالى المَصير، إذا الإنسانُ خالفَ هذه التوصيةَ، لمْ يلتزمْ بها، فهو سيحاسبُ على ذلك، التوصياتُ مِن اللهِ هي إلزامية، الإنسانُ إذا فرّطَ بِها وتنكرَ لها ورَمى بها عرضَ الحائطِ سيحاسبُ على ذلك وسيجازى.
{وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا ليسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا}(لُقْمَان ـ الآية 15)، لأنَّهُ لا طاعةَ لمخلوقٍ في مَعصيةِ الخالِق، حتّى الأبُ لا طاعةَ له في مَعصيةِ الله، حتّى الأمُ لا طاعةَ لها في مَعصيةِ الله سُبحانَه وتعالى، حتّى لو حاولا وبذلا جُهدَهما في الانحرافِ بك في مَا هو معصيةٌ للهِ سُبحانَه وتعالى فلا تُطعهُما في ذلكَ أبداً، لأنَّ حقَّهما دُونَ حقِّ اللهِ وتحتَ حَقِ الله، ولا يرقى إلى مُستوى المَعصيةِ للهِ مِن أجلِهما أبداً.
{فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا}، أيْ قابِلْ احسانَهما إليكَ بالصُحبةِ بالمعروفِ، صحبةٌ بالمعروفِ مِن خِلالِ الإحسانِ والاحترام، لكن مِن دُونِ طاعةٍ في مَعصيةِ الله، وهذا يَضبِطُ العَلاقةَ مع الآباءِ والأمهات، عَلاقةٌ قائمةٌ على الصُحبةِ بالمعروف، إحسان، احترام، تقدير، بذلٌ للمعروفِ ما تستطيعُه، لكن مِن دُونِ طاعةٍ في مَعصيةِ اللهِ أبداً، {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} عاملْهُما باللينِ والرِفقِ والاحترام، ولا تُطعْهُما في مَا هو مَعصيةٌ لربِّك اللهِ سُبحانَه وتعالى.
{وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مِن أَنَابَ إِلَيَّ} القدوةُ في الدِين هو الذي يسيرُ بكَ في طريقِ اللهِ سُبحانَه وتعالى، المُنيبُ إلى اللهِ الذي يسيرُ بك في طريقِ اللهِ سُبحانَه وتعالى، فإذا كانَ الأبُ مُنحرِفاً بذلك، لا يقتدي بلُقْمَانَ الحكيم، إذا كانَ الأبُ لا يقتدي بلُقْمَانَ الحكيم، فلا تجعلْ مِنهُ قدوةً لك في الانحراف، ولا في مَا هو معصيةٌ لله، ولا في المَواقِفِ الخاطئة، ولا في مَا هو يسببُ سَخطاً للهِ سُبحانَه وتعالى، قدوتُكَ في الدِينَ المُنيبُ إلى اللهِ الذي يسيرُ بكَ في طريِق اللهِ سُبحانَه وتعالى.
{وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ}، لأنَّ هناك أحياناً اختلاطٌ في المَفهومِ بينَ الإحسانِ والطاعة، مَثلاً الكثيرُ مِن الوعَّاظ والخطباءِ وبَعضِ الشخصياتِ العُلمائيةِ قاصرةِ الوعي والفَهمِ البعيدةِ عن الاهتداءِ بالقرآنِ الكريم يجعلون العُنوانَ الرئيسيَ للعَلاقةِ بالوالدِين هو الطاعةُ طاعةُ الوالدِين، القرآنُ جَعلَ العُنوانَ الأساسَ هو الإحسانُ، الإحسانُ إلى الوالدِين، أمّا الطاعةُ فما كان في إطارِ طاعةِ اللهِ سُبحانَه وتعالى ويمثِّلُ إحساناً فلا بأس، أمّا في مَا هو مَعصيةٌ فلا، في مَا هو مَعصيةٌ سواءً مِن خِلالِ التجاوزِ لحدٍ مِن حُدودِ اللهِ سُبحانَه وتعالى وفِعلِ المُحرّم، أو الإخِلالِ بالواجب، أو التفريطِ في مَا أمرَنا اللهُ به، لأنَّ المَعصيةَ تكونُ في حَالَةٍ مِن حالتين، معصيةٌ بفِعلِ المُحرّم، ومعصية بتَرْكِ الواجب، وبتركِ ما هو مِن أوامرِ اللهِ سُبحانَه وتعالى، بتركِ ما أمرَنا اللهُ به، هذا أيضاً معصية، ومعصيةٌ خطيرة، وهي أكثرُ ما تكونُ في واقِعِ الإنسانِ مِن المَعاصي، المعصيةُ تجاهَ ما أمرَنا اللهُ به، لأنَّ البَعضَ مِن الناسِ مَثلاً يقول “أنا أتركُ المحرّمات، أنا بحمدِ اللهِ لا أسرق ولا أزني ولا أشرب الخمر ولا أقتل النَفْس المحرمة ولا ولا ولا”، ولكن لو نأتي إلى المَعاصي الأخرى في واقِعِه وهي التفريطُ في مَا أمَرَ اللهُ به، ستجدُ أنه تركَ كثيراً مِن الأشياءِ التي أمرَهُ اللهُ بها ولمْ يَفعلْها، وهذه مَعاصٍ خطيرةٌ جداً، وتعتبرُ مِن المعصيةِ لله، عَصيتَ اللهَ في أمرِه كما فعلَ إبليسَ، إبليسُ ما الذي فَعَلَ؟ أمرَهُ الله، ولكنه خالفَ الأمرَ، أمّا آدمُ فخالفَ النهيَ، وكانت كلاهما مَعصيةً، طبعاً آدمُ تابَ وتابَ اللهُ عليه.
{وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مِن أَنَابَ إِلَيَّ}، فالقرآنُ يقدِّمُ لنا مفاهيمَ صحيحةً تنظمُ لنا العَلاقاتِ ومَسَاراتِ الحياة، {ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}(لُقْمَان ـ الآية 15)، وما يجبُ أن نستذكرَه دائماً هو هذا، الرجوعُ إلى اللهِ، أننا راجعون إلى اللهِ، أن أمامَنا الحساب، أن أمامَنا الجزاء، علينا أن نستشعرَ هذه الحقيقةَ المُهمةَ والقضيةَ الإيمانيةَ الرئيسيةَ، العودةُ والمرجِعُ إلى اللهِ سُبحانَه وتعالى، واللهُ سُبحانَه وتعالى كانَ يرقبُ واقِعَنا وأعمالَنا في هذهِ الحياة، ويعلمُ بها، ويحيطُ بنا عِلماً وخُبراً في ما هو في ذاتِ صُدورِنا، وفي مَا نقول، وفي مَا نعمل، وفي كل تصرفاتِنا، ودخلتْ هذه التوصيةُ مِن اللهِ سُبحانَه وتعالى داخلَ مَوْعِظَةِ لُقْمَانَ لابنهِ وتوصياتِه لابنِه لأهميةِ هذا الموضوعِ أيضاً، فاكتملت هذه التوصيات.
بَعدَ التذكيرِ بالرجوعِ إلى اللهِ وأنه سينبئُنا بِكُلِّ ما كنا نعملُه في هذهِ الحياة {فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}( لُقْمَان ـ مِن الآية 15)، يذكرُ اللهُ لنا ما وردَ في مَوْعِظَةِ لُقْمَان الحكيم “عليه السلام” لأبنه حولَ الرقابةِ الإلهية {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِن خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ}(لُقْمَان ـ الآية 16)، وهذا درسٌ مُهمٌ في رقابةِ اللهِ وإحاطةِ عِلمِه بِكُلِّ أحوالِنا وتصرفاتِنا وأعمالِنا، {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ}، ما هي؟ (إِنْ تَكُ) الحَسَنةُ مِن أعمالِك أو السيئةُ مِن أعمالِك، {إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِن خَرْدَلٍ}، حَبُّ الخردل، الخردل مِن النباتات وحَبُّه حَبٌّ أسودٌ صغيرٌ جداً وخفيفُ الوزنِ جداً، ويقالُ إن الكيلوغرام مِن حَبِّ الخردل يسعُ أو يحتوي ما يقاربُ تسعَمائةٍ وثلاثةَ عشرَ ألفَ حبَّةِ خردل، وبناءً على ذلك يقالُ إنَ وزنَ حبَّةِ الخردل هي جزءٌ مِن الألف مِن الجرام، أيْ قد تكونُ – واللهُ أعلمُ – أخفَّ وزنٍ في حبِّ النبات، في الحُبوبِ التي هي في النباتات، أخفَّ الحبوبِ وزناً في مَا في النباتات مِن حُبوب.
{إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِن خَرْدَلٍ} {إِنَّهَا} الحَسَنَةُ أو السيئةُ مِن الأعمالِ لو كانتْ بهذا المُستوى الصَغيرِ والضئيل جداً في وزنها {فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ} وتكونُ أيضاً خفيّةً لا يراها الناسُ ولا يُدركونها، لأنَّهُا في داخلِ صَخرةٍ تُغطيها وتُخفيها صخرةٌ كبيرة، {أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ} أو في مَكانٍ فسيحٍ واسعٍ جداً ويقالُ إنها فيه، يقال مَثلاً هذه حبةُ الخردلِ الصغيرةُ جداً والخفيفةُ الوزنِ جداً موضوعةٌ في السماوات، أين؟ اللهُ أعلمُ في أي مكانٍ في السماوات، {أَوْ فِي الْأَرْضِ} أو يُقالُ هذه حبةُ الخردلِ الصغيرةُ الضئيلةُ الخفيفةُ الوزنِ جداً موضوعةٌ في مكانٍ أين هو؟ الأرضُ ذاتُ الطولِ والعَرضِ، حتّى لو كان الحالُ كذلك، مَثلاً في واقِعنا نحنُ يقالُ لك ابحثْ عن حبةِّ خردلٍ في الأرض، وامسحْ كلَّ الأرضِ للبحث عنها، أيْ أمرٌ يستحيلُ عليكَ على سِعَةِ الأرض، أو أن يَكونَ ظرفُها هو السماواتُ بِكُلِّها، لكنّ اللهَ يُحيطُ عِلماً بذلك، {يَأْتِ بِهَا اللَّهُ} تأتي يومَ القيأمَّة وتظهر بكتابِ عَملِك وتُجازَى وتحاسبُ عليها، كما وردَ أيضاً في سُورةِ الزلزلة {فَمِن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمِن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}(الزلزلة ـ 7،8)، وهذا ما يحثُنا على أن نتحلّى بالمَسؤوليةِ في أعمالِنا وتصرفاتِنا، وأن نحذرَ مِن التهاونِ والانفلاتِ واللّااكتراث تجاهَ ما نفعلُ أو نقول، لأنَّ اللهَ يحيطُ بنا عِلماً، ويُحصي علينا في تصرفاتنا في الخيرِ والشرِ ما لو كانَ مِثقالَ ذرّة، وما لو كانَ مثقالَ حبّةٍ مِن خردل، اللهَ الله، أينَ هو انضباطُنا، انتباهُنا، ما أعظمَ غفلتنا نحنُ البشر! {إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} أحاطَ بِكُلِّ شيئ خُبراً، وتصلُ إحاطته بِكُلِّ شيئ وإدراكُه لكل شيئ مَهما كان صِغرُه، ومهما كان عُمقُه، ومهما كان ظرفُه، لا يخفى عليه شيئ، عليمٌ حتّى بذاتِ الصدور، وما تُوسوسُ به نَفْسُ الإنسان، لا يخفى عليه شيئ، وهذا جَانِبٌ مُهم.
الاستشعارُ لرقابةِ اللهِ سُبحانَه وتعالى يساعدُ الإنسانَ على التقوى والالتزامِ والاستِقَامةِ والانضباط، ويخففُ عِندَه الحَالَةَ الاندفاعيةَ والفوضوية في تصرفاتِه وأعمالِه، وبالتالي يَكونُ حكيماً، لأنَّهُ يتعاملُ بمَسؤولية، أعمالُه مدروسة، تصرفاتُه موزونة، كلامُه موزونٌ بميزانِ المَسؤولية، وبالتالي الحكمة.
{يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ}(لُقْمَان ـ الآية 17)، جَانِبٌ مِن جوانبِ العَلاقةِ باللهِ سُبحانَه وتعالى العبادةُ الروحية، وكيف تكونُ قيِّمةً يأتي بها الإنسانُ بشروطِها وفرائضِها، وكما شرَعها اللهُ سُبحانَه وتعالى، ويحرِصُ على أن يستفيدَ مِنها في آثارِها التربويةِ لتزكيةِ النَفْسِ وإصلاحِها والانشدادِ إلى اللهِ.
{وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ}، ثم يأتي إلى الجوانبِ الأخرى مِن المَسؤولية، أيْ لم يقل “يا بُني أقم الصلاةَ وليسَ لك دخلٌ مِن شيئ، ومِن بيتك إلى مَسجدك،َ وليس لك حاجة، ولا تُسبب لنَفْسِكَ مشاكل، ولا تعمل أيَ شيئ قد يسببُ لك مشاكل، وخليك مِن الناس ومِن كل شيئ، وبَعدَ حالك وبس”، لم يقل هكذا {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} يُربيه على أن يَكونَ إنساناً مسؤولاً في هذهِ الحياة، ليتحركَ ضمنَ مَسؤولياتِه الإيمانيةِ بالأمرِ بالمعروف، وهذا يستدعي أن يَكونَ الإنسانُ هو بنَفْسهِ مُؤتمِراً بالمعروفِ آمِراً به، أيْ التزاماً بالمعروفِ واهتماماً به في التزامِه العَمَلي وتطبيقِه، وآمراً به الآخرين، ومُنتهياً عن المُنكر وناهياً عنه، والقرآن الكريم فيه توجيهات تتعلق بالأمر بالمعروف والنهي عن المُنكرِ كمَسؤولية مِن أهمِ المَسؤولياتِ في انتمائِنا الإسلامي والإيماني، وفي الوقتِ نَفْسِهِ مِن المَسؤولياتِ المُهمةِ لصلاحِ الحياة، لدفعِ الظلمِ والفسادِ والمُنكرِ والطغيانِ والشرِ، ولاستقرارِ واقِعِ الحياةِ على كلِ المستويات.
وعُنوانُ المعروفِ عُنوانٌ واسعٌ يدخلُ إلى كلِ مجالاتِ الحياةِ السياسية، والإعلامية، والاقتصادية، والأمنية، وكلِ شؤونِ الحياة، والصحية، في كل مجالاتِ الحياة، عُنوانٌ يدخلُ إلى كل مجالاتِ الحياةِ في كلِ ما هو خير، في كلِ ما هو صحيح، في كلِ ما هو مصلحةٌ حقيقيةٌ مضبوطةٌ بضابطِ الشَرْع، والمُنكرُ أيضاً يأتي كحَالَةِ انحرافٍ في كلِ مجالاتِ الحياة، في الجَانِبِ السياسي هناك مُنكراتٌ رهيبة، في الجَانِب الإعلامي هناك مُنكراتٌ شنيعة، في الجَانِب الاقتصادي، مثل الرِبا، مُنكراتٌ رهيبة جداً في كلِ مجالاتِ الحياة.
فنتجهُ للنهوضِ بهذهِ المَسؤوليةِ في الأمرِ بالمعروفِ والنهي عن المُنكرِ كجَانِبٍ أساسيٍ مِن الالتزاماتِ الإيمانيةِ ومِن التصرفاتِ المسؤولةِ ومِن الحِكمةِ، مِن الحِكمةِ أن نأمرَ بالمعروفِ وأن ننهى عن المُنكر، والتفريطُ في هذهِ المَسؤوليةِ إخِلالٌ بالحكمة، ليسَ حكيماً مَن يُعطّلُ جَانِبَ المَسؤولية، مَن يُربي الناسَ على الجُمودِ والقُعودِ ليسَ حكيماً نهائياً، فهو يُسبِّبُ مخاطرَ كبيرةً على الناسِ في حياتِهم، لأنَّ التفريطَ في هذهِ المَسؤوليةِ هو تمكينٌ للأشرارِ والظالمين والمُفسدِين، ويترتبُ على ذلك أضرارٌ كبيرةٌ في واقِعِ حياةِ الناس، واختلالٌ للحَالَةِ الأخلاقيةِ والإيمانيةِ في واقِعِ الحياة، وتدميرٌ للإيمان.
{وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ}، لأنَّهُ لا بُدَّ مِن الصبرِ في النهوضِ بالمَسؤوليةِ، والصبرِ تجاهَ كلِ صُعوباتِ الحياة، ومِحَنِ الحياة، وتحدِّيات الحياة، {إِنَّ ذَلِكَ مِن عَزْمِ الْأُمُورِ}، النهوضُ بالمَسؤوليةِ والاهتمامُ بهذهِ التوجيهاتِ هو مِن الحِكمةِ، وهو مِن الالتزاماتِ الإيمانية، وهو مِن التوجيهاتِ الإلهية، وهو مِن الأمورِ المُهمةِ التي لا بدَّ مِنها لكي نكونَ مُؤمِنين، ولكي نكونَ حُكماء، ولكي تصلُحَ حياتُنا، فهو مِن الأموِر المَعزومة الضرورية، وليسَ مِن الأمورِ الهامشيةِ والمِزاجية، أيْ أتينا بها فلا بأس زيادة خير إنْ لم نأتِ بها فطبيعي، لا، ليسَ طبيعياً، الإخِلالُ بها خللٌ إيماني، وبُعدٌ عن الحكمةِ والرُشْد، وحماقةٌ رهيبةٌ جداً، وخطأٌ فادح، ولا بدَّ ـ في القيامِ بهذهِ المَسؤوليةِ ـ مِن امتلاكِ قوةِ الإرادةِ والعَزم، لأنَّ النهوضَ بهذه المَسؤوليةِ يُعبِّرُ عن قوةِ إرادةٍ وقوةِ عَزم، وهذا أيضاً مِما هو نتاجٌ للتربيةِ الإيمانيةِ والتربيةِ الحكيمة.
ثم بَعدَ جَانِبِ المَسؤوليةِ في الحياةِ يأتي إلى جَانِب التعامل {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا}(لُقْمَان ـ الآية 18)، لا تكن متكبراً، ولا تتعامل بأي سُلوكٍ أو أسلوبٍ يُعبِّرُ عن التكبر، لا تتعالى على الناسِ وتتكبّرَ عليهم لا في التعاملِ معَهم حتّى في الشكليات، حتّى في أنْ ترفعَ رأسَكَ في حَالَةٍ مِن التكبرِ والتجاهلِ تجاهَهم، أو في حَالَةٍ مِن الإعراضِ وعَدمِ المُبالاةِ بِهم، حتّى في مَشيكَ في الأرض {وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا} مَشيةَ المتكبرِ الذي لا يبالي بالناسِ ولا يكترثُ بهم، وقد يُعبِّرُ في أسلوبِهِ في الحركةِ عن حَالَةٍ مِن التباهي والغرور، أو يتعاملُ بطريقةٍ فيها ضررٌ على الناس، نحنُ ذكرنا – سواءً في الدروسِ في سُورةِ الإسراء، أو في ما يتعلقُ أيضاً بدروسِ العامِ الماضي على ضوءِ هذه الآيةِ المُبَارَكة – أهميةَ هذه الآيةِ المُبَارَكةِ حتّى في انتظامِ حركةِ المُرور، حتّى في احترامِ الإشارة إشارةِ المُرور، سواءً إشارةِ عُنصرِ المُرور الذي ينظمُ حركةَ السَير، أو الإضاءةِ التي تنظمُ حركةَ السَير، حتّى في احترامِ حقِّ المارّةِ في المُرورِ وعدمِ قَطعِ الطريقِ أمامَهم في حَالَةٍ مِن اللامبالاةِ والانشغالِ بأمورٍ أخرى، حتّى في الإسراعِ في المَشْي بطريقةٍ سَلْبيةٍ وزائدةٍ عن المَشْي الطبيعي تعبيراً عن التكبرِ والغرورِ أو اللامبالاةِ بالآخرين، وما يترتبُ على ذلك مِن حَوادثِ سَيرٍ إمّا في الإضرارِ بالناسِ الذين هُم في الطريقِ مَثلاً، أو في مَناطقَ مُزدحمةٍ بالسكان، أو على نَفْسِ الإنسانِ ومِن يَكونُ معَه مَثلاً في السيارة.
{وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ}، الإنسانُ إذا كانَ معُجْباً بنَفْسهِ، مَغروراً بنَفْسهِ ومُتكبراً هو {مُخْتَالٍ}، و {فَخُورٍ} كثيرُ الافتخارِ بنَفْسِهِ وبما يعملُ فهو يُعبِّرُ دائماً عن نَفْسِهِ بأنّه كذا وأنّه كذا وأنّه كذا، يُكثِرُ مِن الافتخارِ والمَديحِ لنَفْسِهِ هذا مَمقوتٌ عِندَ اللهِ سُبحانَه وتعالى، والعُجْبُ يَحولُ دُونَ إصلاحِ الإنسانِ ودُونَ ارتقائِه، ودُونَ تَربيتِه، ودُونَ استقامتِه، ويسببُ مشاكلَ معَهُ عِندَ النُصحِ له، وعِندَ التذكيرِ له، وعِندَ التنبيهِ له، تُمثِّلُ هذه مُشكلةً كبيرةً مَعَه، ممقوتٌ عِندَ اللهِ سُبحانَه وتعالى.
{وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ}(لُقْمَان ـ مِن الآية 19)، القَصْدُ في المَشْي التوسطُ بينَ الإسراعِ الزائدِ وبينَ التثاقلِ الزائد، فالمقصودُ التوازنُ وبمُقتَضى الحال، طبعاً قد يَكونُ هناك حالاتٌ استثنائيةٌ تستدعي الإسراعَ، كإسعافِ مَريضٍ أو جريح، وبشكلٍ مُتوازنٍ حتّى السرعةُ نَفْسُهِا يَبقى لها ضوابطُ مُعَيّنة.
{وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ}، حتّى أسلوبِ الإنسانِ في التخاطبِ مع الآخرين لا يَرفعُ صوتَهُ إلا حَيثُ يَقتضي ذلك، كالمُؤذّنِ مَثلاً، الخطيبِ أحياناً في بَعضِ فقراتِ الخِطابة، المُناسباتِ التي تستدعي ذلك لإسماعِ مَن هو بَعيدٌ مَثلاً، أمّا في غيرِ هذه الحَالَةِ فلا ينبغي أبداً، الحَالَةُ إمّا أن تكونَ تكبُرَاً وإساءةً على البَعض، وإمّا أنْ تكونَ قِلَّةَ أدبٍ مِن البَعض، وسُلوكاً بَشعاً يُعبِّرُ عن لا أخلاقيةِ الإنسانِ، ولا توازنِه، ولا حيائِه.
{إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ}، لأنَّ الحَميرَ قد في بَعض الحالاتِ يَرفعُ صوتَه لِغَيرِ مُناسبةٍ، وقد يَرفعُ صوتَه أحياناً لمُناسَبةٍ وأحياناً لِغَيرِ مُناسبة ويَكونُ صوتاً رفيعاً مُزعجاً، ولا يكسبُ به مَديحاً ولا إشادةُ.
نحنُ حَرِصنا على الاختصارِ والتركيزِ على عَناوينَ مُعَيّنة، الدروسُ واسعةٌ جداً مِن وَصية لُقْمَان.
نسألُ اللهَ سبحانه وتعالى أن يوفقنا وإياكم لما يُرضيهِ عنا، وأن يرحمَ شهداءَنا الأبرار، وأن يشفيَ جرحانا، وأن يفرِّجَ عن أسرانا، وأن ينصرَنا بنصرِه، إنه سميعُ الدعاء.
وَالسَّـلَامُ عَلَـيْكُمْ وَرَحْـمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُه