البلاغُ المبين

|| مقالات || د. فاطمة بخيت

في يومِ كَمالِ الدين، وإتمامِ نعمة الهداية على المسلمين، يأبى اللهُ إلا أن يحفَظَ استمراريةَ اتصال عباده المؤمنين بمصادر الهداية من الأئمة الهداة المهديين، كامتداد لهدي الرسالة الذي نزل على خاتم الأنبياء والمرسلين.

ولأنّ هذا الدين جاء منسجماً متسلسلاً، فقد كانت أحداثُه منسجمةً مع ما نزل من الآيات البينات. ففي الوقت الذي قال فيه الحبيب المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم في حجة الوداع: (ولعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا). كذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم في يوم الغدير: (إنّي أوشك أن أُدعى فأجيب). يتبين من خلال ذلك أنّ ارتحالَه عن هذه الحياة أصبحَ وشيكاً، ولكن لأنّ الله يأبى إلا أن يتم نوره، ويكون متصلاً إلى ما شاء له أن يتصل، نزل قول الحق جل وعلا: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ، وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ، وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ، إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ)، أي أنّ هناك بلاغاً مهماً، بل في غاية الأهميّة، ويجب أن يصل إلى كُــلّ الناس، فما كان من رسول الله بعد نزول هذه الآية وهو في غدير خم، في طريق عودته من حجّة الوداع في وقت الظهيرة، إلا أن أمر بعودة من تقدم، ثم نادى بالصلاة الجامعة، وخطب في الناس خطبةً عظيمةً بعظمة ذلك اليوم، رافعاً يد الإمام عليّ عَلَيْــهِ السَّلَامُ إلى أن وصل إلى قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (يا أيها الناس إنّ اللهَ مولاي، وأنا مولى المؤمنين أولى بهم من أنفسهم، فمن كنت مولاه فهذا علي مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله).

ونزولُ هذه الآية وورودُ مثل هذا الحديث في خطبة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، لا يعكسان مدى أهميّة ما جرى في ذلك اليوم وحسب، بل يشيران إلى أنّ الأُمَّـة ستمر بمنعطف خطير يتوقف عليه مصيرها بعد رحلة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولم يكن قوله في الآية: (وَإِن لَّمْ تَفْعَل) يدل على أنّ رسول الله قد يتأخر في إبلاغ ذلك الأمر الذي نزل من ربه، وهو الأُسوةُ والقدوة في المسارعة بالعمل بما نزل من قبل المولى جل وعلا، وإنّما ليبين للناس كافة أهميّة ذلك البلاغ في حياة الأُمَّـة ودوره الكبير في تحديد مصيرها ونجاتها ممن يتربصون بهذا الدين، ويسعون لإضلال المسلمين، وحرفهم عن الطريق القويم.

وما كان ذلك الحديث الذي ذكره رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم في ثنايا خطبته إلا تتويجاً لما جاء من قبله من أحاديث في فضائل الإمام عليّ عَلَيْــهِ السَّلَامُ، الذي كان كُــلّ اهتمامِه إعلاءَ كلمة الله ونصرة دينه، ليدرك الناس جميعاً أن لا أحد يستحق تلك المكانة العظيمة سوى هامة عظيمة جسدها ذلك الرجل العظيم، الذي تمثل القُــرْآن قولاً وعملاً، فحق أن يقال عنه قرين القُــرْآن.

وبرغم أنّ هذا الحديثَ هو من الأحاديث المتواترة عند السنة والشيعة، إلا أنّ هناك ممن يدعون أنّهم من أتباع السُّنة كالوهّابية، يشككون في دلالات هذا الحديث؛ لأَنَّهم لا يستطيعون إنكاره، بل حاربوا أيضاً من يؤمن به، وتنكروا له كما تنكر له من قال بعد ذكر رسول الله لهذا الحديث: (بخٍ بخٍ لك يا بنَ أبي طالب، أصبحت مولانا ومولى كُــلّ مؤمن ومؤمنة). لأنّهم يعلمون جيداً ما الذي يمثله تولي الإمام عليّ من أهميّة عظيمة في حياة الأُمَّـة ونجاتها من حياة الضلال والظلام؛ لأَنَّ الإمامَ علياً عَلَيْــهِ السَّلَامُ هو حلقة الوصل والامتداد لولاية الله والقيادة الربانية التي أراد الله لها أن تقود الأُمَّـة إلى طريق الأمان.

ومع وجود الكثير من الأحاديث المتواترة في مناقب الإمام عليّ مثل قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (الحق مع علي وعلي مع الحق، لن يفترقا حتّى يردا عليَّ الحوض). وقوله (أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنّه لا نبي بعدي)، إلا أنّ هناك الكثيرَ ممن يصر على أن يغلق على نفسه أفق التأمل في الدلالات الواضحة لما جاء في هذه الأحاديث، إما لتعصب أعمى، أَو تجاهل مقيت.

فماذا كانت النتيجة عندما ابتعدت الأُمَّـةُ عن مصادر الهداية المصطفاة من قبل المولى عز وجل سوى حالة رهيبة من الضلال والذل والهوان. والأدهى من ذلك أنّ الظالمين قدموا أنفسَهم باسم الإسْــلَام، ومنحوا أنفسَهم أسماءً وألقاباً ليغطّوا على ما أحدثوه من بِدَعٍ وهدم لأركان الدين، فعاشت الأُمَّـة حالة من التيه كالذي نال بني إسرائيل، ولن يخرجها مما حل بها سوى العودة لولاية الله وولاية رسوله وولاية الإمام عليّ وولاية أعلام الهدى الذين هم امتداد لولاية الله على هذه الأرض.

قد يعجبك ايضا