صبرا وشاتيلا سَردِيّة موت لا ينتهي.
موقع أنصار الله || صحافة عربية ودولية ||العهد الاخباري: هيثم أبو الغزلان
“على امتداد ثلاثٍ وأربعين ساعة متواصلة، ما بين غروب يوم خميس، وظهر يوم سبت، ما بين السادس عشر والثامن عشر من أيلول (سبتمبر) 1982، كانت مجزرة صبرا وشاتيلا، إحدى أبشع المجازر الهمجيّة في القرن العشرين”. بكلماتٍ قليلةٍ لخّصت الكاتبة “بيان نويهض الحوت” في كتابها (صبرا وشاتيلا أيلول 1982)، ما حصل في إحدى أبشع المجازر الهمجيّة في القرن العشرين.
في تلك الأيام لم تكن الطفرة الإعلامية موجودة لتصنع رأيًا عامًا ضاغطًا يُظهر بشاعة ما جرى، رغم ذلك لم يستطع أحد إنكار المجزرة التي حاولت سلطات العدو “الإسرائيلي” اللعب على أعداد ضحاياها تقليلًا للعدد (3500 ضحية) أو تضخيمًا له (7000 ضحية)، بهدف امتصاص الآثار والنتائج المترتبة على هذه المذبحة المرتكبة ضد المدنيين العزّل.
أجمعت آراء من نجا من المذبحة على التحديد والوصف الدقيق لبشاعة ما جرى؛ فهناك حَصَد رصاص الحقد الأسود كل الأبرياء.. كان القتلة يقطعون الماء.. ويحصون الأنفاس.. ويمنعون الهواء.. ويتفنّنون في ذبح من تبقّى على فراش الموت، أو في الطرقات؛ فالجثث المُقطّعة، والحوامل اللواتي بُقرت بطونهنّ، والرجال الذين أعدموا فرادى أو جماعات، والبيوت التي نُهبت وقتل من كان بداخلها، والفتيات اللواتي اغتصبهن الجزّار، والأطفال الذين قتلوا بلا رحمة ولا شفقة، حيث قام المجرمون بشقِّ الأطفال إلى “شَقفتين”!! في تلك الساعات أَعمَلَ المجرمون القتلة رصاصهم وسواطيرهم وبلطاتهم بمدنيين كانوا من المفترض أنّهم يحظون بحماية بموجب اتفاق دولي بضمانة أمريكية، فحصلت المجزرة والقنابل المضيئة “الإسرائيلية” تضيء سماء المنطقة التي حاصرها جيش الاحتلال “الإسرائيلي” حصارًا شاملًا لتسهيل مهمة القتلة. فمنع الجيش “الحضاري” مَن حاول الهرب من النساء والأطفال والشيوخ والعجائز من مغادرة المنطقة وأعادوهم من حيث جاؤوا ليواجهوا مصيرهم المحتوم.
فالقتلة بدأوا جرائمهم بقتل الأبرياء بالسكاكين حتى يضمنوا عدم إصدار أصوات، وفي ثاني يوم من المجزرة بدأ القناصة المنتشرون في شوارع المخيم بقتل أي شخص يعبر الشارع. بعدها بدأ المجرمون بدخول المنازل وإطلاق النار على المدنيين، ونسف البيوت وتحويلها إلى أنقاض.
كان الأطفال في المجزرة يُذبحون كما غيرهم كالخراف، كما الآن يُذبحون في أكثر من مكان.. والنساء لم يعدن قادرات على ندب حظّهن، لأنّهن قُطّعت أيديهن وأرجلهن وألسنتهن، وشُوّه الوجه الجميل. وأصبح الرجال عاجزين عن واجب الحماية، وقتلهم صوت الأنين… فالأشلاء ممزّقة في كل شارع، وكل زاروب، وكل منزل. ولطّخت الدماء الجدران الجميلة المُلوّنة بلون العلم الفلسطيني المطرّز بالدّم القاني الذي رشقه الطفل بوجه الغاصب ليدُلّ على الجريمة، إن حاولوا طمسها، أو نسيان معالمها.
وقد روى ماهر مرعي – أحد النّاجين من مجزرة صبرا وشاتيلا – ما حدث ليلة السادس عشر من أيلول 1982ـ، فقال: “رأيت الجثث، أمام الملجأ مربوطة بالحبال لكنّي لم أفهم، عدت إلى البيت لأخبر عائلتي، لم يخطر في بالنا أنّها مجزرة، فنحن لم نسمع إطلاق رصاص، أذكر أنّي رأيت كواتم صوت مَرميّة قرب الجثث هنا وهناك، ولكنّي لم أدرك سبب وجودها إلا بعد انتهاء المجزرة”. وقد وصف الصحافي الفرنسي “روبرت فيسك” المجزرة بأنها “أفظع عمل إرهابي في تاريخ الشرق الأوسط الحديث، وهو الأكبر حجماً وزمناً، وارتكبه أفراد يعرفون تمام المعرفة أنّهم يذبحون أناسًا أبرياء”.
وقال الصحافي الفرنسي “الإسرائيلي” “آمنون كابليوك”، “استمرت المذبحة أكثر من أربعين ساعة. وكان في مشهد القتل أربعمئة رجل من الإسرائيليين، واللبنانيين، يتفرّجون، وحسب تعبير ضابط إسرائيلي: (كان يمكن للمرء، وهو على سطح تلك العمارات، أن يرى، كما لو كان في الصفّ الأمامي من المسرح). وكانت المواقع الإسرائيلية المتقدمة للمظليين تبعد (200 متر) عن المخيم. وكان الجميع مُزوّدين بمناظير ليليّة، وتلسكوبات في موقع القيادة الإسرائيلية في الطابق السابع من العمارة التي يحتلّونها. وطيلة الساعات الأولى، قتلت الميليشيات الكتائبية، والقوّاتية، مئات الأشخاص، وأطلقوا النار على كل ما يتحرّك في أزقة المخيم”.. وبعد تلك المجزرة، أدخل الإسرائيليون شاحنات عسكرية، وجرافات فحملت جثامين شهداء إلى أمكنة غير معروفة ودفنتها هناك. أما الأحياء الذين اعتقلوا فنقلتهم الشاحنات لتختفي آثارهم حتى اليوم. وبناء على ما تقدّم كان من المنطقي أن تتوصّل مجلة (هاعولام هازيه) “الإسرائيلية” إلى نتيجة مفادها أن “إسرائيل خسرت المعركة السياسية قبل وقوع مذابح صبرا وشاتيلا. ومنيت بهزيمة أخلاقية، بسبب مقتل (آلاف الأبرياء) في صبرا وشاتيلا”.
رغم ذلك لم يكترث قسم كبير من المجتمع “الإسرائيلي” بهذه المجزرة، فقتل العرب عموماً ـ كما كتب الصحافي الإسرائيلي (يوئيل ماركوس) في “هآرتس” (19/11/1982) ـ، والفلسطينيين بشكل خاص، يحظى بشعبية واسعة، أو (لا يزعج أحداً) على الأقل. لقد سمعت ـ بحسب ماركوس ـ، أناساً مستنيرين، ومثقفين يمثلون (ضمير تل أبيب)، يقولون: إنَّ المذبحة، بوصفها خطوةً نحو اجتثاث الفلسطينيين الباقين من لبنان، ليست رهيبة، لكنَّ الأمر السيئ أنّنا كنّا بجوارها، قريباً منها. وهذا أدّى إلى تدهور في مكانة “إسرائيل”، حيث استنتجت السفارة “الإسرائيلية” في أميركا أنَّ (مكانة إسرائيل في وسائل الإعلام، وصلت إلى أدنى مستوى لها منذ تأسيسها عام 1948).
إن مجزرة صبرا وشاتيلا الرهيبة ستبقى وصمة عار على جبين من خطّط لها ونفّذها أو سكت عنها من الصهاينة وأتباعهم من الكتائبيين والقواتيين وكل الذين وقفوا على الحياد فيما الدم الفلسطيني واللبناني والعربي يُسفك في هذه المجزرة الرهيبة. إن هدف العدو الصهيوني وأعوانه وحلفائه من ارتكاب مجزرة صبرا وشاتيلا هو إبادة الشعب العربي الفلسطيني وتصفيته بالقتل أو إجباره على الهجرة خوفًا من هذه الإبادة، ولكن ظلّ شعبنا كما كتب “محمود درويش” في قصيدة (صبرا وشاتيلا):
..ويكون بحر/ ويكون بر/ ويكون غيم/ ويكون دم/ ويكون ليل/ ويكون قتل/ ويكون سبت/ وتكون صبرا/ صبرا تقاطع شارعين على جسد/ صبرا نزول الروح في حجر/ وصبرا لا أحد/ صبرا/ هوية عصرنا حتى الأبدْ..