السياسات الأميركية الفاشلة: ترامب يجر واشنطن الى الحضيض

|| صحافة عربية ودولية || العهد

في الربع الأخير من سنة 2016 تم انتخاب “البيزنس مان” دونالد ترامب رئيسًا للولايات المتحدة الاميركية. وقبل تسلمه المقعد الرئاسي رسميًا في كانون الثاني 2017، سارت المظاهرات الشعبية ضده في كافة أرجاء البلاد، وهذا يحدث لأول مرة في الانتخابات الرئاسية الأميركية. وحمل بعض المتظاهرين شعار “الموت ولا ترامب”. ومهما كان يقصد رافعو هذا الشعار بوجه ترامب، فقد جاءت جميع أحداث عهد ترامب لتؤكد ان هذا “البيزنس مان” المهووس بجمع الأموال كيفما كان وبأية طريقة ممكنة، انما يقود الدولة الأقوى والأغنى الأولى في العالم الى الافلاس التام، بجميع وجوه الافلاس الاستراتيجي والسياسي والاقتصادي والتجاري.

وتحت وهم الاحتفاظ بدور أميركا بوصفها القطب الأوحد في العالم، رفع دونالد ترامب الشعار الهتلري “اميركا اولا”، وذلك ليس فقط بوجه الدول المخاصمة لأميركا بل بوجه جميع دول العالم على الاطلاق. والسياسة الخرقاء التي تنتهجها ادارة ترامب قادت أميركا الى نتيجتين سلبيتين رئيسيتين:

الاولى ـ ظهور العجز التام أمام خصوم أميركا.

الثانية ـ العزلة الأميركية والتباعد المتواصل بين أميركا وبين الدول الصديقة التقليدية لها، بما في ذلك جارتاها كندا في الشمال والمكسيك في الجنوب.

والآن، يستعد ترامب لدخول الانتخابات الجديدة في السنة القادمة 2020 على أمل أن يحصل على ولاية ثانية له.

وبهذا الصدد لا بد من اجراء جردة حساب، مهما كانت صغيرة، لـ”الانجازات” السلبية التي حققتها الادارة الترامبية لأميركا:

ـ1ـ نبدأ من فنزويلا، في الحوش الخلفي للولايات المتحدة الاميركية: ان هذه الدولة غنية جدًا بمكامن البترول ويمكنها أن تحقق نهضة صناعية واقتصادية وعلمية واجتماعية كبرى. ولكن أميركا تكبل فنزويلا منذ عشرات السنين باتفاقات دولية تتعلق باستخراج وتوريد النفط، وبالودائع الاحتياطية للدولة من الذهب والدولار التي تجبر فنزويلا على ايداعها في البنوك الاميركية والبريطانية فقط.

وبعد وفاة الرئيس الثوري هوغو تشافيز في 2013 وحلول الرئيس نيكولاس مادورو مكانه اعتقدت الادارة الاميركية أن بإمكانها خنق فنزويلا اقتصاديًا بسهولة والتسبب في مجاعة في البلاد تستفيد منها المعارضة العميلة لأميركا لأجل الانقلاب على مادورو. ولكن هذه الخطة فشلت فشلًا ذريعًا بسبب التفاف الجيش والجماهير الشعبية حول قيادة نيكولاس مادورو. وأملت الادارة الأميركية أن يخسر مادورو الانتخابات الرئاسية التي جرت في 2018، ولكن خاب ظنها أيضًا.

فبدأت التهديدات العسكرية الأميركية ضد الحكومة الشرعية في فنزويلا، وجرت محاولة انقلاب عسكرية فاشلة، وأخيرًا تم تحريض دولة الكوكايين الاكوادور على مهاجمة فنزويلا، ولكن جميع هذه المحاولات فشلت، وقد عمد الرئيس مادورو الى خلع بدلته المدنية ولبس بدلة القتال الخاصة بقوات المتطوعين الشعبيين للدفاع عن الثورة الفنزويلية التي ضمت مئات ألوف المقاتلين الى جانب الجيش النظامي الموالي للثورة.

 

وانكفأت المعارضة العميلة، واضطرت كولومبيا إلى أن تتراجع أمام ضغط الجماهير الكولومبية ذاتها بما فيها عمال زراعة نبتة الكولا الذين كانوا يقولون: نحن لسنا تجار مخدرات ولكننا عمال فقراء نعمل في زراعة نبتة الكولا لنطعم أطفالنا الجياع. ومنذ أشهر تحط القلاع الروسية الطائرة العملاقة في فنزويلا بطلب من الحكومة الشرعية. وفي البداية أخذت آلة البروباغندا الأميركية “تنبح” ضد روسيا: لا شك أن الطائرات الروسية تحمل المواد الغذائية والطبية الى فنزويلا، أما ماذا تحمل الطائرات الروسية غير ذلك؟ الله أعلم. ولكن “النباح” الأميركي ضد الطائرات الروسية قد توقف.

 

ـ2ـ منذ عهد أوباما انفقت الادارة الاميركية مليارات الدولارات كي تنظم الانقلاب الفاشستي المعادي للروس ولروسيا في أوكرانيا في شباط 2014، وكانت تزمع ضم أوكرانيا الى حلف “الناتو” لنصب الصواريخ النووية قرب الحدود الروسية بالذات. ولكنها فشلت في ذلك فشلًا ذريعًا.

 

وكانت النتيجة عكسية، اذ جرى في شبه جزيرة القرم (روسية الأصل تاريخيًا) استفتاء شعبي، أعلنت القرم بموجبه العودة للانضمام الى روسيا.

كما أن منطقتي دونيتسك ولوغانسك في حوض الدونباس في شرق أوكرانيا، وهما ذواتا أغلبية سكانية من الروس والناطقين باللغة الروسية أعلنتا الانفصال عن أوكرانيا الانقلابية وتشكلتا في جمهوريتين مستقلتين ذاتيًا، وجرت فيهما انتخابات برلمانية ورئاسية على الأساس الاستقلالي.

وبأوامر من الرئيس المافيوزي بيوتر بوروشينكو المدعوم أميركيًا وناتويًا شن الجيش الاوكراني عدة حملات لاستعادة المقاطعتين المنفصلتين بالقوة. ولكن القوات الشعبية في المقاطعتين، المدعومة بعشرات الألوف من المتطوعين القوزاق الروس الأشقاء لقوزاق الدونباس، أفشلت تمامًا الهجمات الوحشية للقوات الانقلابية الاوكرانية، وكان يمكن للقوات الشعبية الدونباسية أن تواصل الهجوم المعاكس للوصول الى العاصمة كييف ذاتها وتحريرها، لكن القيادة الروسية نصحت القوات الشعبية في الجمهوريتين المستقلتين بالتوقف عند خطوط وقف اطلاق النار التي أصبحت تحرسها قوات رمزية للمراقبة من قبل الاتحاد الاوروبي. وحينما دخل ترامب الى البيت الابيض أحدث “طنّة ورنّة” وأرسل الغواصات والسفن الحربية الاميركية الى البحر الاسود محاولًا استعادة شبه جزيرة القرم بالقوة، كما شن الجيش الاوكراني مع العصابات الفاشستية هجومًا جديدًا على الدونباس لاستعادة دونيتسك ولوغانسك.

 

لكن صمود الاسطول الروسي وظهور الطيران الاستراتيجي الروسي في أجواء البحر الأسود أجبر الغواصات والسفن الحربية الأميركية على الانسحاب، كما تحطم الهجوم الانقلابي ـ الفاشستي الأوكراني ضد شرق اوكرانيا. وفي أيار 2019 جرت انتخابات رئاسية جديدة في اوكرانيا سقط فيها الملياردير المافيوزي بيوتر بوروشينكو المعادي لروسيا، وفاز الممثل الكوميدي فولودومير زيلينسكي الناطق باللغة الروسية والذي يقف في نقطة متوسطة بين روسيا والاتحاد الاوروبي واميركا. وهو الان يلعب على جميع الحبال. ولا يمكن التكهن اذا كان سينجح أم سيسقط أمام مرشح آخر، “روسي” تماما هذه المرة. وتندلع الآن في أميركا فضيحة سياسية كبيرة وهي أن دونالد ترامب اتصل هاتفيًا بزيلينسكي وهدده بقطع المساعدات الأميركية التي لا غنى لأوكرانيا عنها، اذا لم يستخدم نفوذه لفبركة تهمة فساد ضد هانتر جو بايدن، الشريك في شركة غاز في أوكرانيا، وذلك من أجل تشويه سمعة والده جو بايدن المنافس الديمقراطي ضد دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية الأميركية القادمة.

 

ـ3ـ افتعل ترامب أزمة الحدود مع المكسيك بسبب تدفق المهاجرين الفقراء من أميركا اللاتينية الى أميركا، وهدد ببناء جدار عازل بين البلدين وطلب من الكونغرس الأميركي ميزانية بمليارت الدولارات لبناء هذا الجدار العنصري. وأعطيت الأوامر لحرس الحدود الأميركيين باطلاق النار وقتل المهاجرين البائسين. كما طبقت سياسة أخذ الأطفال عنوة من عائلاتهم بحجة تجديد شباب اليد العاملة الاميركية وطرد المسنين.

 

وقد أدت هذه السياسة الى المآسي لآلاف العائلات الاميركية اللاتينية البائسة التي فصل عنها أبناؤها وقامت حملة دولية ضد أميركا لاعادة الاطفال الى عائلاتهم. وهو ما مرغ سمعة أميركا في الوحل بوصفها دولة “ديمقراطية” و”مدافعة عن حقوق الانسان”.

4ـ من أجل جمع الأموال، شنت ادارة ترامب حربًا حقيقية لفرض الضرائب الجمركية والرسوم الاستثنائية على الالومينيوم والصلب وغيرهما من السلع والبضائع المستوردة الى اميركا بدون أي تشاور مع الأطراف المعنية. وقد أضر ذلك بالعلاقات بين أميركا وعشرات الدول بما فيها أقرب جارة اليها وهي كندا. وقد أدت هذه السياسة الرعناء الى خلخلة السوق الانتاجية والاستهلاكية داخل أميركا بالذات. وتقوم الآن حرب تجارية حقيقية بين أميركا والاتحاد الاوروبي بسبب المزاحمة بين عملاقي صناعة الطائرات “ايرباص” الاوروبية و”بوينغ” الاميركية.

 

ـ5ـ استخدمت ادارة ترامب كل أشكال الضغط العسكري والسياسي والاقتصادي و”المرونة” والألاعيب الدبلوماسية (بما في ذلك ذهاب ترامب شخصيا للقاء الزعيم الكوري الشمالي) وذلك من أجل ثني كوريا الشمالية عن تنفيذ برنامجها النووي الصاروخي الذي أصبح يهدد أميركا بالذات. وقد حصدت أميركا الفشل التام على هذا الصعيد.

 

ـ6ـ أنفقت أميركا آلاف مليارات الدولارات على حروبها العدوانية في افغانستان والعراق، ولأجل تغيير خريطة الشرق الاوسط واقامة “الخلافة الارهابية التكفيرية” في سوريا والعراق ولبنان وغيرها، ولكنها فشلت فشلًا ذريعًا. والوجود الاميركي في أفغانستان والعراق وسوريا يلفظ الآن أنفاسه الأخيرة.

 

ـ7ـ قبضت أميركا مئات مليارات الدولارات من السعودية ودول الخليج التي تشارك في حرب اليمن من أجل حمايتها من الأخطار. وحينما قام ثوار اليمن الفقراء والمظلومون بضرب شركة “أرامكو”، لم تجد الادارة الأميركية أمامها سوى أن تعلن أنها لن تخوض الحرب لاجل السعودية.

 

ـ8ـ اعتبرت الادارة الاميركية نفسها أنها في حالة حرب، وشنت حملة مواجهة شاملة ضد روسيا والصين، ماليًا وتجاريًا واقتصاديًا ودبلوماسيًا، وحشدت جل قواتها العسكرية في بحر الصين والمحيط الهادي والمحيط المتجمد الشمالي وبحر البلطيق والبحر الأسود، وخرجت من اتفاقية الصواريخ قصيرة ومتوسطة المدى مع روسيا وهددت بنشر هذه الصواريخ قرب الحدود الروسية، خلافًا للاتفاقات السابقة، ونادت بالويل والثبور وعظائم الأمور. ولكن روسيا والصين تتصرفان برباطة جأش وروية وهدوء وكأن كل الحملة الشاملة الاميركية ليست اكثر من وخزة ذبابة في ذنب الدب الروسي او التنين الصيني. وتعمل الدولتان على بناء نظام مالي ـ بنكي عالمي بديل عن النظام العالمي الذي تسيطر عليه اميركا.

وتواصل الصين تطوير وتوسيع برنامجها الاقتصادي التجاري والثقافي العالمي المسمى “حزام واحد ـ طريق واحد”. كما تعمل روسيا على مواصلة مد خطوط الأنابيب القارية للغاز الروسي وهي تمد يد العون لايران لكسر طوق الحصار النفطي والمالي ضدها. وحينما يحتاج الأمر تأتي الأساطيل البحرية والجوية الروسية للقيام بنزهات سلمية أمام القوات الأميركية كما جرى في فنزويلا وأوكرانيا والبحر الاسود أو تأتي الطائرات المقاتلة والغواصات والصواريخ المجنحة الروسية لشن حملات عسكرية ساحقة كما جرى ضد الخلافة الداعشية في سوريا وذلك على مرأى من القوات الاميركية التي لم تملك سوى ان “تتفرج” على اتباعها وهم يسحقون (والفرجة ببلاش!).

 

ـ9ـ انسحبت ادارة ترامب من طرف واحد من الاتفاقية النووية (5+1) مع ايران بما يخالف جميع القوانين والأعراف الدولية، وقامت بفرض اقسى العقوبات المالية والاقتصادية على ايران وهددت بتخفيض تصدير النفط الايراني الى الصفر ووجهت التهديدات الهستيرية ضد الجمهورية الاسلامية الايرانية وحشدت الجيوش والاساطيل الاميركية في القواعد العسكرية في السعودية وغيرها وفي بحر العرب ومضيق هرمز والخليج، وشق النباح الاعلامي المناوئ لايران عنان الفضاء. ولكن ايران حافظت على رباطة جأش وصلابة وحكمة قيادتها وتابعت برنامجها النووي السلمي واستخدمت علاقات الصداقة الدولية التي تربطها بشتى الدول لكسر الحصار المالي والنفطي والاقتصادي كما تابعت استعداداتها العسكرية الجبارة للرد على اي عدوان. واذا كان سياسيون مسعورون كجون بولتون ومايك بومبيو لا يعرفون، فإن العسكريين الاميركيين يعرفون تمامًا أن كل القوات الاميركية وحلفائها في المنطقة لن تصمد أمام أي هجوم معاكس ايراني بحيث تهبط أسعار الحديد الخردة في الاسواق العالمية. ولم يبق أمام ادارة ترامب سوى استجداء المفاوضات مع القيادة الايرانية التي ردت بأنه لا مفاوضات مع أميركا الا بعد رفع جميع العقوبات الحالية واعادة الأمور الى مجراها الطبيعي. والآن لم يبق من الحملة الأميركية المسعورة ضد ايران سوى نباح ومواء كلاب وقطط البروباغندا الاميركية، العرب والاجانب. وفي الحساب الأخير فإن الكلاب والقطط الاعلامية ينبغي أن تعمل شيئًا كي تعيش.    

   

ان ادارة ترامب هي أسوأ ادارة اميركية في تاريخ أميركا الحديث، وهي نالت “قصب السبق” حتى الآن في تقريب الامبريالية الاميركية ـ اليهودية العالمية من مصيرها الاسود المحتوم بوصفها العدو الاول لجميع دول وشعوب العالم.

جورج حداد

 

قد يعجبك ايضا