واشنطن وإحياء “داعش”..الهيمنة بكلفة أقل
|| صحافة عربية ودولية ||
أعطى انتشار “داعش” في المنطقة العربيّة وتهديده الأمن العربيّ وفقدان القدرة على مواجهته، الذريعة للقوّات الأميركيّة بالدخول مجدّداً إلى العراق، فضلاً عن تعبيد الطريق للجيش الأميركيّ للدّخول إلى سوريا، تحت حجة هذه المواجهة. كما إنّ تمدّد التنظيم في الشّمال السّوريّ، أعطى الذريعة لتركيا بالدخول مباشرةً إلى سوريا والعراق، وخرق سيادتهما، وتشكيل أحد أبرز التحدّيات للدّولتين السّوريّة والعراقيّة بحجة الوجود الكرديّ فيهما.
شكّلت الحرب ضدّ تنظيم “داعش” ذريعةً مناسبةً للولايات المتّحدة الأميركيّة، لتعود قوّاتها العسّكريّة إلى المنطقة العربيّة، عبر إعادة تموضع وزيادة هذه القوّات في العراق، بعد الإنسحاب منه عام 2011. ومن ثم الدّخول إلى سوريا، التّي لم تنصع للسّياسات الأميركيّة. وكان ذلك فرصة لواشنطن بعد أن شكّل الانسحاب من العراق خطأً استراتيجياً بالنّسبة لها، وذلك لأنّه اعتبر بدايةً تراجع هيمنتها في المنطقة العربيّة، وانكفاءها عن الشّرق الأوسط. لذلك استفادت الإدارة الأميركية من تنظيم “داعش”، لإرسال قوّاتها إلى العراق وسوريا، فهذا التّنظيم شكّل أداةً “لخدمة مصالح واشنطن، في هذه المنطقة من العالم، حيث أكدت دراساتٌ غربيةٌ أنّ “داعش” صنيعة المخابرات الأميركيّة، وأنّ أجندة واشنطن لمكافحة الإرهاب في العراق وسوريا تتمثّل في دعم الإرهابيّين من أجل استخدامها في تثبيت النفوذ.
لقد وضعت اللّبنات الأولى لنشوء هذه التّنظيمات في أفغانستان، التّي شكّلت محطّةً تاريخيّةً فيما بعد لصعود التنظيمات الإرهابية، وقد أشارت وزيرة الخارجيّة الأميركية السابقة هيلاري كلينتون إلى هذا الأمر، معتبرةً أنّ بلادها تقف خلف نشوء “داعش” ولو بطريقةٍ غير مباشرةٍ. وقد شكّل توسّع “داعش” كبرى، أمام الإدارة الأميركيّة لتوسيع نفوذها، تحت غطاء التّحالف الدّوليّ، ما يحقّق استراتيجيتها في الربط بين الحدود العراقيّة والحدود السّوريّة عبر شرق الفرات وانتشار قوّاتها في هذه المنطقة الاستراتيجيّة التّي تربط بين البلدين، وتمنع من إعادة التقاء الجيشين السّوريّ والعراقيّ والقوّات الحليفة لهما، فضلاً عن أن عين واشنطن ـ على الآبار النفطية التّي لن تسمح لأحد بالسيّطرة عليها.
وعليه يمكن القول، إنّ التّنظيم شكّل أداةً لخدمة مصالح واشنطن، وقد نشر مركز الأبحاث الكنديّ غلوبل ريسيرش، مقالاً للكاتب ستيفن ليندمان، قال فيه “إنّ قادة البنتاغون ساعدوا مسلحي “داعش” بدلاً من قتالهم والقضاء عليهم، مُشيراً إلى أنّ دعم واشنطن لـ”داعش” سرٌّ قذرٌ، فواشنطن تقوم بتمويل وتدريب وتوجيه التّنظيم وغيره من الإرهابيين، إنّهم يقومون بدعم الآفة التّي يتظاهرون بمعارضتها، لا بل إنّ واشنطن توفر الغطاء لقوّات “داعش” لاستعادة قوّتها وتجميع نفسها لأنّها تؤدّي إلى خدمة مصالحها في الشّرق الأوسط”. وقد دعمت “واشنطن” فصائل المعارضة بالمال والسّلاح، لإسقاط الحكومة السّوريّة، وقد تحوّل الكثير من عناصر هذه التّنظيمات فيما بعد، من معارضةٍ تريد إسقاط الحكومة، إلى عناصر مُنضوية في التّنظيمات الإرهابية. ومن ثم اعتمدت الإدارة الأميركية على “قوّات سوريا الدّيمقراطيّة”، من أجل تثبيت النفوذ في شمال سوريا، وخاصةً في شرق الفرات من أجل تثبيت نفوذها في هذه المنطقة الاستراتيجية على الحدود مع تركيا والعراق الغنية بالنفط.
كانت واشنطن تسعى من خلال انتشار قوّاتها في سوريا، للسيّطرة على المنطقة المعروفة بدرع الفرات، الواقعة ما بين نهر الفرات إلى الشّرق وتلك الواقعة إلى الغرب منه، والتّي كانت تسيّطر عليها “داعش”، لما تحتويه من ثرواتٍ نفطيةٍ يمكن لواشنطن الحصول عليها، والاستفادة من موقعها خلال أيّ مفاوضات تحفظ لواشنطن مكاسب اقتصادية في سوريا. كذلك فإنّ هذه المنطقة هي منطقةٌ واصلةٌ بين سوريا والعراق، كانت واشنطن تسعى لمنع التقاء الجيشين السّوريّ والعراقيّ وعدم فتح الحدود السّوريّة ـ العراقيّة من خلال السيّطرة عليها.
مع بدء العملية العسكرية التركية، وانسحاب القوات الأميركية من جزء من شرق الفرات، بقرار من دونالد ترامب الذي خذل حلفاءه الأكراد، يعود الحديث عن مساعي واشنطن لإعادة إحياء هذا التنظيم واستخدامه كورقة ضاغطة على المنطقة العربية وفي مقدمتها الدولتان السورية والعراقية، ومحاولة إعطائه الدفع للتمدد نحو الجمهورية الإسلامية الإيرانية من أجل محاصرتها. فخروج ترامب من شرق الفرات على الرغم من أنه يعد انكفاءً خارج المنطقة، إلا أنه ايضاً يأتي بعد فتح معبر البوكمال _ القائم، وبالتالي يريد أن يوجه رسالة بإعادة الإرهابيين للقول إن القوات الأميركية هي التي تحفظ أمن المنطقة من الإرهاب.
وإذا ما ربطنا بين تصريح زعيم “داعش” الإرهابي أبو بكر البغدادي حول ضرورة تحرير عناصر تنظيمه من السجون والمعتقلات، مع إشارة قسد إلى إمكانية تركها حراسة هذه المعتقلات، والحديث الغربي عن وجود عناصر إرهابية في المخيمات الموجودة على الحدود، فضلاً عن وجودهم داخل المعتقلات باعداد تصل إلى ما يقارب 3000 إرهابي أوروبي و9000 إرهابي عربي أكثرهم من سوريا والعراق، فإن ذلك يعني إمكانية فرارهم، وبالتالي إعادة الدفع نحو ترميم قوة التنظيم الإرهابي وعودة أعماله بشكل اوسع، وهذا ما يبين الخطورة في الخطوات التي تلعبها إدارة ترامب وتشي بنية أميركية في إعادة إحياء تنظيم “داعش” وتمدده بين سوريا والعراق، ومن ثم إعادة الزخم لأعماله الإرهابية في الدول الأوروبية.
وهكذا نرى أن الإدارة الأميركية التي صنعت هذا التنظيم، لا تزال بحاجة إليه من أجل تحقيق مصالحها في الشرق الأوسط، واستخدامه كحركة قتالية، تقاتل بالوكالة عن الجيش الأميركي، وهكذا يمكنها مواجهة روسيا وإيران وسوريا والعراق من دون أن تستخدم جنودها لمحاصرة سوريا وحلفائها وتثبيت هيمنتها في الشرق الأوسط، بأقل تكلفة ممكنة، وتحقيق أرباح عبر صفقات السلاح والدفاع عن الدول العربية، بعد إيهامها أنها تعاني من هذا الإرهاب الذي شكل خطرا محدقا عليها.
موقع العهد .. د.علي مطر