صفقة القرن.. واليقين الممهور بالدم

|| صحافة ||

إنّ تعليق رئيس وزراء العدو على تصريح وزير الخارجية الإماراتي، هو أشدّ وقعاً من تصريح الوزير ذاته بكل ما أوتي من بلاهة التزلف وعنجهية التفريط، فقد اعتبر نتن ياهو أنّ تصريح الوزير الإماراتي هو بمثابة دليل على تغيير الموقف العربي تجاه “إسرائيل”، وحين تُعتبر مشيخة طرفية هامشية تاريخياً وجغرافياً وسياسياً هي المقياس وهي القائد، فنحن حتماً في قعر الحاضر ومجاهل التاريخ. فالتغييب بفعل فاعل لعواصم العرب الكبرى دمشق وبغداد والقاهرة، لا نتائج حتمية له سوى أن تصبح الإمارات-ساحل عُمان سابقاً- هي الرائدة على أمةٍ راكدة، والتصريح الإماراتي بكل ما أوتيَ من عارٍ فهو عارٌ على مطلِقه حصراً. أمّا تعليق نتن ياهو فهو يلحق العار بكل من سمع ورضي من العرب، لأنّ نتن ياهو اعتبر أنّه تصريح يمثل كل الناطقين بالضاد من المحيط إلى الخليج، وهذا هو وجه المضاضة الأشد.

وكان الوزير الإماراتي قد غرد: “في ذكرى المحرقة النازية نقف مع الإنسانية في رفضها للعنصرية والكراهية والتطرف، نتذكر الأرواح التي أزهقت كي لا تتذكر هذه الجرائم ضد البشرية”.

مرحلة تلطي الوجه التطبيعي للسعودية خلف البحرين انتهت وبدأت مرحلة ولوج المعترك التفريطي بنفسها

لا أريد تذكير الوزير الحساس بأنّ هذه الجرائم كما يراها تكررها “إسرائيل” منذ قرن من الزمان في كل مكان تصله طائراتها، فهذا نوعٌ من المناكفات الصبيانية التي لا أجيدها، ولكني أريد لفت نظر الوزير إلى “هولوكوست” يجري في اليمن بأسلحةٍ أمريكية – “إسرائيلية” بأيدٍ إماراتية، وأنّ هناك محرقة نازية تجري منذ خمس سنوات قد يعتذر عنها النازيون لو شاءت الأقدار لهم نشوراً، هذا بخلاف العبث الإماراتي بالدم والتاريخ والمصير في ساحاتٍ أخرى. ولكن يبدو أنّ حساسية الوزير المفرطة تتبلد فجأة حين يتعلق الأمر بغير “إسرائيل”.

ويُذكر أنّ هذه ليست المرة الأولى التي يقوم بها الوزير الإماراتي بالترويج للتطبيع بل الترويج للتحالف العلني مع “إسرائيل”. كما أنّ دولة الإمارات عموماً لم تعد تشعر بالحرج من إشهار هذه العلاقة والدفع باتجاه هذا التحالف، ويبدو أنّ الزمن قد تغير بسرعة أكبر مما كنا نعتقد، فقد قال الرئيس جمال عبد الناصر مستنكراً عن بعض دول الخليج يوماً “بقا خيمتين ونخلة حيقاطعوا مصر؟!” وقال السادات مستهجناً “هو كل حد فتح كشك على البحر.. حيعملنا فيها دولة؟!”، ونتن ياهو يضع الملح على الجرح ليذكرنا أو يقنعنا أنّ الخيام والأكشاك هي من تحتنكنا.

 

على وقع تصريحات الرئاسة الأمريكية عن قرب الإعلان عن بنود ما يسمى بـ”صفقة القرن”، وقَّع وزير داخلية العدو الصهيوني قراراً يسمح لـ”مواطنيه” بزيارة الأراضي السعودية، وهو ما يعني أنّ مرحلة تلطي الوجه التطبيعي للسعودية خلف البحرين قد انتهت، وبدأت مرحلة ولوج المعترك التفريطي بنفسها، رغم أنّ السعودية لم تكن يوماً في حالة عداء أو اشتباك مع العدو الصهيوني، وهي كانت على الدوام في خندقه بشكلٍ مباشر وإن اعذر فبشكلٍ غير مباشر.

وهذا كان يعرفه المواطن العربي بالفطرة دون الحاجة لاكتسابه بالمهارة، ولم يكن هذا الانحياز السعودي لـ”إسرائيل” خطراً داهماً رغم خطورته الكامنة، لكنه في هذه المرحلة يعتبر خطراً داهماً يلامس حدود الرقبة، حيث يمتلك النفط آلةً إعلامية هائلة للتأثير على الوعي الجمعي والتاريخ الجمعي والعقائد والمبادئ والمسلمات الجامعة، كما يمتلك محفظةً هائلة من الأموال للتأثير على الضمير الجمعي والحياء الجمعي والأخلاق الجامعة، ويمتلك نفوذاً سياسياً للتأثير على الرسميات العربية ومواقفها التقليدية رغم خوائها، وهذا التأثير قائم فعلاً منذ انكسار المدّ القومي ولو على استحياء، ولكنه في العقد الأخير توغل وتغول، ولنا أن نقارن فقط اليوم بما كان عليه العالم العربي سابقاً، حيث لم يكن يُطبع كتابٌ ترسم فيه مفردة “إسرائيل” بل يُشار إليها بالعدو، حتى الترجمات للكتب الأجنبية، كانت المطابع تظلل لفظ “إسرائيل” باللون الأسود، فيعرف المواطن العربي ما تحت البقعة السوداء.

 

إنّ ما تسمى بـ”صفقة القرن” هي نتاج أثافٍ ثلاث شديدة الهشاشة، أولها ترامب وهو ذكيٌ تجارياً لكن حماقاته في السياسة والتاريخ والجغرافيا غير مسبوقةٍ في رئيس أمريكي، وثانيها نتن ياهو وهو ليس أحمقَ لكن تمسكه بالمنصب وخشيته من الملاحقة وهشاشته العسكرية جعلت منه أرعنً يظن أن بإمكانه الطيران أو الوقوف فوق الماء، أمّا ثالثة الأثافي فهي تلك الكيانات الهامشية التي تضخمت وظيفياً على ضوء انتفاخها نفطياً وغازياً، وظنت أنّ التغييب القسري للعواصم العربية الكبرى أعطاها مساحةً فارغة قابلة لاستيعاب تورمها المفتعل، وهؤلاء الثلاثة بهذه المواصفات هم من سيجعلون من هذه الصفقة مجرد حبرٍ على ورق، خصوصاً إذا كانوا يعجزون حتى اللحظة عن خلق بيئة مؤاتية لتنفيذ تخرصاتهم، فهذه الصفقة تتطلب كسر العمود الفقري لمحور المواجهة، من خلال انتزاع سلاح الفصائل الفلسطينية، وسحب سلاح حزب الله، وتفكيك الجيش السوري وتقسيم سوريا، وسحب سلاح الحشد الشعبي وتقسيم العراق، ونزع سلاح الجيش اليمني وأنصار الله وتقسيم اليمن، واستسلام إيران وتفكيك برامجها الدفاعية والصاروخية، وهذه مستحيلات تفوق المستحيلات السبع، وإنّ أقصى ما يمكن لعرابي الصفقة فعله هو الصوت العالي والتثبيط. ولكن هذا اليقين بالفشل لا يعفي أيّ طرفٍ من دوره، فهذا اليقين ممهورٌ بالدم على امتداد كل تلك الساحات وسيُمهر بالمزيد.

 

ايهاب زكي

العهد

قد يعجبك ايضا
WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com