الأبعاد السياسية لقرار منع تداول العملة غير القانونية
بصفة مبدئية, من المؤكد أن النضالَ الاقتصادي والسياسي والدبلوماسي الذي تخوضه حكومةُ الإنقاذ الوطني في وجه محاولات قوى تحالف العدوان ومرتزقتهم من اليمنيين خنق الشعب اليمني اقتصادياً, يبدو كحالةٍ استثنائية في تاريخ الحروب العدوانية المعاصرة التي شنتها -ولا تزال تشنها- قوى الاستكبار العالمي على شعوب منطقتنا الرافضة لهيمنتها الاستعمارية بشكليها القديم والجديد، إذ تواجه حكومةُ الإنقاذ الوطني منذُ ما يقارب السنوات الخمس أشكالاً متعددة من محاولات الخنق الاقتصادي عبر وسائل عدة جربتها -ولا تزال- قوى تحالف العدوان، فمن القصف المدمِّر للبنى التحتية الاقتصادية والخدمية كالموانئ (البحرية والجوية) والمصانع, إلى الحصار الاقتصادي الخانق, إلى تجفيف منابع الموارد العامة, إلى سحب السيولة النقدية, إلى نقل البنك المركزي.
|| صحافة || المسيرة
الدكتور – سامي محمد السياغي*
لعل آخرَ مظاهر محاولات الخنق الاقتصادي تلك -وقد لا تكون الأخيرة-، عملية الطباعة المستمرّة للعملة بصورة غير قانونية ومسرفة وفي غير حاجةٍ مبررةٍ اقتصادياً أو نقدياً, بل ولا مترافقةً -من الأساس- مع أي زيادات ملموسة في مستويات الإنتاج الوطني من السلع والخدمات، لتتمكن من استيعاب تأثيرات تلك الزيادات من المعروض النقدي على سوق العرض والطلب على السلع والخدمات بما فيها خدمة تحويل/ صرف العملات.
في واقع الحال, خطوة طباعة العملة غير القانونية بظروفها سالفة الذكر لا تقل في خطورة تأثيرها المدمر (اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً) عن الحرب العسكرية الغاشمة، التي تشنها قوى تحالف العدوان على الشعب اليمني حتى الوقت الراهن، الأمر الذي استدعى تدخلاً رسمياً حاسماً يعد بلا ريب “تدخل الضرورة” لدرء المخاطر الجمَّة التي يمكن أن تترتب على الاقتصاد الوطني ومستوى معيشة الناس المتدهور أصلاً جراء الحرب والحصار.
التساؤل المركزي المُركَّب الذي ينطلق منه هذا الإطار التحليلي للنقاش حول الأبعاد السياسية لقرار منع تداول العملة غير القانونية هو كالآتي:
من الناحية السياسية, لماذا يُعدُّ قرار المنع ذاك بمثابة “تدخل الضرورة”؟ وما الدلالات السياسية “الموضوعية” لتوقيت اتّخاذه على المستويين المحلي والخارجي من ناحية, وطبيعة التعاطي الشعبي معه من الناحية الأخرى؟
لا ريب أن كثيراً من مدارات الإجابة على التساؤل سالف الذكر، سيتم تحديدُها على هدىً مما سيشارك به الحضور الكريم إلى حلقتنا النقاشية هذه, لكني سأحاول في السطور القليلة القادمة تقديمَ بعض من المعالم الواضحة -بالنسبة لي على أقل تقدير- بخصوص الإجابة عن ذلك التساؤل، وذلك من خلال استعراض موجز لأبرز الملامح التي يتسم بها الظرفُ السياسي والعسكري الراهن ضمن ملف العدوان على اليمن, ومن ثم عرض الأبعاد السياسية لقرار منع تداول العملة غير القانونية بدلالاته المشار إليها آنفاً.
أولاً: أبرز ملامح المشهد السياسي والعسكري الراهن:
للوصول إلى فهم عميق بخصوص الأبعاد السياسية للقرار الذي اتخذته حكومةُ الإنقاذ الوطني بمنع تداول العملة غير القانونية, اعتقد أنه من المهم النظر بتمعن إلى طبيعة مفردات المشهد السياسي والعسكري الراهن ضمن ملف العدوان على اليمن بمعطياته المتعددة، وذلك وفقاً للنقاط الآتية:
شن الحرب العدوانية على اليمن في 26 مارس 2015م، غيَّرت قواعدَ الصراع السياسي ضمن معطيات ملف الأزمة اليمنية, وذلك بعد أن أضحت المواجهات العسكرية الميدانية بتبعاتها المتعددة هي العنصر الأهم في تشكيل أبرز ملامح المشهد السياسي اليمني، وبعبارة أخرى, فإن كلَّ الحسابات السياسية للأطراف المتصارعة (حرباً وسلماً) أضحت رهناً بمحصلة تحوّلات ميزان القوى العسكري في الميدان.
يحتوي المشهد اليمني الراهن عدواناً وحصاراً يتعرّض له شعبٌ بأكمله منذ ما يقارب خمس سنوات, يقود ذلك العدوان والحصار السعودية وحلفاؤها, فيما يحض عليه ويشارك فيه ويشجع على استمراره أطراف سياسية يمنية.
المحصلة الإجمالية لذلك المشهد: (أطراف خارجية معتدية, أطراف سياسية يمنية تعمل لصالح العدوان, قوى سياسية وشعبية يمنية تواجه العدوان, شعب يتعرّض للعدوان, جبهة يمنية داخلية متماسكة حول هدف مواجهة العدوان, عملية تسوية سياسية سابقة تم اغتيالُها بالعدوان, جهود تسوية وسلام أممية لاحقة وراهنة يستمر العدوان في اغتيالها حتى اللحظة الراهنة).
لحظة تكالب قوى العدوان على اليمن هي اللحظة ذاتها التي استنقذ فيها الطرف اليمني المقاوم في صنعاء أهمَّ مصالحه الوطنية الاستراتيجية وأعمقها, ألا وهي مسألة استقلال القرار السياسي والخروج من عباءة الوصاية الإقليمية والدولية المعطلة لتطلعات الشعب اليمني في النهوض والتنمية الحقيقية والشاملة، وتبقى تفاصيل العدوان بعد تلك اللحظة مجرّد استحقاقات يجب على طرف صنعاء وإلى جانبه الشعب اليمني دفعُها للمحافظة على تلك المصلحة المتحققة فعلياً.
حافظ الطرف اليمني المقاوم في صنعاء، على كل مكاسبه الميدانية الواضحة والاستراتيجية في إطار مصلحة كسر العدوان وإفشال كل مخططاته العسكرية لتحقيق أهدافه المعلنة والخفية.
في ظل زيادة أعباء المواجهات العسكرية الميدانية وخسائرها المادية والبشرية على طرف قوى تحالف العدوان بقيادة الرياض, واستمرار حالات الانكسار لتلك القوى وعجزها عن تحقيق أي تقدّم ميداني، توسعت قدراتُ قوى الجيش واللجان الشعبية في الوصول إلى قلب المصالح الاستراتيجية للعدو عبر القوة الصاروخية وسلاح الجو المسيّر, وتعززت في المقابل قدراتُ دفاعه الجوي في مواجهة طيران العدو.
تعزّز الانفتاحُ الدبلوماسي لقوى كبرى كروسيا والصين والاتحاد الأوروبي على قوى مقاومة العدوان في صنعاء, في مقابل تراجع واضح لإمكانيات التأثير الدبلوماسي لقوى تحالف العدوان بالرغم من حجمِ الجهود الدبلوماسية والنفقات المالية الهائلة التي تبذلها تلك القوى لوأد مقاومة اليمنيين وصمودهم الدبلوماسي أمام عدوانها.
محافظة قوى مقاومة العدوان على ثبات رؤيتها الوطنية الشاملة للتسوية السياسية التي تقوم على أسس الشراكة الوطنية والتوافق, وتحقيق استقلال القرار الوطني وتعزيز السيادة الوطنية, والتهيئة لإعادة التوازن للعملية السياسية عبر تلك الأسس, والصمود -في الصدد ذاته- أمام كم الضغط الهائل الذي تتعرّض له تلك القوى لتقديم تنازلات جوهرية في مكونات تلك الرؤية الوطنية.
تحقيق تماسك حقيقي في الجبهة الوطنية الشعبية الداخلية وراء هدف مواجهة العدوان، بالرغمِ من كل التداعيات والآثار المؤلمة والمدمرة للعدوان على حياة اليمنيين ومساكنهم وأسباب معايشهم ومكتسباتهم التنموية والخدمية وموروثهم الحضاري والثقافي، وتعزيز استثمار ذلك التماسك في المزيدِ من الدعم لجهود مواجهة العدوان ميدانياً على المستويات كافة.
أثبتت تطوراتُ أحداث العدوان وطول مدته وتصاعد وتيرته منذ ما يقارب خمس سنوات, أن مؤشراتِ التعبئة الشعبية لمساندة جبهة مواجهة العدوان على المستويات المادية والمعنوية في حالة ارتفاع مستمرّ.
في المقابل, تعاني جبهةُ العدوان من انكسارات مستمرّة في الروح المعنوية؛ نتيجةَ الهزائم المتوالية التي تمنى بها وانتكاساتها العسكرية على الجبهات المختلفة.
يوضح المسار السياسي في الصراع بين الأطراف كافة من خلال مخرجات جولات المفاوضات بخصوص وقف إطلاق النار وإحلال السلام والتسوية السياسية, ومن خلال طبيعة الاتصالات التي تجريها الأطراف مع الدول الأخرى خارج نطاق دول العدوان والمنظمات الدولية المتخصصة، أن قوى مقاومة العدوان في صنعاء تكاد تستحوذ على أغلب نقاط ميزان القوى في الجانب السياسي، إذ تتحرك تلك القوى في الساحة السياسية الداخلية بحرية كاملة أثمرت تكتلاً سياسياً وطنياً متماسكاً في مواجهة العدوان, كما استطاعت تلك القوى تجنّبَ تقديم أي تنازلات تمس بالثوابت والمصالح العليا لليمن, وهي في المقابل لم تقف معزولةً عن العالم بل ظلت محلَّ طلب وتواصل من الأطراف الدولية؛ بهدَفِ تحقيق التسوية السياسية وإنهاء الحرب والصراع.
لا ريب أن قوى مقاومة العدوان قد بذلت جهوداً استثنائية للصمود في وجه محاولات قوى العدوان خنق الاقتصاد اليمني بصفة عامة, وذلك كمدخل لإيصاله إلى مرحلةِ الفشل التي تتوقع تلك القوى تسببها في خلق حالة من التذمر والسخط الشعبي.
بالرغم من أن رؤيةَ قوى العدوان لتحقق توقعاتها سالفة الذكر تبدو مستحيلةً في ظل واقع استناد موقف الشعب اليمني في مواجهته للعدوان وصموده إلى منطلقات ثقافية وحضارية وإنسانية ودينية تتعلق بمبادئ الحق والعدل والتصدي للظلم والانتماء للوطن وصون سيادته واستقلاله وكرامته؛ إلّا أن استمرارَ تلك القوى في مسار تكثيف عملية خنق الاقتصاد اليمني عبر تجفيف مصادر الدخل القومي وخلق أزمة سيولة نقدية ونقل البنك المركزي من العاصمة صنعاء, وطباعة العملة غير القانونية يشيرُ إلى أهمية الجانب الاقتصادي في سلم أولويات وسائل العدوان, ما يعكس إدراك تلك القوى لتمتعها بميزات نسبية في استخدام ذلك الجانب، وبالتالي, فإن محصلةَ كفة ميزان القوى في الجانب الاقتصادي, برغم صمود طرف صنعاء الاستثنائي, تبدو أكثر ميلاً لصالح طرف الرياض.
ثانياً: أبرز الأبعاد السياسية لقرار منع تداول العملة غير القانونية:
من واقع الملامح سالفة الذكر, ومن منطلق لجوء قوى العدوان إلى استخدام وسيلة الخنق الاقتصادي كآخر أوراقها بعد أن احترقت ما عداها تحت نيران الصمود والتحدّي للشعب اليمني وقواته المسلحة ولجانه الشعبية، يمكن التأكيدُ على أن مواجهةَ العدوان الاقتصادي يحتل أولوية قصوى لدى قوى مقاومة العدوان، ومن هنا تبرز أهميةُ الإشارة إلى الأبعاد السياسية وراء قرار حكومة الإنقاذ الوطني بمنع تداول العملة غير القانونية، وذلك على النحو الآتي:
بالنظر الى الآثار والتداعيات السلبية الخطيرة لطباعة العملة غير القانونية على الاقتصاد الوطني ومستوى معيشة المواطن اليمني، وخاصةً ما يتعلق بتدهور القوة الشرائية للريال وتصاعد مستويات الأسعار, وفي ظلِّ حالة العدوان المستمرّ على اليمن، لا يمكن حسابُ إقدام حكومة الشرعية المزعومة على تلك العملية إلّا في إطار العمل الحربي؛ ولذا فإن قرارَ منع تداول تلك العملة لا يقف عند الموجبات الاقتصادية لذلك, بل والسياسية والعسكرية أيضاً.
قرار منع تداول العملة غير القانونية يأتي منسجماً مع الرفض المستمرّ من قبل قائد الثورة والمجلس السياسي الأعلى لكلِّ إجراءات الحصار والخنق الاقتصادي, بما فيها قرارُ نقل البنك المركزي إلى عدن، كما يعد وأداً مبكراً لمحاولات قوى تحالف العدوان الاستثمارَ السياسي لحربها الاقتصادية في زيادة حجم المعاناة الإنسانية للشعب اليمني كأداة تتصورها تلك القوى مدخلاً لزعزعة الاستقرار الداخلي.
مثّل القرار تعزيزاً إضافياً للثقة والاحترام الدولي الذي باتت تكتسبه قوى مقاومة العدوان في صنعاء بصورة مضطردة، إذ يدرك المجتمعُ الدولي صواب ذلك القرار من الناحية الاقتصادية والسياسية والإنسانية, الأمر الذي تعذر معه الاستماع لصراخ قوى تحالف العدوان وعويلهم باستجلاب إدانات دولية لذلك القرار.
الاستجابة الواسعة للقرار من قبل الشرائح والفئات المجتمعية كافة، مثلت تعزيزاً جديداً لنموذج التأييد والالتفاف الشعبي حول قيادة الثورة والمجلس السياسي الأعلى وحكومة الإنقاذ الوطني, وتأكيداً -كذلك- على القناعات الشعبية الراسخة بوجوب مواجهة الحرب الاقتصادية لقوى تحالف العدوان ووأد مخططاتها الخبيثة في مهدها بغضِّ النظر عن أي مقابل، ناهيك عن تعزيز الاستجابة الشعبية للقرار لموقف المجلس السياسي الأعلى وحكومته الوطنية كممثل شرعي للسلطة النقدية في البلد؛ باعتباره ممثلاً شرعياً لإرادة ما لا يقل عن 24 مليون مواطن يمني.
للتذكير، فإن قرارَ هادي بنقل البنك المركزي إلى عدن قد جاء عقب تمسك الوفد الوطني إلى مشاورات الكويت، برؤيته الشاملة والمتوازنة لتحقيق السلام في اليمن , وبعد فشل حكومة المرتزقة في تحقيق هدفها المركزي من نقل البنك المركزي (إرباك العمل المصرفي وتجفيف مصادر السيولة النقدية وحجب قنوات التعامل المصرفية الدولية عن صنعاء بما فيها صلاحية السويفت)، جاءت خطوةُ طباعة النقود غير القانونية بصورة مسرفة وغير مبررة اقتصادياً -من ناحية الحاجة إلى السيولة-، كمحاولةٍ لفتح جبهة ضغط اقتصادي جديدة ساخنة لمواجهة تفوق قوى مقاومة العدوان في تسويق رؤاها السياسية الناضجة حول منظومة ومبادئ السلام والتسوية السياسية، وكذا نجاحها في الاختراق النسبي لجدار الحصار الدبلوماسي المفروض عليها من طرف قوى تحالف العدوان، وبالتالي، يُعدُّ قرار منع تداول العملة خطوةً سياسية قوية في طريق إفشال تلك الضغوط.
جاءت حمى طباعة العملة غير القانونية في الوقت الذي استقرت فيه ملامح مشهد المواجهات العسكرية الميدانية على فشل العدوان في تحقيق أهدافه المعلنة وانكساراته المستمرّة, وكذا انكسار هيبة الدولة السعودية أمام هجماتِ الجيش واللجان الشعبية على مواقعها العسكرية داخل حدودها والوصول حد استهداف منشآتها الحيوية، وبالتالي، تبدو عمليةُ طباعة العملة غير القانونية -في جانبٍ بارزٍ منها- محاولةً لتعويض الإخفاق العسكري الميداني لقوى التحالف (السعودية والإمارات) ومرتزقتهم اليمنيين, ومحاولة كذلك لممارسة ضغط دولي (مستتر) على قوى مقاومة العدوان، لإجبارِها على تقديم تنازلات فيما يتعلق بوقف تصعيد الجيش واللجان الشعبية من هجومهم العسكري وهجماتهم الصاروخية داخل الأراضي السعودية وفي عمقها, والعودة إلى اتفاق ظهران الجنوب (10 أبريل 2016), وتجاوز واقع إمساك قيادة الثورة والمجلس السياسي الأعلى بزمام المبادرة السياسية في ملف التسوية والسلام (مبادرة الرئيس المشاط). وبالتالي، فإن قرار منع تداول العملة يعد إجهاضاً استباقياً لكل تلك الأهداف ولأي ضغوط يمكن أن تمارس على قوى مقاومة العدوان في الصدد ذاته.