صراع الكراسي في نجد: البعد الموضوعي ومسؤولية الملك
|| صحافة ||
يُصوّر الملك السعودي سلمان بن عبد العزيز، في كثير من أجهزة الإعلام: عليلاً، خانعاً، فاقداً للأهلية، ولا يملك قراره، فيما يُرمى اللّومُ (أو المدح) على نجله ولي العهد، في مجمل الإجراءات المثيرة التي خاضتها السعودية في السنوات الخمس الأخيرة. وفوق ذلك، فإن الشائعات تكاد لا تهدأ عن موت الملك، وسعي الابن لاغتيال والده، متعجّلاً الوصول إلى العرش. الأمر الجلي، أن النظام الأساسي (بمثابة دستور) يمنح الملكَ السعودي صلاحيات مطلقة: تشريعية وتنفيذية وقضائية، بما في ذلك تنصيب وإعفاء ولي العهد (المادة ٥/أ)، ولا يحوز ولي العهد صلاحيات إلا تلك التي يكلّفه بها رأس الدولة (المادة ٥/د).
محمد بن سلمان ليست في يديه صلاحيات تلقائية كونه نجل الملك، أو لأنه يتبوّأ منصب ولاية العهد، وإلّا لما اختلف الأمر بين ولي عهد وآخر. والوقائع المشهورة لا تسجل اضطلاع مقرن بن عبد العزيز، حين نُصب ولياً للعهد، بين كانون الثاني / يناير ونيسان / أبريل2015، بمسؤوليات جسام، وفوق ذلك أزيح الرجل من موقعه بجرّة قلم ملكية، من دون ضجيج، ثم أزيح خلفه محمد بن نايف، في خطوة أثارت التساؤل والقلق. وإذا كان للملك أن يزيح مقرن، ثم ابن نايف، أليس له أن يزيح نجله محمد لصالح ولي عهد آخر؟ ولعلنا نتذكّر أن الملك الأردني حسين بن طلال، أزاح شقيقه الأصغر الحسن، من ولاية العهد، قبل ساعات من رحيله في يناير 1999، بعد أن قضى الحسن نحو 35 عاماً في منصبه. ليس من المبالغة القول بأن منصب ولاية العهد أقرب إلى أن يكون مُدوّناً بالقلم الرصاص في الدول القبلية. وهذا ما يجعل أقصى أوْلويات ولي العهد السعودي – وأي ولي عهد آخر في حكم ملكي غير دستوري – حيازة رضى المَلك.
من هنا، الافتراض بأن الملك يُعدّ الراعي الأكبر لنجله، والعمود الذي ترتكز عليه خيمة ابن سلمان المهترئة. وقد عمل الأب – في الأساس – على تثبيت ابنه المدلّل في موقعه العَلي بإرادة خالصة. فالملك، لا غيره وبمحض إرادته وتقديره، فضّل نجله، غير البكر، على أبنائه الآخرين، ومنحه صكاً شبه مفتوح لإدارة البلاد، بغية ترسيخه حاكماً قادماً على صهوة أبيه. وخاض الابن، باعتباره وزيراً للدفاع ومسؤولاً عن السياسة الخارجية والاقتصاد، غمار معارك خائبة: في اليمن، وعلى صعيد الحصار ضد قطر، واختطاف رئيس وزراء لبنان، وانهيار أسهم «أرامكو»… ويفترض أن تكون تداعيات بعض ذلك كافية لوضع ابن سلمان أمام تساؤلات حقيقية، لكن ذلك لا يحدث بفضل السند المطلق من والده، الذي أسداه شرعية اقتراف الأخطاء.
على أن ما يراه المتفحّصُ جُرماً، قد لا يعدّه المسؤول النجدي كذلك. ومن المؤكد أن اعتقالات «ريتز كارلتون» الشهيرة (نوفمبر 2017) لأمراء ووزراء ورجال أعمال لم يكن خطأ غير مقصود، بل كان عملاً ملكياً مخططاً، غايته تكسير مراكز القوى المهدّدة لمشروع احتكار البيت السلماني للقرار السعودي. لكن الخطأ الأبرز للأب يرتسم في الزجّ بابنه في أتون معركة إدارة البلاد، قبل أن يشتد عوده، وتنضج ممارسته، ويمرّ بمرحلة تدريبية لازمة لتهيئته لقيادة البلاد. ولم يحظ ابن سلمان بفرصة العمل في البيروقراطية السعودية، كما خاضها أقرانه الأكبر، محمد بن نايف ومتعب بن عبد الله، ما منحهم الفرصة للتعلّم من الأخطاء والتجارب، وتكوين طاقهم المقرّب والموثوق. والملكُ القديم في البيروقراطية السعودية (عُيّن أميراً للرياض في عام 1955، وانتظر طويلاً حتى أتاه العرش في يناير 2015، بعد موت نظرائه من السديريين: نايف وسلطان) وجد الفرصة سانحة لإعادة هيكلة السلطة، ومحورتها حوله وابنه من بعده، فيما السرعة والعلنية والشدة التي تتسم بها العملية ذات صلة بخشية الملك من أن يعاجله «مَلَك الموت»، قبل أن يتسنّى له ترسيم الحكم في ذريته.
بقاء الوالد مصلحة حيوية للبيت السلماني وللابن الذي ما زال أمامه الكثير ليغرس أركان حكمه
ويعلم سلمان أن وفاته، ووصول ابن نايف – أو أي شخص آخر – إلى الكرسي يعني تبدّل موازين القوى، وانهيار حلم استحواذ البيت السلماني على السلطة. وكانت إطاحة ابن نايف من ولاية العهد، في صيف 2017، لأن سلمان لا يعوّل على أن يبقي ابن نايف ابنَ سلمان ملكاً تالياً. ومع ترنّح فرضية «الانقلاب»، التي يتداولها بعض الإعلام تبريراً لاعتقال الأميرين البارزين أحمد بن عبد العزيز ومحمد بن نايف، فإن علامات الطموح لا تخفى لدى الثاني وغيره من أحفاد الملك المؤسس، المتطلّع بعضهم إلى لعب دور مؤثر في الحياة السياسية. وتبدو جهود الملك ماضية لتوضيب المسرح لاعتلاء نسله العرش، رغم الأضرار الفادحة المتوقّعة من هكذا إجراءات، بما في ذلك الزجّ بشقيقه السديري أحمد في المعتقل. ولا يغيّر من الأمر إن كان محل الاعتقال سجن الحائر أم فيلّا فاخرة. ومن دون شك، فإن انقسامات العائلة الحاكمة باعثة على القلق لدى الملك وولي عهده، لكن الانقسام في البيت السلماني هو الذي يمثّل تهديداً بالغاً، وهنا تبرز أهمية الأب في ضبط إيقاع بيته، ولسان حاله يردد أمام أنجاله المتلهّفين للانفراد بالسلطة: إن تخالفتم أكلكم أبناء عمومتكم! إن بقاء الوالد مصلحة حيوية للبيت السلماني، وللابن الذي ما زال أمامه الكثير ليغرس أركان حكمه، المحاط بغيلان وذئاب يتطلعون إلى العرش، ويتساءلون عن أحقية ابن عمهم دونهم. وعلى عكس الشائعات غير المسنودة عن رغبة ابن سلمان في الانقضاض على والده، فإن رحيل الملك قبل أوانه، وتمكّنه من إفناء الخصوم، وشلّ مراكز القوى الأخرى، ستزيد من التعقيدات أمام ولي العهد، الفاقد للمشروعية التاريخية، وقد رفض أعضاء بارزون في هيئة البيعة مبايعته.
بيد أن الملك، وهو يتمتم بشأن بروز أعراض جانبية للاعتقالات، ومستفسراً: ما البدائل؟ وما دام لا يفكر في المسيرة الدستورية، وبناء دولة المؤسسات، سيظهر حاسماً، قاسياً، مستميتاً في تطبيق ما يراه صلاحياته المطلقة، في تعيين من يشاء، متى يشاء، ضمن منطق القبيلة، حيث يسود المَلك. وفي خضم ذلك، لا بد وأن يتساءل عن حال أنجاله لو أتيحت الفرصة لشخصية أخرى غيره لتولي العرش: ألم يكن ليتبع ذات الطريق؛ يسجن ويقصي ويؤهل أبناءه وأحفاده لبلوغ الحكم؟ وعادة ما كان أبناء الملوك أصحاب قرار إبان حكم والدهم، وقد عانى الملك عبد الله، مثلاً، حين كان ولياً للعهد من سطوة أبناء الملك فهد، رغم كون الأخير طريح الفراش.
والحقيقة أن الصراعات داخل القصور أمر معتاد، والبيت السعودي ما فارقته صراعات الأجنحة يوماً. لكن الملك سلمان يبدو بحاجة إلى جهد مضاعف لتحطيم أجنحة الحكم هذه المرة، فهو لا يرمي إلى خلق توازن معها، وإنما محقها، وخلق عرف جديد لتوارث الحكم عمودياً، وإقناع أبنائه بالوحدة، وبالقبول بالحكم لنجله محمد. وسبق أن تجمّع لوبي السديريين مع الراحل فيصل للإطاحة بالملك سعود، في عام 1964، وكان من بين أسباب ذلك تطلّع الملك الثاني للمملكة إلى منح صلاحيات لبعض أنجاله. بيد أن هذا الحال انقضى، فالملك سلمان آخر الأنجال الفاعلين لابن سعود، فيما همّش النظام التوارثي الأفقي، الذي ساد خلال العقود السبعة السالفة، جيل الأبناء، فقد سُحق أبناء الملوك المتتالين إرضاء لزعامة الإخوة الملوك.
إذاً، فإن السعودية تواجه إشكالية «موضوعية» في انتقال السلطة، تتجاوز كون الوريث المحتمل ابن سلمان، وإن كان سلوك الأخير يضاعف من تبعات المعضلة. والصراع القائم لا يمكن إلّا ترقّب استعاره في الإطار القبلي، المفتقر إلى أعراف مؤسساتية لتداول السلطة. وفي لحظة فارقة، يريد الملكُ نقل النفوذ والهيمنة من بيت عبد العزيز إلى بيت سلمان، ومن نمط أفقي بين الإخوان إلى نمط عمودي في نسل ابن سلمان، تندفع سيناريوات خروج الوضع النجدي عن السيطرة، فيما الملفت ما يظهر من تسليم لآل سعود بقائدهم المفروض عليهم.
فهل ينفي ذلك المخاطر؟ الأرجح أن الجواب بالنفي. فالمخاطر المحدقة بالسعودية تتعلّق – إلى جانب أمور عديدة أخرى – بانطفاء مراكز القوى، التي كانت تخلق نوعاً من «التوازن». وفي خمس سنين مضت، اندفع صاحب السلطان لتكريس أحادية، راكمت الإخفاقات. وإنه لمن المثير أن يتزامن ضمور المملكة مع بروز ابن سلمان قابضاً على السلطة من دون منازع.
الاخبار اللبنانية: عباس بوصفوان/صحافي وكاتب من البحرين