كورونا لأغراض سياسية.. القتل البطيء
|| صحافة ||
مشاهد غير مألوفة تلك التي نراها كل يوم، كأنها صدمة أعادت إنسان الألفية الجديدة إلى الحقائق الأولى. خوف من كل شيء، من الآخر وما يحمله من شرٍ غير مقصود. خوفٌ من مجهولٍ غير مرئي معلوم الأثر. فيروس كورونا المستجد قاتل سريع الانتقال، يلاحق الأرواح في الأرض.
من المشاهد الصادمة ظهور نزعة بقاء فردية أنانية بوضوح في الأسواق الغربية. تقاتل على أتفه المواد التموينية، ليس على الغذاء، بل على أوراق الحمام. أنا ومن بعدي الطوفان. في فيلم “جوكر” الشهير الذي حصد أكبر الجوائز العالم الماضي يدور الحوار التالي: “هؤلاء الناس المتحضرون، قيمهم وقوانينهم مجرد مهزلة… يتخلون عنها عند أول مشكلة. سأريك، عندما تعم الفوضى، سيقضون على بعضهم البعض”. هذه المشاهد تحدث الآن. مقاطع مصورة تنتشر لأشخاصٍ يسقطون في الشارع، يصورهم أشخاص آخرون، يخافون العدوى فلا يقتربون.
نسبة فتك الفيروس أقل من 3 في المائة. ورغم ذلك يُترك إنسان يقع في الطريق من دون مساعدة. انتصار ساحق للفردية على التعاون والغيرية؛ فردية عزّزتها ثقافة ليبرالية زرعت طوال عقود حتى باتت غريزة جديدة من صنع الإنسان لم تولد معنا كالغرائز الأخرى؛ غريزة استهلاك وحشية وانعزال اجتماعي، لا يمكن تحميل أي فيروس بيولوجي ذنبها.
هذه حالة الأفراد. أما الدول، فبعضها تصرفه أسوأ من ذلك بكثير. ليس أكثر تعبيراً عن عنصريةٍ مقيتة خروج دونالد ترامب، رئيس أقوى دول العالم، على الملأ بتوصيف الفيروس الذي يهدد العالم بـ”الفيروس الصيني”. بحسب ترامب، رئيس الحضارة القائدة للبشرية، والتي تدّعي تفوقاً عسكرياً واقتصادياً، والأهم قيمياً وأخلاقياً، فإن لكورونا جنسية صينية.
دعوةٌ صريحة لوصم أكبر دولة في العالم وسكانها الذين يشكلون خمس سكان العالم تقريباً بـ”عار” الوباء الذي لا يمكن أن يكون عاراً. سلوك مماثل لسلوك إنسان العصور الغابرة مع أمراض تلك العصور، حين كان الناس يعتقدون أن المصاب بمرض معدٍ ملعون ومنحوس ويجب إبعاده أو قتله حتى. لم تكن زلة لسان، فالأمر منصوص ببصمة حسابه الرسمي على موقع “تويتر”، وهو يكرر العبارة المشينة كل يوم.
في صربيا التي تلامُ أوروبياً على هواها السلافي وتناغمها مع روسيا، يتخاذل الاتحاد الأوروبي مع تلك الدولة الضعيفة التي هي بأمس الحاجة للمساعدة لمواجهة الفيروس، الأمر الذي دفع رئيسها ألكسندر فوتشيتش إلى الخروج على الملأ غاضباً، ليعلن أن “التضامن العالمي غير موجود”، والتضامن الأوروبي “قصة خرافية على الورق”، شاكياً منع الاتحاد الأوروبي بلاده من استيراد المعدات الطبية، بحجة عدم وجود ما يكفي لدول الاتحاد، مستذكراً أن زعماء الاتحاد كانوا يصدرون الأوامر لصربيا بعدم شراء البضائع من الصين. فوتشيتش اعتبر أن الصين أمله الوحيد، وأن رئيسها شي جينغ صديق وأخ مقرب لصربيا.
في إيران، تعاني الجمهورية الإسلامية من حصارٍ أميركي وعقوبات قبل انتشار الفيروس فيها، وهي عقوبات تطال مختلف نواحي الحياة ونشاط الدولة. محاولة خنق واسعة النطاق وشديدة الضغط على كل مصادر الحياة فيها، من تجارة النفط، إلى منع التعامل مع الشركات والدولة، وتهديد المستثمرين الأجانب الذين تفاءلوا بالاتفاق النووي مع الدول الست، وصولاً إلى المعدات الضرورية لتشغيل حركة النقل ومعدات الطبابة والأدوية. محاولات قتل بطيء سبق كورونا، لكن المدهش بفظاعته هو زيادة الضغط الأميركي على إيران ونظامها الطبي في وقت انفلاش الفيروس في البلاد التي تشكل واحدة من أكثر الدول تضرراً منه.
استمر التهديد الأميركي للشركات والدول الراغبة في مساعدة طهران. إمعانٌ تام في قتل شعب بأكمله لأغراض سياسية. إنه نموذج فريد من استغلال الأوبئة للكسب السياسي، وتجاهل تام لأبسط معايير الإنسانية.
ورغم أن إيران صامدة بقدراتها الذاتية، وتخوض معركة كورونا ببسالة، فإن الضغوط عليها من باب تسييس الفيروس امتدت إلى لبنان. هناك، يُحسب وزير الصحة على أنه مقرّب من حزب الله، وصودف أن كانت بعض الإصابات بالفيروس آتية من إيران، ليتم بعد ذلك هجوم داخلي من حلفاء أميركا على الحزب والوزير، وصولاً إلى الحديث عن “فيروس إيراني”. هكذا بكل بساطة، تم تجنيس الفيروس من قبل المدرسة السياسية نفسها؛ تلك التي تتغنى يومياً بالحرية والمساواة بين الناس في كلّ الأرض، وتمارس عنصرية قل نظيرها.
ألا يعزز ذلك فرص تصديق المسؤولين الصينيين والإيرانيين والروس حين يتحدثون عن هجوم بيولوجي أميركي عليهم؟
الميادين/ نورالدين إسكندر