كن كالشهيد في صفاته
[الحلقة الثانية]
بقلم / بشرى المحطوري
الشهيد: نفسُه سهلة، طباعُه ليّنة، لا يعرفُ الاستكبارُ إلى روحه طريقاً، لذلك عرف الحق فاتّبعه، لم يعاند كما عاند الآخرون، لم يخضعْ لطغيان المستكبرين، لم يكن تابعاً لهم، لذلك ينجو بين يدي الله، يفوزُ فوزاً عظيماً، بينما المستكبرين الظلمة يرون أعمالهم حسرات عليهم، ويندمون ندماً شديداً، فنراهم يتبرؤون من أتباعهم، والأتباع يتبرؤون من أسيادهم {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّؤُواْ مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ}.
الشهيد: هو الذي سيؤتى كتابه بيمينه يوم القيامة، فرحاً مسروراً، من السابقين؛ لأنه بطبيعته عنده روح المبادرة، يحرص على أن يحظى برضوان الله، فيكون مبادراً إلى أي عمل يعتقد أن فيه لله رضى، فالسابقون هم المبادرون إلى عمل الخير، والمبادرة في حد ذاتها هي تكشف عن أنهم في نفوسهم يعيشون حالة التقوى، بمعنى أنهم دائما يقظين، متحملين للمسؤولية، ومستشعرين لها.. فإن دُعي إلى إقامة مشروع خيري بادر، وأنفق من ماله ما يقدر عليه، وإن دُعي إلى داعي الجهاد لبى بكل سرور؛ لأنه يريد أن يأمن من الفزع الأكبر، فزع يوم القيامة، [يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ، وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ، وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ، لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ]، يريد ألا تُغلق عليه أبواب جهنم ــ والعياذ بالله ــ وألا يُعذب ويُقمع بمقامع من حديد {وَلَهُم مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ}..
الشهيد: هو من عرف متأكداً بأنه لا يوجد أحدٌ على ظهر الأرض أشفق عليه من الله سبحانه وتعالى، لا أبيه، ولا أمه، ولا أي شخص؛ لأن الوالدين بكل بساطة ممكن يوم القيامة يفتدوا بك، ويقدموك لجهنم تلتهم جسدك، إن كان في ذلك نجاة لهم من عذاب الله!! عرف الشهيد ذلك، فجعل نُصبَ عينيه في الحياة رضا الله لا غير، رضا من بيده موتنا وحياتنا، بعثنا ونشورنا، من لا يُسلمنا لمكروهٍ أبداً إن رضي عنا.. فلو غضب أهل الأرض جميعاً عليه، والله راضٍ عنه، لا يبالي بذلك..
الشهيد: هو من لا يقصد بأي عمل يعمله التقرَّب إلى مجرم مهما كان شأنه، لأن ذلك جريمة، ولا يقصد التقرَّب بأعماله أيضا من إنسان صالح في الدنيا ؛ لأنه في هذه الحالة يُعتبر مرائيا، والحالتين منهيٌّ عنهما.. فهو لا يتقرب إلا من الله لأنه سيصبح كما قال الله: {أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ}، ولا يبغي بأي عمل يقوم به إلا وجه الله وحده، لا يريد عليه جزاءا ولا شكورا {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً}.
الشهيد: هو من عرف أنه معرّضٌ في هذه الدنيا لابتلاءات مادية، ومعنوية، فنجح وفاز في كلتيهما.. فاز في الجانب الأول: وهو الابتلاء المادي، فلم يكن من الذين يحبون المال حبا جما، فأنفق ماله في سبيل الله؛ لأنه يعرف أن أهم الواجبات وهو العمل عل نشر دين الله، والدعوة إلى الله، وإصلاح عباد الله، كلها مرتبطة بالمال، لدرجة أن الله سبحانه وتعالى قال عن صفات المؤمنين فيما يتعلق بالجانب المالي وفيما يتعلق بالجانب النفسي: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} يقاتل بنفسه وماله.. ففهم الشهيد وأدرك أن الله طلب منا أن ننفق -وله خزائن السموات والأرض، وهو القادر على أن يمول ما يريد بدون أن يطلب منا نحن أن ننفق- لأن القضية هي مرتبطة بنا، قضية ابتلاء، وليست قضية استعانة منه سبحانه وتعالى بنا..
وفاز أيضا في الابتلاء الثاني الخاص بالجانب المعنوي:ـ حيث أن الإنسان بطبعه يحب التعالي، والسمو، والرفعة، ولا يريد أن يرى فوقه من هو أعلى منه، أو أفضل منه، فكان الشهيد إنسانا متواضعا، خلوقاً، كريماً، عبَّد نفسه لله، عرف الشهيد بأن كل ما شرعه الله لنا إنما هو من أجل تكريمنا، حتى الأشياء التي يبدو أن فيها إذلال لنا، هي في النهاية تكريم لنا، وأن الذّلة هو في التعالي والكِبْر، قال تعالى حاكياً عن إبليس اللعين وتكبره، وعدم خضوعه لأمر الله بالسجود لآدم: (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ، قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُوماً مَدْحُوراً}.
الشهيد: إنسان ذكي، استثمر حتى موته، فجعله لله؛ لأنه أدرك أن الموت آت لا محالة، ولا يوجد شخص سيخلد على وجه الأرض، وكلهم سيدخل في غيبوبة الموت المطلقة حتى قيام الساعة، إلا الشهداء، هم فقط أحياء عند ربهم، لذلك الشهيد كان من الذكاء بحيث استثمر موته، ليحيا حياة أبدية، بمجرد خروج روحه من جسده، حي عند ربه يُرزق، ٍ[وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ، فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ، يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ].. عرف الشهيد وفهم هذه القضية [من أراد الحياة وأحب الحياة فليستشهد] لماذا؟ لأن الشهيد هو حيٌّ يُرزق..
الشهيد: هو من لم يعتبر السكوت على الباطل أنه حكمة، بل دائما يصدح بالحق، ولا ينخدع؛ لأنه يعرف بأن سكوت المرء على الباطل إنما هو يخدع نفسه، وسوف تكون عنده قابلية؛ لأن يخدعه أعداؤُه، مثل انخداع الساكتين بالكذبة التي ادعتها أَمريكا بأن دخولها إلى بلادنا إنما هو لمكافحة الإرهاب، فالساكت سينخدع؛ لأن مبدأه السكوت، وسيقتنع بهذا الكلام سريعا، بينما المجاهدين والشهداء الذين ساروا على درب الحرية، لم ينخدعوا يوما بهذا الهراء، واستشهدوا وهم على طريق المحاربة لليهود وخداعهم وألاعيبهم الماكرة..
الشهيد: هو من المستضعفين الواعين، الموعودين بنصر الله، فالشهيد كان مستضعفا واعيا، يفهم أن وضعه، ووضع الأُمَّـة سيء، ومتألم لما هو عليه، ويحاول تغييره، ويدعو الله بأن يجعل له وليا ليتحرك معه [وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا] لكي يتحرك معه، ينصره، لذا فهو من المستضعفين الذين هم تحت عناية الله ومحط رعايته.