التطورُ التاريخي للشخصية العدوانية الأمريكية (1 – 2)

|| صحافة ||

الملخص:

الجنونُ الاستراتيجيُّ الأمريكي ليس وليدَ اليوم، لكنه سمةٌ أصيلةٌ في تاريخ الأمريكيين منذ نشوئهم كأمة وشعب إمبريالي استيطاني حَـلّ محل شعب آخر. وبمراجعه تاريخ رؤساء أمريكا منذ الأربعينيات إلى الآن لم تعرف أمريكا لحظات حكمة سياسية إلا في حالات نادرة جِـدًّا أُجبرت عليها، فالسياسة الاستراتيجية الأمريكية اتسمت بسماتِ الطيش والعنف في التعامل مع الشعوب الضعيفة، والرئيس “ترامب” أكثرهم خطورة وجنوناً.

السمةُ الأَسَاسيةُ لمسيرة التاريخ الأمريكي هي غيابُ العقل والأخلاق والروح والعاطفة وسيادة التوحش والإباحية والكراهية والقسوة والانحلال، فقد كانت عمليات الإبادة البشرية هي محتوى النشاط اليومي الذي مارسه الأمريكيون الغزاة، والشعب الذي يمارس سلوكاً معيناً طوال قرون يورثه ليصبح صفة ملازمة لنفسيته حيث يتحول من صفة مكتسبة إلى صفة وراثية وإلى طبيعة من طباع الجماعة.

الولايات المتحدة بين الدول الأكثر فقراً في المجال الثقافي الروحي والفكري والإنساني، بالرغم من أن أُورُوبا في نهضتها أنتجت روائعَ الأدب والفكر والفن. تملك أمريكا سينما وآلة إعلامية هي الأكبر حجماً وتأثيراً، لكنها لا تنشر رسالة إنسانية إن ما تنشره للعالم لا يزيده إلا خراباً.

الحانة هي مقدَّسُ الأمريكي منذ تكوّنت الجماعات الأولى للغزاة فقد كانت هي فندقه وبيته ومعبده ومركز نشاطه الاستثماري وفيها يتعلم كُـلّ ما يلزم للاندماج في المجتمع، وَإذَا فتشنا في الأفلام الأمريكية نجدُ أن شخصية اللص والمجرم والزانية المومِس هم الشخصياتُ الرئيسيةُ في المجتمع وأبطاله، فالبقاء لمن يسحب مسدسه ويطلق النار على الآخرين بسرعة.

لا فرقَ بين اليسار واليمين الأمريكي بالنسبة للأمريكيين أَو بالنسبة للشعوب المقهورة، فأخطر المعاهدات التي استهدفت العرب كانت عبر الرؤساء الديمقراطيين “كارتر” و”بيل كلنتون” و”أوباما” وهم محسوبون على اليسار، وشنت العديد من الحروب على الشعوب من قبل قيادات ديمقراطية مثل “كيندي” في كوبا و”جونسون” في فيتنام و”كارتر” في إيران، وكان الرئيسُ الكوبي “فيديل كاسترو” قد علق على محاولات “نيكسون” الخروجَ من حرب فيتنام قائلاً: “إن معسكرَ اليسار (الديمقراطيين الأمريكيين) هو من يطلق الحروب وإن معسكر اليمين هو من يطفئها بعدَ أن يخسرها”.

لا يكتفي الأمريكيون بالدفاع عن أنماط عيشهم، وإنما يشنون الحروب العدوانية على الأمم الأُخرى؛ لإجبارها على قبول القيم الأمريكية في العيش والتفكير والاعتقاد والاقتصاد والسياسة والعلاقات الدولية والاجتماعية. إنهم يقدمون أنفسهم بصورة المبشرين الأخلاقيين الكونيين وكل ما هو مختلف عنهم يعتبرونه مروقاً عن الدين.

الانتشارُ الإنساني للقوى والدول يعتمدُ على نشرِ عقائد إنسانية عالمية جديدة، تستهوي قلوبَ الأغلبية البشرية المقهورة المظلومة، وهذا ما شهدته الدعوات الدينية الكبرى، وما شهدته الدعواتُ الإنسانية التحرّرية العظيمة في العالم أجمع، وهذا ما حدث في الثورات البريطانية والفرنسية والروسية والصينية.

 

لقد هُزمت أمريكا أينما اتجهت، وسوف تُهزم مستقبلاً؛ لأَنَّها لا تحمل أية قيمٍ أخلاقية حقيقية تملك بها قلوب الشعوب وملايينها المقهورة المحرومة والمستغلة من قبلها، وصلت أمريكا إلى أعلى مستوى لها من الهيمنة العالمية، ولم تدم طويلاً على عكس واقع ومنطق وتاريخ الإمبراطوريات.

 

مسارُ التراجع والهزائم الأمريكية استراتيجياً وهي:

1 ـ إن جميع الدول والشعوب التي كانت تحت السيطرة الأمريكية والغربية قد شرعت تنسل واحدة تلو الأُخرى عن ميدان الهيمنة الأمريكية والغربية.

2 ـ إن جميع الدول التي انسلت عن الهيمنة الأمريكية لم تفلح أمريكا في إعادتها إلى بيت الهيمنة مجدّدًا.

3 ـ إن هناك دولاً أُخرى تبحثُ عن طريق خاص بها بعيدًا عن الهيمنة الأمريكية، وإن عبرت عن ذلك السعي بأساليب ملتوية وغير مباشرة، ويمكن أن نورد عدة دول من هذا النوع، مثل: الفلبين وباكستان وتركيا ولبنان وفلسطين وأفغانستان وأوكرانيا وقطر والكويت وعُمان.

4- إن غيابَ الحكمة السياسية يعد مرضاً مزمناً للنظام العدواني الأمريكي، ولذلك تتضاعف مخاطر التدمير الذاتي والانتحاري السائر عليه ترامب بحماس قل نظيره، ويعتبر ترامب أخطرَ رئيس أمريكي في تاريخها وأكثرهم جنوناً.

5- إن الجنون الاستراتيجي الأمريكي ليس وليد اليوم، لكنه سمةٌ أصيلةٌ في تاريخ الأمريكيين منذ نشوئهم كأمة وشعب إمبريالي استيطاني استعماري حَـلَّ محل شعب آخر تمت إبادته وإفناؤه من الوجود من قبل الأمريكيين البيض الذين قدموا من بريطانيا وبقية أُورُوبا كمستعمرين بقوة السلاح يؤسِّـسون وجودهم بقوة النار والحديد في أبشع مأساة إنسانية عرفتها البشرية طوال تاريخها ولا مثيل لها أبداً، فلم يحدث من قبل أن أُبيدت شعوب بكاملها خلال فترات قصيرة من قبل شعوب أُخرى فاتحة، حتى أكثرها همجية وتوحشاً، فلم يبلغ هذ المبلغ حتى أكثرها تغولاً، وأعني هنا غزوات المغول والتتار.

6- كانت عملياتُ الإبادة البشرية العدوانية هي محتوى النشاط اليومي الذي يمارسه الأمريكيون الأُورُوبيون الغزاة طوال قرون من الاحتلال؛ ولأن الشعوب الحمراء الأصيلة ظلت تقاوم الظلم والطغيان وترفض الخضوع الذليل لحملات الإبادة فقد كان هذا يضاعف من وحشية الغزاة ويجعلها أكثر صراحة ووقاحة وعلنية وتحدياً.

7- إن الإبادة بلا رحمة هي الفكرة المحورية التي وجهت سلوك الأُورُوبيين الغزاة تجاه الغير -السكان الأصليين وأصحاب الأرض الذين كانوا فيها منذ آلاف السنين-، وهي السمة الملازمة لتطورهم طوال تاريخهم، وهي سمة أصيلة في شخصيتهم تحدّد كيانهم وكينونتهم وطبيعتهم؛ ولذلك عملوا على خلق أجيال من البشر مشوهة السمات والخصائص.

فالشعبُ الذي يمارسُ سلوكاً مكتسباً معيناً يتوالى طوال قرون وعقود، فإنه يورثه في جيناته ليصبح صفةً ملازمة لنفسيته وطبيعته وسلوكه، حيث يتحول من صفة مكتسبة إلى صفة جينية وراثية وإلى طبيعة من طباع الجماعة التي ابتليت به.

وقد عمل المؤسّسون الجُدُد للدولة الأمريكية اليانكية على تشتيت الذاكرة الجمعية للأمريكيين ومحاولة محو وطمس من الذاكرة فترات المذابح والمحارق والإبادة التي تمت على أيدي آبائهم على أرض الشعب الأحمر الحر الذي أبادوه ثم حلوا محله.

فلقد أبادوا أكثر من 150 مليون إنسان من السكان الأصليين المسالمين الطيبين الأحرار الذين سكنوا الأراضي الأمريكية منذ 10 آلاف عام، حسب المؤرخات، وجاءوا إليها من سيبيريا في آسيا، فقد كانوا امتداداً للشعوب الآسيوية القديمة.

8- عمل المؤسّسون الجدد على فتح أبواب الهجرة أمام الأُورُوبيين والحاصلين على قدر من التعليم والثروة والتجارة والصناعة في محاولة صناعة تاريخ جديد يمتد من بداية قيام الدولة الأمريكية الجديدة منذ قرنين، ففي تلك الفترة كانت عملية الإبادة قد بلغت نهاياتها وأصبح من يُعرفون بالأمريكيين هم السادة المسيطرين، ويسمونها أرض المهاجرين الأحرار في أدبياتهم، وكأنها كانت أرضاً خاليةً من الناس ومن سكانها الأصليين، أرضاً بكراً تنتظر من يستغلها ويستخرج خيراتها! ولكن مهما فعل الأمريكيون فلا يمكنهم تغيير مورثات النواة العرقية البيضاء الصلبة التي تسيطر على كُـلّ شيء في أمريكا، فمنها يأتي الرؤساء والمسؤولون والقادة والملاك وأصحاب الاحتكارات الكبرى.

 

تاريخُ غيابِ الحكمة والفضيلة الأمريكيتين:

إن الشرطَ الأَسَاسيَّ لمسيرة التاريخ الأمريكي وصيرورته وكل ما حقّقه من قوة وإنجازات مادية هو غياب الفضائل والحكمة والعقل والأخلاق والروح والعاطفة والرحمة والإنسانية وسيادة التوحش والإباحية والكراهية والقسوة والانحلال الخلقي، أي باختصار: نفي كُـلّ فضيلة إنسانية وأخلاقية وروحية عن الشخصية الأمريكية الرئيسية القيادية والنخبوية التي لعبت الدور الحاسم في أحداث التاريخ الأمريكي. وهي ظاهرة تبعث على الرعب والخوف في المجتمع الأمريكي نفسه، بين فئاته وجماعاته ومناطقه ومدنه، فهو مجتمع لا يعرف السلام مع ذاته أبداً، ولا يعرف الرحمة ومساعدة الضعفاء والمساكين أبداً، ولا التكافل الاجتماعي ولا الفضيلة.

إن الأمم تطور تلك الأحاسيس والفضائل عبر مسارات طويلة من السلوك الحسن والفطري والمستقيم والمعبر عنه عبر تجاربها وتاريخها وخبراتها الإيجابية والسلبية، حيث تطور الشعوب مبادئها ومفاهيمها وفلسفاتها وحكمتها وأديانها وحكمتها ثم تصوغُها في أنظمة السلوك والأخلاقيات والرياضات الروحية والدينية العقيدية وتشفرها في جيناتها الوراثية لتورثها لأجيالها التالية بناء على تلك الخبرات المعاشة المتوالية والمتكرّرة عبر العصور، ثم تختزل في المفاهيم والفلسفات والعقائد والفضائل والحكمة. والنتيجة هي أن كُـلّ شعب أَو جماعة تداوم على سلوك معين، تتوارثه مكتسبا من أجيالها السابقة، من خبراتها التأسيسية، ومن ممارساتها اليومية الطويلة، ومن طباع وسمات وخصال ومزايا موروثة.

والفكرة الأَسَاسية للأمريكي وطبيعته الأصلية التي تحكم وعيه ونفسيته وعقله المشوه المنحرف هي الاستباحة والإباحة والمصلحة الفردية واحتراب الجميع ضد الجميع، والسعي الدائم للقوة والنفوذ والمال من أية طريق وبأية وسيلة، بما فيها الجريمة والقتل والاغتصاب والسرقة والاحتيال والخداع والغش والنصب والزنا والمجون وبيع الأعراض وتجارة المخدرات وإبادة الشعوب ونهبها… وكلها طرق ووسائل مقبولة ما دامت تتم بعيدًا عن أعين القانون، فالقانون بطبيعته أعمى لا يحاسب إلا من يصل إليه، ويتحول القانون نفسه إلى قناة لتبيض الأعمال المخالفة لجوهر كُـلّ قانون، لكن القانون الأمريكي قد أفاض في الفسح والحقوق والرخص والقواعد والغوامض ما يشبه لدينا إقامة الدليل على الزاني، بحيث يفلت أغلب المجرمين من الملاحقة أَو العقاب، على قاعدة “دعه يعمل، دعه يمر”، وهي قيم الرأسمالية الأُورُوبية ذاتها، فالقانون لا يجرم الرذائل الأخلاقية، بل يحميها ويحمي ممارسيها ويشجع عليها.

وفي أمريكا والغرب لا يتورع حتى الرؤساء عن ممارسة أكثر الرذائل شذوذاً وسوءاً وانحرافاً، وهذا لا يمنعهم من الترشح إلى انتخابات الرئاسة والإمساك بأخطر الوظائف في الدولة. وقد شاهدنا رؤساءَ وقادةً كباراً في الغرب لا يخجلون من الاعتراف بمظاهر انحرافهم عن الفطرة السليمة وشذوذهم ومجونهم؛ باعتبَار ذلك من حقوق الفرد الخَاصَّة التي يحميها القانون والدستور، ويرسخ كُـلّ هذا الثقافة اليومية الهابطة والمدمّـرة عبر التلفاز والإنترنت والحانات وأندية الليل والقنوات وهوليوود.

 

البلدُ الأفقر ثقافياً:

شهدت أُورُوبا في عصور التنوير والنهضة إنجازات إنسانية عظيمة في مجال الأدب والشعر والفلسفة والقصة والرواية، والتي كان أهم ما فيها نزوع الإنسان المظلوم والفقير المقهور، وهم الأغلبية الشعبيّة، للتحرّر من قيود الإقطاع والرأسمالية وعذاباتهما وشقائهما، وبرز فيها العمالقة الكبار في الثقافة ومجددو النهضة الإنسانية والكرامة الإنسانية في فرنسا وبريطانيا وألمانيا وروسيا وإيطاليا وسويسرا وهولندا والنمسا وغيرها.

كل هذه الإنجازات الجميلة والرائعة التي لا تنسى للأُورُوبيين غزت إيجابياً بآثارها العالم كله، فليس هناك قارة أَو بلد إلا ورضع من قيمها الإنسانية وتأثر بأفكارها التقدمية وتضاعفت أسباب التعاطف مع محنها ومحن أصحابها الذين لم يكونوا سوى الشعب الأُورُوبي ذاته وكادحيه وفقرائه ومظلوميه ومواطنيه من الدرجة الثانية.

وإذا أخذنا في الاعتبار أن الأمريكيين هم أُورُوبيون في الأصل، فأين أدبهم الأُورُوبي المنقول من مهاجرهم الأولى التي لم ينقطعون عنها؟! وأين إبداعهم الجديد في مستعمراتهم الجديدة؟! أين إنجازاتهم الفكرية والإنسانية والفلسفية التي تخصهم؟!

أليس غريبا أن تجد أقوى دولة في العالم ماليا وتطورا، وأكثرها علما وصناعة واقتصادا وازدهارا، هي الأكثر فقرا في مجال الثقافة الحقيقية الجادة البانية والإنسانية، بالرغم من أن أُورُوبا في نهضتها أنتجت روائع الأدب والفكر والفن وحملتها إلى أمريكا خلال الهجرة المتواصلة، إلا أننا لا نجد أي إنجاز خاص وجديد يخص الأمريكيين.

 

 

 

الدولة الأكثر فقراً روحياً:

إن الولايات المتحدة بين الدول الأكثر فقرا في المجال الثقافي الروحي والفكري والإنساني، وبالأخص خلال القرون الأخيرة، وبشكل غريب لا يمكن فهمه بسهولة إلا بالغوص العميق في تاريخها القريب والحديث. ولكن أليس لديها كتاب وفلاسفة ومفكرون وروائيون ومصلحون اجتماعيون وإنسانيون وسينمائيون وفنانون ومخرجون ومسرحيون جيدون؟!

نعم، لديها، ولكن أين هم؟! ما مصيرهم؟! إنهم مجهولون، لا صوتَ لهم ولا وقع أقلام ولا صدى أصوات تنادي في بيداء الصمت والضياع المطبق على حياة الأمريكيين البسطاء المفقرين والعاطلين والمغيبين ذهنياً ونفسياً والمسحوقين والبائسين الذين تضيق بهم ضواحي المدن الكبرى ومدن الصفيح والجسور ومقالب القمامة.

أليس لأمريكا مآسٍ إنسانيةٌ تحكي عنها وتشكو منها وتبحث عن معالجات لها وحلول إصلاحية كغيرها من البلدان؟! نعم، لديها الكثير من المآسي الإنسانية الكبيرة، بل لديها من المآسي ما يدهش الألباب ويحير العقول، ومع ذلك لا يتم تناولها إلا بالطريقة التي تريد وتخدم الاحتكارات العملاقة وأهدافها وثقافتها الاستعمارية.

ولكن لأمريكا سينما كبرى وصناعة سينمائية عظيمة ومتطورة تغزو العالم بإنتاجها وأفلامها من كُـلّ نوع وطراز، وهي تعكس المشاكل الاجتماعية ولو في جانب منها. نعم، لها سينما هي الأضخم في العالم، ولها آلة إعلامية هي الأوسع في العالم والأكبر حجما وقوة وتأثيراً، لكن ما هي القيم والرسالة التي تنشرها عبرها؟! وإلى أين توجّـهها؟! وما هي أهدافها؟!

إنَّ ما تنشُرُه للعالم لا يزيده إلا خراباً وتمزقاً وانحلالاً فوق ما هو عليه. وكل ما تنشره وتبعثه إلى العالم موجه إلى إثارة أسوأ الغرائز وأكثرها تطرفا واستباحة وإباحية، ويحض على العنف والحروب والجريمة والمخدرات واللصوصية والاحتيال والغش والخيانات والبغاء وانتهاك المحرمات والمحارم واحتقار الدين والمتدينين.

 

زيفُ القيم الأمريكية:

كَثيراً ما نسمعُ الرؤساءَ الأمريكيين وهم يخطبون مكرّرين نفس الجمل التي يردّدها سابقوهم من الرؤساء؛ باعتبَارهم مدافعين عن القيم الأمريكية والغربية المتحضرة الخَاصَّة، وتحضر هذه الجمل دوما في الحديث عن الحرب ضد الذين يهدّدون القيم الأمريكية والغربية، وهم يشيرون صراحة إلى أُولئك الذين يحملون قيما مغايرة لأنماط عيش الغربيين وأساليب عيشهم وممارساتهم اليومية وسلوكهم المنمَّط، فهم أعداء في نظرهم، كما أنهم لا يكتفون بأن يدافعوا عن أنماط عيشهم في بلادهم، وإنما يشنون الحروب العدوانية على الأمم الأُخرى لإجبارها على قبول القيم الأمريكية الغربية في العيش والتفكير والاعتقاد والاقتصاد والسياسة والعلاقات الدولية والفردية والبشرية والاجتماعية.

إنهم يقدمون أنفسهم بصورة المبشرين الأخلاقيين الكونيين، فهم من يشرع للأمم الأُخرى ماذا وكيف تأكل وتشرب وتعيش وتنجب وتعاشر، وما هو الحلال والحرام، وكل ما هو مختلف عنهم يعتبرونه مروقاً عن الدين وعن الصراط المستقيم، وأية دولة تخرج عن الصراط الغربي الأمريكي وتسعى للتحرّر من هيمنتها وسيطرتها، أَو تفكر بالاستقلال والتقدم والكرامة والحرية والعزة والسير في الطريق الخَاصَّة بها، تطلق عليها صفة الدولة المارقة.

وفي نهاية كُـلّ خطابات الرؤساء الأمريكيين يهمسون بأن الرب معهم ويحميهم ويوجههم ويوحي إليهم بأعمالهم، بمن فيهم أكثرهم بشاعة في التاريخ، قاتل أطفال اليابان والعالم، الرئيس ترومان، صاحب أول قنبلة نووية، كان يهمس بنفس التقوى الظاهرة بعد كُـلّ خطاب له، بما فيه خطاب العدوان النووي الفظيع نتذكره وهو يقول: “ليرحمنا الرب وليحفظنا ويحمنا ويحم أمريكا”.

 

نصارى وما هم بنصارى:

فهل هم نصارى يدعون ويبشرون بالنصرانية والمسيحية الغربية ويدافعون عن قيمها كما يخطر على البال؟ أم هم نصارى وما هم بنصارى، أي لا إيمان لهم بخالق أَو بقيم؟

إنهم لا يخفون القيم الحقيقية التي يبشرون بها ويحيون على مناهجها رغم التمسح المنافق العقيم بالنصرانية وبالرب في ذيل كُـلّ خطاب.

عند الحديث عن القيم الأمريكية والغربية يضيع كُـلّ حديث عن الدين والنصرانية وقيمها، ويعزل الدين عن المجتمع والسياسة والحياة والاقتصاد وكل شيء يخص الدولة والمجتمع المدني.

إن الكفر بالدين وبالخالق وبالقيم والأخلاقيات هو الواقع الحقيقي القائم في الغرب وفي أمريكا، إنهم يكفرون بكل شيء إلهي وأخلاقي وقيمي وينفرون منه، ومع ذلك هناك كنائس وبيوت للعبادة يرتادها الناس العاديون (المساكين) وهم من يمول أنشطتها وليس لها أي حق في التدخل في شؤون الناس الاجتماعية والعامة والفردية، هو دين واقع تحت رحمة الكافرين به.. فلماذا يبقى صوريا إذن؟؛ لأَنَّ الحكام يحتاجون أن يستخدموه لتزوير إرادَة الناس البسطاء المؤمنين وتضليلهم وإقناعهم بسلامة قراراتهم وسياساتهم وحروبهم، ولإضفاء القدسية على حروبهم العدوانية ضد الآخرين، سواء نصارى أم غيرهم.

إن المجتمع الأمريكي والغربي هو مجتمع الرذائل، فالكفر والإباحية السلوكية والاستباحة والاستغلال والقهر للآخرين والرذائل والعدوانية، هي القيم الكبرى للأمريكي والغربي، الكفر هو عقيدتهم الحقيقية الباطنة والظاهرة التي لا نراها في كتبهم وخطاباتهم، بل في سلوكهم وتصرفاتهم وسياساتهم وأفعالهم وقوانينهم ودساتيرهم وتشريعاتهم وأنماط معيشتهم وحلالهم وشهواتهم ورغباتهم ونزواتهم وثقافاتهم اليومية وإباحاتهم واستباحاتهم ولهوهم ومتعهم وفنونهم وألعابهم ومسرحهم وأفلامهم وقنواتهم.

 

قوةُ العقائد تحدّد قوة الجيوش:

الانتشار الإنساني للقوى والدول يعتمد على نشر عقائد إنسانية عالمية جديدة، وبالتالي فإن جميع القوى الطامحة إلى الانتشار العالمي أَو الاجتماعي لا تستطيع ذلك إلا إذَا كانت تحمل عقيدة ثورية جديدة تستهوي قلوب الأغلبية البشرية المقهورة المظلومة، وهذا ما شهدته الدعوات الدينية الكبرى، وما شهدته الدعوات الإنسانية التحرّرية العظيمة في العالم أجمع، وهذا ما حدث في الثورات البريطانية والفرنسية والروسية والصينية.

لقد انتشرت الجيوش الفرنسية للسيطرة على القارة الأُورُوبية بكاملها خلال بضع سنوات، ساحقة في طريقها كُـلّ الجيوش والتيجان والممالك والإمارات الأقوى منها.

إن نابليون كان نتاجاً لتلك الثورة الفرنسية العظيمة، وليس منفصلا عنها وعن القيم التي تبنتها الثورة. لم تكن عبقرية نابليون وحدها التي هزمت الأُورُوبيين في الجوهر، بل هي العقائد الثورية التي كونتها، وعندما كفت تلك الأفكار عن أن تشع وأن تكشف جوهر الثورة وتستبدله بقفاز الإمبراطورية الاستعمارية الرأسمالية، سرعان ما انهارت تلك العبقرية الحربية التي خسرت جوهرها الثوري الأخلاقي، وخسرت محتواها القديم الأصيل، فسهلت هزيمته والقضاء عليه وعلى عصره وإعادة الرجعية إلى فرنسا وإلى أُورُوبا بعد أن تعلمت دروس الثورة القديمة الجديدة.

ولم تكن عبقرية جوكوف أَو ستالين هي وحدها التي هزمت ألمانيا ودمّـرتها واستأصلتها من الوجود في الحرب العالمية الثانية، بل إن القيم التي بشرت بها ثورة البلاشفة الشيوعية والاشتراكية في روسيا هي التي هزمت الألمان واليابانيين، واستطاعت القيام بما يشبه المعجزات والخوارق من التضحيات والثبات الوطني الحربي، وأن تصطف الشعوب السوفيتية خلف قيادتها، وأن تقدم عشرات الملايين من الشهداء على مذبح حرية وكرامة الإنسان في العالم كله، ويصدق هذا على الثورة الصينية والفيتنامية التي واجهت أقوى جيوش العالم وأكثرها تطورا.

ليست عبقرية الزعيم ماو تسي تونغ أَو عبقرية الزعيم هوشي منه أَو الجنرال جياب أَو عبقرية الزعيم كيم إيل سونغ وحدَها التي صنعت الانتصارات ضد العدوان الفرنسي والياباني والأمريكي، ولا هي الأسلحة وحدها التي صنعت ذلك، وإنما قبل كُـلّ شيء وأهم شيء كانت القيم العظمى التي فجرتها الثورات الشعبيّة الوطنية التحرّرية.

وليست عبقرية الخميني وحدَها التي هزمت الشاهنشاهية والأمريكيين وعملاءهم والصداميين والإرهابيين، وإنما قبل كُـلّ شيء القيم التي فجرتها الثورة الشعبيّة الوطنية الاستقلالية والتحرّرية العظمى في عقول ونفوس الشعب والناس العاديين والمقهورين.

ولم تكن عبقرية كاسترو لتفعل الكثير وحدها بدون القيم التي فجرتها الثورة الكوبية في نفوس الشعب الكوبي المظلوم وفي نفوس اللاتينيين المقهورين المستعبدين طيلة قرون من الولايات المتحدة.

لقد هُزمت أمريكا أينما اتجهت، وسوف تهزم أينما تتجه الآن ومستقبلا؛ لأَنَّها لا تحمل أية قيم أخلاقية حقيقية تملك بها قلوب الشعوب وملايينها المقهورة المحرومة والمستغلة من قبل أمريكا وحلفائها، وروسيا والصين وكوبا وفنزويلا ولبنان والعراق واليمن وفلسطين وتايوان وهونج كونج وكوريا والفلبين وباكستان وأفغانستان وإيران وغيرها نماذج تؤكّـد تلك الحقيقة، حيث شهدت أكبر الإخفاقات للأمريكي، إخفاقات هائلة وفاضحة، خُصُوصاً أنها كانت قد حقّقت سيطرة سياسية وأمنية كاملة وشاملة على بعض الأنظمة المذكورة وغيرها، والتي ظلت تابعة لها لبعض الوقت، فلماذا يحدث هذا الانحدار لأمريكا بعد أن وصلت إلى أعلى مستوى لها من الهيمنة العالمية، والتي لم تدم طويلاً على عكس واقع ومنطق وتاريخ الإمبراطوريات الأُخرى في التاريخ القريب والبعيد؟ وإلى أين يقودها هذا الانحدار الجاري؟ وما هي دلالاته؟

 

المسيرة: علي نعمان المقطري

قد يعجبك ايضا