(نص + فيديو) المحاضرة الرمضانية الثامنة والعشرون للسيد عبدالملك بدرالدين الحوثي 1441هـ

موقع أنصار الله  – صنعاء– 30 رمضان 1441هـ

أُعُـوْذُ بِاللهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيْمِ

بِـسْـــمِ اللهِ الرَّحْـمَـنِ الرَّحِـيْـمِ

الحمدُ لله رَبِّ العالمين، وأَشهَـدُ ألا إلهَ إلَّا اللهُ الملكُ الحقُّ المُبين، وأشهَدُ أنَّ سيدَنا مُحَمَّــداً عبدُهُ ورَسُــوْلُه خاتمُ النبيين.

اللّهم صَلِّ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، وبارِكْ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، كما صَلَّيْتَ وبارَكْتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ إنك حميدٌ مجيدٌ، وارضَ اللهم برضاك عن أصحابه الأخيار المنتجبين، وعن سائر عبادك الصالحين.

أيُّها الإخوة والأخوات

السَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛

وتقبَّل الله منَّا ومنكم الصيام والقيام وصالح الأعمال.

اللهم اهدنا وتقبَّل منَّا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.

تحدثنا بالأمس في مناسبة يوم القدس العالمي عن الخطر الأمريكي والإسرائيلي، وعن مسؤوليتنا- كأمةٍ مسلمة- في التصدي لهذا الخطر الرهيب، الذي يمس بنا في انتمائنا الإيماني والديني، ويمس بمبادئنا، ويشكِّل تهديداً علينا في قيمنا وأخلاقنا، ومستوى التزامنا الإيماني والأخلاقي، وتحدثنا أيضاً عن خطورة التفريط في ذلك على ضوء الآيات القرآنية المباركة.

ولأن هذه المسألة مما فيها انقسامٌ وخلافٌ وجدلٌ كبيرٌ بين أبناء الأمة، فهي من المسائل التي يحتاج فيها الإنسان إلى وعيٍ عالٍ، وإلى بصيرةٍ ويقين؛ حتى يتحرك على بيِّنةٍ من الله -سبحانه وتعالى-، لا يتأثر بأي دعايات، ولا شائعات، ولا أي شبهات، ولا أي تشكيك في محاولة صده عن اتخاذ الموقف الصحيح المسؤول الذي يوجِّه إليه الله -سبحانه وتعالى- في كتابه الكريم.

وكما قلنا بالأمس: أنَّ هذه المشكلة مما يقصِّر فيها الكثير من الناس، فلا يلتفت إليها بجدية، ولا يتجه بجد واهتمام لمعرفة ما ينبغي عليه من خلال القرآن الكريم، من خلال توجيهات الله -سبحانه وتعالى-، وليس وفقاً لأي آراء، أو ترجيحات شخصية، أو أهواء نفسية، أو أهواء للآخرين، أو تعامل بقصور نظر، وبدون اهتمام، وبشكلٍ ارتجالي من دون تأمل، ومن دون تفهم.

ومن العجيب جدًّا أن تكون مسألة بهذا المستوى، بهذا الحجم الكبير من الوضوح- وهي في غاية الوضوح- أن تكون محل انقسام وخلاف وجدل في داخل الأمة؛ لأنها من أوضح القضايا على مستوى الواقع، وعلى مستوى القرآن الكريم:

على مستوى الواقع: الكل يعرف بأنَّ العدو الإسرائيلي هو عدوٌ حقيقيٌ وفعليٌ للأمة، وأنه معتدٍ على أبناء هذه الأمة، وما فعله بشعبنا الفلسطيني الذي هو جزءٌ من هذه الأمة، وما احتله من مقدسات وأرض هي جزءٌ من مقدسات وأرضي وبلدان هذه الأمة، هذا أمرٌ معروف، قد يكون هناك قصور كبير في تقييم وتشخيص مستوى الخطورة، ومجالات هذا الخطر، وامتدادات هذا الخطر من جانب العدو الإسرائيلي، لا شك أنَّ هناك قصوراً في الوعي والاستيعاب لذلك، ولكن إجمالاً هناك وضوحٌ تام في المسألة.

كذلك العدو الأمريكي عدوٌ واضحٌ وصريحٌ للأمة، ودوره مع إسرائيل دورٌ مرتبط، ودورٌ مقترن، ودورٌ متلازم، فهما وجهان لعملةٍ واحدة، وهو أكبر داعم وحاضن وراعٍ للعدو الإسرائيلي، ويقف إلى جانبه بكل وضوح، ويتآمر معه في كل المجالات: على المستوى السياسي، يدعمه عسكرياً، يدعمه اقتصادياً، يتبناه بشكلٍ كامل، ويوفر له دعماً مفتوحاً، وفي نفس الوقت آخر ما قدَّمه هو ما عرف بصفقة القرن، التي هي في غاية الاستهتار والسخرية بالأمة الإسلامية جمعاء، وما فعله الأمريكي في العراق، في أفغانستان… في مناطق أخرى من الأمة، في مؤامراته على شعوب هذه الأمة، مسألةٌ في غاية الوضوح.

ثم على مستوى القرآن الكريم: عندما نعود إلى القرآن الكريم في حديثه عن أعدائنا من أهل الكتاب، هم من يتجلى في واقعهم- على أوضح ما يكون، وعلى أبين ما يكون- أنهم تنطبق عليهم تلك المواصفات القرآنية في عدائهم الشديد للأمة، في مؤامراتهم ضد هذه الأمة، أنهم من يتجهون في هذا الزمن كفريقٍ هو فريق الشر من أهل الكتاب، فريق الغدر، فريق المكر، الفريق الذي يعادي هذه الأمة، ويستهدف هذه الأمة، ويتآمر بكل أشكال وأنواع المؤامرات على هذه الأمة، ويستهدف هذه الأمة في كل المجالات، له برنامج كبير، وأعمال واسعة، واهتمامات كثيرة، وأنشطة واسعة: على المستوى السياسي، على المستوى الإعلامي، على المستوى الاقتصادي… يشتغل بوضوح، هو حاضر في ساحتنا الإسلامية بشكلٍ مباشر، وعبر أدواته من الموالين له، الذين يستغلهم ويستخدمهم كأدوات؛ لتنفيذ الكثير من مؤامراته، التي لا يتمكن من تنفيذها بشكلٍ مباشر، أو لا يحتاج إلى تنفيذها بشكلٍ مباشر.

فالقرآن الكريم في حديثه الواسع عن هذا الفريق (فريق الشر والغدر والمكر والكفر من أهل الكتاب، من اليهود والنصارى)، قد قدَّم ما يكفي هذه الأمة لتكون على أعلى درجةٍ من الوعي، وعلى أعلى مستوى من استشعار المسؤولية، وعلى وضوحٍ تام فيما ينبغي عليها أن تفعله لتواجه هذه الحرب، التي هي حرب قائمة- بالفعل- عليها في كل المجالات، ولكنه المرض، المرض الذي يجعل البعض من الناس لا ينفع فيهم هذا الواقع الواضح، وهذه الأحداث البينة، أحداث كبيرة، وأحداث مستفزة، وأحداث مؤلمة، عداءٌ فيه إضرارٌ واضحٌ بالأمة، فيه استهدافٌ واضحٌ للأمة، بكل أشكال الاستهداف: القتل اليومي، الإذلال لهذه الأمة، الظلم، الاضطهاد، القهر، الاحتلال، المصادرة للممتلكات، الاستهداف على المستوى القيمي والأخلاقي، على المستوى الثقافي والفكري، ما ينبغي أن تكون الأمة مستفزة تجاه عدوٍ يفعل كل هذا بها، حادثة واحدة كان يفترض أن تكون مستفزة لهذه الأمة، العمل بشكلٍ واضح للاستهداف لهذه الأمة في رموزها الدينية، حتى وصل ذلك إلى درجة الإساءة المعلنة والصريحة إلى رسول الله محمد -صلوات الله عليه وعلى آله-، السخرية من القرآن الكريم، السخرية من الإسلام جملةً وتفصيلا.

فمستوى العداء من الإسرائيلي ومن الأمريكي، وما فيه من تحركٍ واسع، ومؤامراتٍ واضحة، واستهدافٍ جليٍ وواضح على كل المستويات، هو بالشكل الذي يفترض بهذه الأمة أن تكون في غاية الاستفزاز، وأن تتحرك بكل جدية، وباستشعارٍ عالٍ للمسؤولية في التصدي لعدوٍ بهذا المستوى. ثم- كما قلنا- النصوص القرآنية، والآيات الواضحة، والتوجيهات من الله -سبحانه وتعالى- في كتابه الكريم، يفترض أن تكون كافيةً في أن يندفع الإنسان، وأن يستشعر هذا الخطر، وأن يستشعر مسؤوليته في مواجهة هذا العدو.

والقرآن الكريم قدَّم تشخيصاً عجيباً، وبياناً عجيباً، يعني: عندما نرى أنَّ القرآن الكريم- وبالخصوص تجاه هذا العدو: العدو من أهل الكتاب- ركَّز بشكلٍ كبير على توجيه خطابه إلى الأمة فيما يتعلق بواقعها الداخلي، نجد هذا من الشواهد التي تزيد الإنسان إيماناً بالله -سبحانه وتعالى-، وإيماناً بكتابه، وإيماناً بأنَّ القرآن وآياته البينات وهديه العجيب أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض، ويعلم الغيب والشهادة، ويعلم ما في الصدور، يعلم بذات الصدور، يعلم بخفايا النفوس؛ لأن القرآن الكريم جعل حديثه بشكلٍ رئيسي في هذا الموضوع يتوجه إلى الأمة في واقعها الداخلي محذراً لها وفق عنوانين: من التولي لهذا العدو، ومن الطاعة لهذا العدو، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ}[آل عمران: الآية 100]، وكان هذا من العجيب، في بداية الأمر عندما تلحظ هذه النصوص القرآنية كيف (الَّذِينَ آمَنُوا) ويفترض بهم أن تكون منطلقاتهم في هذه الحياة على أساس هدي الله وتوجيهاته، أن يكونوا مطيعين لله -سبحانه وتعالى-، أن يترسخ عندهم مبدأ الطاعة لله فوق كل شيء، وأن يبنوا مسيرة حياتهم على هذا الأساس، أن يكون ولاؤهم لله -سبحانه وتعالى-، وأن يؤمنوا بولايته، فيكون التولي لله -سبحانه وتعالى- بالنسبة لهم التزاماً عملياً في مسيرة حياتهم، يبنون عليه مواقفهم، يبنون عليه توجهاتهم، يبنون عليه أعمالهم… يبنون عليه كل ما يتعلق بمسؤولياتهم في هذه الحياة، فكيف يأتي التحذير لهم من أن يطيعوا مَنْ؟ يطيعوا فريق الشر، فريق الغدر، فريق الكفر من أهل الكتاب، من أن يتخذوا اليهود والنصارى أولياء بدلاً عن الله -سبحانه وتعالى-، في الوقت الذي لا يزالون يعتبرون أنفسهم من الذين آمنوا، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}، وفي الوقت الذي تعتبرون أنفسكم لا زلتم فيه أنتم الذين آمنوا تتجهون هذا الاتجاه: بالطاعة أو بالولاء لأهل الكتاب، لهذا العدو، ولفريق الشر من أهل الكتاب، ويقدِّم المسألة بأنها في غاية الخطورة، في الوقت الذي يحذِّر منها، يقدِّمها بأنها في غاية الخطورة، إلى درجة أنها ستمس بانتمائك الإيماني، بمصداقيتك في إيمانك؛ لأن هناك يقول: {يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ}، وهناك في الآية الأخرى يقول: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ}[المائدة: من الآية51]، بعد أن قال: {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}[المائدة: من الآية 51].

ولاحظوا، حتى في قوله -جلَّ شأنه-: {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}، فهم في واقع الحال يتولون بعضهم بعضاً، في الوقت الذي لا يزال اليهودي يهودي، والنصراني نصراني، من حيث الانتماء العقائدي، لكنه التوجه في الموقف، والتوجه في العمل، والتوجه في المؤامرات ضد هذه الأمة، وغير غريبٍ في واقعهم ذلك؛ لأنها تشابهت قلوبهم، أهدافهم، نواياهم، توجهاتهم، وكذلك لما عندهم هم في واقعهم من الخلل الكبير، ليس عندهم تركيز- أصلاً- على الالتزام الإيماني، والإنساني، والأخلاقي، والقيمي، منطلقاتهم منطلقات أخرى، بعيداً عن أي التزام ديني، أو أخلاقي، أو إنساني، أو قيمي بالنسبة لهم.

لكنَّ حالنا كمسلمين، حال الذين آمنوا، يفترض أن يكون مختلفاً عنهم، حيث المنطلقات تبنى على أساس أن تكون منطلقات محسوبة بحساب الإيمان، بحساب القيم، بحساب الأخلاق، بحساب المبادئ الإلهية، وهذا ما يفترض أن ندرك به أننا نختلف عنهم؛ وبالتالي لا يمكن أن نجتمع معهم في موقف، في توجه، في مسار عملي، في سياسات واحدة، في توجهات واحدة؛ لاختلاف المواقف في منطلقاتها؛ وبالتالي في أهدافها وغياتها ونتائجها، وهذا ما يجب أن يجعلنا في اتجاه مختلفاً عنهم.

أمَّا هم فمن الطبيعي، {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}، من الطبيعي أن يكونوا كذلك، فهم متشابهون في السوء، في المكر، في الكفر، في الغدر، في الشر، في الفساد، في الإجرام، في الأطماع، في النزعة الاستعمارية… إلى غير ذلك، ولكن الحال بالنسبة لنا عندما يحدث مثل هذا الانحراف، فهو يدل على انحرافٍ خطيرٍ جدًّا، وهو- في واقع الحال- يعتبر جرماً عظيماً؛ ولذلك قدَّم توصيفاً لهذا الجرم في قوله: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ}، وقدَّم توصيفاً في الآية الأخرى: {يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ}، فهذا- بحد ذاته- يبين مستوى الخطورة.

لو أتى الإنسان ليقدِّم وجهة نظرٍ أخرى: فيعتبر أنه من الممكن الطاعة لهم، دون أن يكون لهذه الطاعة أي تأثيرات على انتمائك الإيماني، ويمكن التولي لهم، والوقوف معهم في موقفهم، والتحالف معهم، دون أن يحصل عليك هذا التوصيف، دون أن تتحول إلى هذا المستوى في بُعدك عن انتمائك الإيماني إلى درجة أن يقول: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ}، فإنَّ هذا كفرٌ بالقرآن، ردٌ لآيات الله -سبحانه وتعالى-، الذي يتصور أنَّ بإمكانه الطاعة لهم، وأن يبقى مؤمناً كامل الإيمان، ويطيعهم ولو في بعض الأمر، والذي يتصور أن بإمكانه أن يتحالف معهم، وأن يواليهم، وأن يقف معهم في مؤامراتهم ضد أبناء الأمة، وبتصوره أنَّ هذه مسألة تصفية حسابات مع هذا الطرف أو هذا أو ذاك الطرف من أبناء الأمة، فهو هنا هو يتصور أنه سيبقى سليم الولاء لله -سبحانه وتعالى-، وأنه سيبقى أيضاً على مصداقيةٍ في انتمائه للأمة؛ فهو يكفر بقوله -سبحانه وتعالى-، ويجحد بقوله -سبحانه وتعالى-: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ}.

هذه النتائج التي تترتب على مسألة الطاعة، وتترتب على مسألة الموالاة لهم، هي نتائج حتمية، لا شك فيها، لا مرية فيها، فلا يمكن أن يتجه الإنسان هذا الاتجاه، إلَّا وتكون النتيجة هي هذه النتيجة؛ لأن الذي يقول لنا ذلك ليس محللاً صحفياً، وليس زعيماً سياسياً، إنَّ الذي يقول لنا ذلك هو الله -سبحانه وتعالى- في محكم آياته، في كتابه المبارك، في كتابه (القرآن الكريم) الذي: {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ} [فصلت: من الآية 42]، أفلا ندرك خطورة هذا الأمر؟ أفلا ندرك خطورة هذه المسألة؟ فكيف تتحول هذه المسألة إلى جدل كبير، وانقسام واضح في واقع الأمة، فيتجه البعض من أبناء الأمة في تحالفات واضحة مع أمريكا ومع إسرائيل، ويتجه البعض من أبناء الأمة إلى التنصل عن أي موقف تجاه هذا الخطر، وإلى معارضة ومعاداة من يتبنى موقفاً على ضوء آيات الله -سبحانه وتعالى-، على ضوء توجيهات القرآن الكريم، على ضوء هدي الله المبارك، معارضته، والإساءة إليه، والتشكيك في موقفه، والمعارضة الصريحة والواضحة له؟

ولاحظوا لأن المسألة هي- بالفعل- ليست مجرد موقفٍ عارض، بل مسألة يبنى عليها التوجهات، تبنى عليها المسارات العملية، تبنى عليها المواقف المستمرة، تتحول إلى منهجية عمل، وإلى مسارٍ في الطريق إلى نهايته، إلى آخره، ليست المسألة مسألة مجرد موقفٍ محدود، فالبعض من أبناء الأمة الذي يتجه في اتجاه المسارعة في الموالاة لهم عن طريق التولي المباشر، والعمل المباشر بالتحالف معهم، بالتأييد لهم، بالوقوف في موقفهم ضد أبناء الأمة، بالتحرك ضمن مؤامراتهم على أبناء الأمة، هو يبني على ذلك سياساته الإعلامية، مواقفه السياسية، تحركاته العسكرية، نشاطه الثقافي والفكري، ويتحول هذا كبرنامج رئيسي يتحرك على ضوئه في واقع الحياة، وليس مجرد موقفٍ هامشيٍ عارض تحدَّثوا عنه في صحفية مرةً واحدة، أو قالوا عنه شيئاً، بل يتحول هذا الولاء إلى برنامج عملي يحكم بقية الأمور: يحكم الثقافة، يحكم المناهج، يحكم السياسة الإعلامية، يحكم الخطاب الديني، يؤقلم معه الخطاب الديني حتى في خطب الجمعة، حتى فيما يركز عليه في تلقين وتثقيف الناس، فتتحول المسألة بكلها إلى مسألة تحكم المسار العملي لذلك الطرف الذي يتجه هذا التوجه السلبي.

كذلك من يختارون الطاعة من خلال موقفٍ أو بشكلٍ آخر، بطريقةٍ أخرى، وهي: أن يتخذوا قراراً بأن لا يكون لهم أي موقف، أي موقف صريح وواضح ضد أمريكا وضد إسرائيل، ضد فريق الشر والكفر والعداوة للأمة من أهل الكتاب، ثم يحرصون على ألَّا يكون في كل اهتماماتهم العملية، وفي كل مسيرة حياتهم، في طريقتهم في التعليم، في طريقتهم في الخطاب الديني، في طريقتهم العملية، في مواقفهم الكثيرة، حتى في التفاصيل الدقيقة، يحرصون على ألَّا يكون فيها بكلها ما يعبِّر عن موقفٍ ضد أمريكا أو ضد إسرائيل، ضد ذلك الفريق (فريق الشر والكفر من أهل الكتاب)، وهذا يؤثِّر على برنامجهم بكله، فيحكم هذا موقفهم، عملهم، مسيرة حياتهم، منهجيتهم العملية، طريقتهم في التعليم، خطابهم الديني، يحاولون أن يؤقلموه كله بما لا يسخط أمريكا، بما لا يسخط إسرائيل، بما لا يرون فيه أنه يستثير أمريكا أو يستثير إسرائيل، أو يستفز ذلك الفريق (فريق الكفر والشر من أهل الكتاب)، فيصبح هذا الموضوع- بنفسه- هو الأساس الذي يبنون عليه مسيرتهم العملية، وتوجهاتهم العملية في كل تفاصيلها، ثم يحرصون على أن يكونوا متميزين أمام العدو بموقفهم هذا، فنراهم- في نهاية المطاف- في موقف، يحرصون دائماً على أن يكونوا على النحو الذي يظهرون فيه أن ليس لهم موقف من الأمريكي والإسرائيلي معادٍ، وأنهم ليسوا مع أولئك الذين لهم موقف واضح وصريح، يتحركون فيه وفق توجيهات الله -سبحانه وتعالى-، ووفق ما تمليه الفطرة الإنسانية في مواجهة هذا الخطر وهذا الشر من أعداء الأمة، فهم يحرصون أن يكونوا متمايزين، فيحرصون على أن تكون مواقفهم في التدجين لأهل الكتاب (لأعداء الأمة) مواقف واضحة وصريحة، أنهم لا يؤيِّدون الجهاد، بل يعارضونه، أنهم لا يؤيِّدون أي موقف يعبِّر عن العداء لإسرائيل، أو يعبِّر عن العداء والمناهضة لأمريكا، أن موقفهم مختلفٌ عن ذلك، يحرصون على أن يكون هذا واضحاً حتى للعدو، يحرصون على ذلك: أن يكون موقفهم هذا واضح حتى للعدو، ويحرصون على أن يكون لهم مواقف مباينة ممن يتجه الاتجاه القرآني، الاتجاه الصحيح الذي تفرضه علينا آيات الله -سبحانه وتعالى-، وتوجيهاته، وتعليماته، في المباينة لأعداء الأمة، في التحرك ضد خطرهم، في التحرك في سبيل الله -سبحانه وتعالى-، في عنوان الجهاد بمفهومه القرآني الشامل والواسع، الذي نناهض فيه أعداء الأمة، ونتصدى لخطرهم في كل مجال من المجالات، فيظهرون هم بشكل معارضة واضحة، بشكل تثبيط، تخذيل.

ففي نهاية المطاف هم يعملون أعمال هي لصالح ذلك العدو، هم في موقع الطاعة، يطيعون ذلك العدو، يطيعونه في معارضة ما يريد معارضته، أوليس يريد معارضة أن تتحرك الأمة ضده؟ بلى، بكل وضوح. أوليس يريد من الأمة أن تشطب هذه المسؤولية من قاموس التزاماتها الدينية والإيمانية، أن تلغي الجهاد، أن تلغي مسألة المباينة لأعداء الأمة، أن تسكت عن الحديث عن خطره، وعن شره، وعن فساده، وعن ضلاله، وعن منكره، أن تخنع له، ألَّا تتحرك ضد مؤامراته، ألَّا تقف بوجه مخططاته؟

الذين يريدون من الأمة أن تقف أمام هذا العدو، وأن تفسح له المجال ليفعل ما يشاء ويريد دون أي معارضة، ودون أي موقفٍ مناهضٍ ومعادٍ لتحركات العدو، أليسوا يقدِّمون خدمةً للعدو؟ أليسوا في موقع الطاعة للعدو؟ بلى، المسألة واضحة.

فلاحظوا كيف كان هذا- وبالذات في هذا الزمن- أكبر اختبار تمر به الأمة، وأكبر فرز في واقع الأمة، عندما اتجهت البعض من قوى هذه الأمة، عندما اتجه البعض من أبناء الأمة في هذه الخيارات المعوجة: في خيار الموالاة الصريحة للعدو، بالرغم من كل ما يفعل، بالرغم من سوئه، بالرغم من مؤامراته على هذه الأمة، بالرغم من جرائمه الشنيعة والفظيعة بحق هذه الأمة، وعندما اتجه البعض للتدجين للأمة، ومعارضة أي موقف يقف بوجه هذا العدو أو يباينه، على مستوى شعار يُهتَف به، يعارضون ذلك، يغضبون من ذلك، ينددون بذلك، يستاؤون من ذلك، يؤلمهم ذلك، لا يطيقون ذلك.

على مستوى خطوات عملية، في الدعوة إلى مقاطعة البضائع الأمريكية والإسرائيلية، يأتي ليعارضك، وليسوغ للموضوع، وليبرر له: [أنه لا مشكلة فلتستمر الأمة في التعامل معهم]، وقد يحاول أن يدافع عن ذلك حتى باسم الخطاب الديني… وهكذا في أي موقف: في التوجه لبناء الأمة في قدراتها العسكرية، في إحياء الروحية الجهادية، في الاستشعار للمسؤولية، في الحديث عن هذا العدو في فضح مؤامراته، في كشف مخططاته، يأتي ليعارض، ليحاول أن- على حسب التعبير المحلي- [يطنش] الموضوع، يشطب هذه المسألة، لا يريد حتى الحديث عن هذا الموضوع، يعارض حتى الكلام عن هذه المسألة، يريد للناس أن يصمتوا، أن يسكتوا، أن يقعدوا، أن يجمدوا، أليس هذا مطيعاً لأهل الكتاب؟ أم أنه مطيعٌ لله؟ هل توجيهات الله هي بالسكوت؟ هل أوامره هي بالقعود؟ هل توجيهاته هي بالجمود؟ |لا|.

فإذاً من يتجه هذا الاتجاه هو في موقع الطاعة لأهل الكتاب، الطاعة لهم وهو يعصي الله -سبحانه وتعالى-، ويسكت عمَّا أمر الله -سبحانه وتعالى- بالكلام فيه، ويقعد عمَّا أمر الله بالعمل فيه، ويشطب مسؤوليات من مسؤوليات الأمة الكبرى في التصدي لهذا الخطر ولهذا العدو، ويطيعهم وهو يدجِّن الأمة لهم، وهو يسعى لأن تكون الأمة في موقعٍ لا تقول فيه شيئاً، ولا تعارض فيه شيئاً من مؤامراتهم ولا مخططاتهم، أراد للأمة أن تستسلم لهم، ألَّا تعارضهم، ويعارض من يعارضهم، ويعادي من يعاديهم، أليس في موقع الطاعة لهم وهو يعادي من يعاديهم؟ قد لا يكون بينه وبينه أي مشكلة شخصية، أو أي قضية على خلاف شخصي أو خلاف آخر، لكن المشكلة الرئيسية التي بنى عليها موقفه السلبي من أولئك: أنهم تحرَّكوا في موقفٍ مباينٍ وصريح ضد أعداء الأمة؛ فيكرههم.

فلهذا يوصِّف القرآن الكريم هذه الحالة بأنها حالة مرض، عندما قال الله -جلَّ شأنه-: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ}[المائدة: من الآية 52]، فهم من هذه الحالة التي هم فيها لا يعيشون السلامة الإيمانية، السلامة الفطرية، لا سلمت لهم فطرتهم، لو سلمت لهم فطرتهم؛ لكان العدو الواضح أمامهم في وضعٍ لا يحتاجون فيه، بل لا يندفعون فيه أبداً- تحت أي دافع- لخدمته، أو التحالف معه، أو القعود عن الموقف منه، ومعاداة من يقف بوجهه، لكنها حالة المرض الذي قد يكون: إمَّا شكاً، أو عدم ثقةٍ بالله -سبحانه وتعالى-، أو نقص وعي، أو جبناً، أو بخلاً، أو حقداً… أو أي مرضٍ من الأمراض المعنوية، التي تعني مشكلةً في السلامة الإيمانية على المستوى النفسي، على مستوى المشاعر والوجدان، قد يكون كبراً، قد يكون حقداً، قد يكون جبناً، قد يكون طمعاً، قد يكون ميولاً فاسدةً، قد يكون…إلخ. العوامل والأسباب كثيرة جدًّا.

ثم نجد في الآية المباركة في قوله -جلَّ شأنه-: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ}، ما يمثله هذا الموضوع من خطورة كبيرة على الإنسان، فكما قلنا تتجه الكثير من الآيات المباركة لتحصين الأمة من الداخل، لتحصينها من الداخل، هنا تجد ما يتوجه إلى تحصين الإنسان- نفسه- من الداخل؛ لأنه عندما يحصل هذا المرض في قلبك، الذي قد يكون أي نوع من أنواع الخلل في إيمانك، في واقعك النفسي والداخلي، وفي مشاعرك ووجدانك، عندما تحصل أي حالة نفسية سلبية تترسخ في وجدانك: إما كانت انعدام ثقة بالله -سبحانه وتعالى- وشك في وعده، إما كانت جبناً، إما كانت أطماعاً، إما كانت ميولاً فاسدةً… أي مرضٍ من الأمراض التي تعني حالة من انعدام السلامة الإيمانية في نفس الإنسان، قلبه لم ينطبع بهدى الله، لم يستنر بنور الله، لم يزكو بهدى الله -سبحانه وتعالى-، فهذه الحالة قد تدفع بك، وتؤثر عليك وتهيؤك إلى أن تتجه وبمسارعة، تتحرك بنشاط وجد ومبادرة، ومن دون أي تكاسل وتخاذل، وتكون في اتجاهك المسارع (فِيهِمْ) يعني: فيما هو خدمةٌ لهم، فيما هو طاعةٌ لهم، فيما هو استرضاءٌ لهم، تتجه بجدية ومبالغة في ذلك، ونحن نجد أن كلا الطرفين الذين وقفا هذا الموقف المنحرف: موقف الطاعة، موقف الاسترضاء، سواءً بالولاء المباشر، أو من خلال القعود والجمود، والقعود والجمود- بحد ذاته- كان بهدف الاسترضاء؛ لأن البعض يرى في قعوده وجموده أنه يمثِّل استرضاءً لأمريكا وإسرائيل، وأنه سيتجنب استثارتهم واستفزازهم، فلا يحسب أنه عدوٌ لهم، أو أنه يقف بوجه مؤامراتهم ومخططاتهم، أو أنه يعاديهم.

فكل الذين اتجهوا اتجاه الاسترضاء هم يبالغون في استرضائهم، يدخلون حتى في مواقف- لربما- غير متوقعة من جانب الأمريكي والإسرائيلي، لربما لم يكن يتوقع في بعض الأمور أن يستجيب له فيها النظام السعودي، أو الإماراتي، أو أشباههم ممن ينطلق في هذا الاتجاه المنحرف، أو ربما لم يكن يتوقع أن يصلوا إلى ما وصلوا إليه من المبالغة في استرضائه، من تقديم أعمال، وخطوات، ومواقف كبيرة جدًّا مفاجئة، في بعضها قد تكون مفاجئة حتى له، لم يكن يتوقع، وأحياناً يعبرون عن أنهم لم يكونوا يتوقعون بعض الخطوات، بعض المواقف، ويستغربون.

الذين اتجهوا أيضاً اتجاه الاسترضاء بقعودهم، بجمودهم ومعارضتهم لمن يتحرك، لمن ينهض بالمسؤولية، لمن يقوم بالواجب، لمن يتحرك وفق توجيهات الله -سبحانه وتعالى-، نجد مبالغتهم أيضاً في عملية الاسترضاء للعدو: جمود عن كل شيء، صمت عن كل شيء يتوقعون فيه أو يحتملون فيه- بأدنى نسبة من الاحتمال- أنه سيكون مستفزاً لأمريكا، أو مستفزاً لإسرائيل، أو محسوباً على أنه مجرد تقارب مع من له موقف ضد أمريكا وإسرائيل، فهم يبالغون في ذلك، يبالغون في الاسترضاء مبالغة عجيبة جدًّا، ويحرصون على أن يتمايزوا حتى في أبسط المسائل، حتى في الشكليات، حتى في قضايا عادية جدًّا، أن يتمايزوا في كل شيء، حتى- بنظرهم- لا يحسب عليهم أي شيءٍ مهما كان بسيطاً أنهم تقاربوا فيه مع الذين لهم موقف ضد أمريكا وضد إسرائيل، وأنهم موقفهم مختلف ومنحاز بشكلٍ آخر، وأنهم لا يتبنون أي موقف مهما كان بسيطاً، يحسب فيه أنه معادٍ لأمريكا وإسرائيل، أو يستفز أمريكا وإسرائيل، فتتحول الحالة بالنسبة لهم إلى حالة غريبة جدًّا من الخذلان، مبالغة وجد عجيب، واهتمام كبير، ونشاط كبير، ومبادرة ومسارعة، وانتباه وملاحظة، ودقة في أمورهم هذه، وهذا من الخذلان الكبير، من الخذلان الرهيب جدًّا، من أعجب الأمور في واقع هذه الأمة.

يفترض بنا جميعاً، كل الذين آمنوا، كل الذين ينتمون هذا الانتماء أن يسارعوا في الابتعاد، في الابتعاد عن أهل الكتاب، عن اليهود والنصارى، عن أمريكا وإسرائيل، وأن يتجهوا بكل جديةٍ ومسارعةٍ إلى ما فيه مرضاة الله -سبحانه وتعالى-، أن يسارعوا في الخيرات، أن يسارعوا في الجهاد في سبيل الله بالمال والنفس في كل مجالات هذه الحياة، أن يتحركوا عملياً للتصدي لهذا الخطر الكبير وهذا الشر الفظيع، الذي يصل في خطورته إلى أن يمسَّ بإيمانهم، بأخلاقهم، بمبادئهم، بقيمهم، بتعليمات الله -سبحانه وتعالى-، في واقع التزامهم بها، أن يتحركوا بمسارعةٍ في ذلك، مسارعة في طاعة الله -سبحانه وتعالى-، المسارعة إلى الخيرات.

فيبين القرآن أنها حالة رهيبة جدًّا، هي حالة المرض التي ينبغي أن يتحصَّن الإنسان منها، كما تأتي التوجيهات التي تحصِّن الأمة من الداخل، تأتي التوجيهات والتوصيفات والتنبيهات التي تذكِّر الإنسان كيف يحصِّن نفسه حتى على المستوى الشخصي، كيف تحصِّن قلبك، كيف تحصِّن داخلك مما يسبب لمثل هذا الانحراف الرهيب والخطير جدًّا.

عندما تأتي التبريرات من جانبهم: {يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ}[المائدة: من الآية 52]، يعني: يبررون موقفهم بأنه إيمان بأن العدو أصبح حالة قائمة لا يمكن التصدي له، ولا يمكن التغلب عليها، ولا يمكن دفع خطرها، وأنه لم يبق أمامهم إلا الانحياز في صفه بشكلٍ مباشر، أو القعود عن أي تحرك بوجه مؤامراته ومخططاته، وللتصدي له.

حالة تبرير غير مقبولة عند الله -سبحانه وتعالى-؛ لأن الله -جلَّ شأنه- يربينا إيمانياً، ويعلمنا أن نثق به، وأن نتوكل عليه، وأن نثق بوعده الصادق بالنصر، إذا تحركنا كما ينبغي، وقمنا بمسؤولياتنا.

ثم يؤكد القرآن الكريم على أن مآلات هذه المواقف المنحرفة هي الخسارة والندم، فيقول: {يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ}[المائدة: 52-53]، فيؤكد هذه الحقيقة القاطعة، الحتمية أيضاً: أن الذين يتجهون هذا الاتجاه المنحرف في الطاعة للأعداء، في التولي لهم، في المسارعة في الاسترضاء لهم، أن عاقبتهم هي الندم والخسران، وهذا ما نؤمن به، وهذا ما نثق به، وهذا ما نقطع به ونتيقنه أنها نتيجة حتمية لهم، عاقبة أمرهم أن يندموا، وعاقبة أمرهم أن يخسروا، وكل جهودهم في استرضاء العدو التي أسخطوا بها الله ستكون- في نهاية المطاف- وبالاً عليهم، وهم يخسرون، هم يخسرون على ما يفعلونه يحملون به الوزر عند الله -سبحانه وتعالى-، وفي نهاية المطاف لن تتحقق لهم أهدافهم من وراء ذلك؛ لأن العدو إنما يستغلهم، العدو حتى هم لا يرضى عنهم، لا يودهم، لا يحبهم، لا يرى لهم قيمةً عنده، مثلما قال الله -جلَّ شأنه-: {هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ}[آل عمران: من الآية 119]، هذا فيمن يحبهم حتى، لا يبادلونه نفس المشاعر، يبقى الحب من طرف واحد؛ أما هم فلن يكون لهم عنده أي قيمة على الإطلاق.

ثم من يسعى بهدف الاسترضاء لهم، والطاعة لهم، ويعطِّل توجيهات الله وتعليماته، ويتجاهلها، بل يعارض من ينفذها، ومن يسعى للالتزام بها، ومن يتوجه بها، مثل هذا النوع أيضاً- ممن يسعون لاسترضائهم- يخسر، وعاقبة أمره أيضاً الخسارة، وقد يصل إلى مواقف سلبية جدًّا، قد يحارب من أجلهم، قد يفعل الشيء الكثير من أجلهم، ثم- في نهاية المطاف- لن يكون لجهوده أي قيمة عندهم، ويضرب، يضرب من جانب الله -سبحانه وتعالى-، أو من جانبهم، ولا تتحقق له النتيجة التي أمَّلها، أمَّل في ذلك السلامة، أمَّل في ذلك العزة، أمَّل في ذلك الاستقرار، أمَّل في ذلك أن يبقى خارجاً عن المشاكل التي يتوقعها للذين يتحركون في الاتجاه الصحيح.

ثم يقول الله -سبحانه وتعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}[المائدة: الآية 54]، (الارتداد) يعني: التراجع، التراجع عن الدين في مبادئه، في أخلاقه، في قيمه، في مسؤولياته، في مواقفه، هذا هو الارتداد المقصود في هذه الآية المباركة، مع أن البعض قد يصلون إلى حد الارتداد الكلي عن الإسلام، ولكن الآية هي تتحدث عن هذا الارتداد، عن هذا التراجع؛ لأن عملية الاسترضاء لليهود والنصارى، لفريق الشر والغدر من أهل الكتاب، لأمريكا وإسرائيل، لن تكون إلا على حساب مبادئ، وقيم، وأخلاق، وتعليمات من الله -سبحانه وتعالى-، ومسؤوليات من هذا الدين، الاسترضاء لهم في أي عمل، في أي موقف، في أي خطوة، سيقابله تراجعٌ عن شيءٍ من أخلاق هذا الدين، أو مبادئه، أو قيمه، أو مسؤولياته، أو تعليماته؛ لأن اتجاههم هم هو اتجاه متناقض مع مبادئ ديننا، مع قيمه، مع أخلاقه، مع المسؤوليات فيه، اتجاههم هم اتجاه ظالم ومفسد في هذه الأرض، اتجاه طغيان، اتجاه عدوان، اتجاه فساد ومنكر وباطل وشر.

ولذلك أي مسارعة للاسترضاء لهم في عملٍ تعمله، أو في شيءٍ تتخلى عنه، فأنت- في المقابل- تقدم شيئاً على حساب ما يقابله من موقفٍ ديني، أو أخلاق، أو قيم، أو مبادئ من تعاليم هذا الدين، وهذه أيضاً من الأمور الحتمية والمؤكدة، الذين يسترضونهم بأعمال يتحركون فيها يرون فيها أنها تعجبهم، وأنها استرضاء لهم، والذين كذلك يؤقلمون أعمالهم، ومسيرتهم العملية، وحتى تدينهم، بالشكل الذي يرونه مرضياً لأولئك وغير مستفز لهم، هذا وذاك، أولئك وأولئك، الكل منهم- هم- يفعلون ذلك على حساب تراجع، تراجع عن مبادئ من مبادئ هذا الدين، تراجع عن قيم من قيم هذا الدين، تراجع عن أخلاق من أخلاق هذا الدين، تراجع عن مسؤوليات وواجبات من مسؤوليات وواجبات هذا الدين، تراجع أيضاً عن التزامات عملية أمر الله بها في كتابه الكريم.

ولذلك ما الذي قابل في هذه الآية، ما الذي قابل حالة الارتداد والتراجع؟ هل قابلها بحالة الإسلام؟ هل قال: [فسوف يأتي الله بقومٍ يسلمون]؛ لأن المسألة مسألة مثلاً ارتداد كلي عن الملة الإسلامية؟ لو كانت المسألة مجرد حديث عن الارتداد عن الملة الإسلامية، لقابل هذا بقوله: [فسوف يأتي الله بقومٍ يسلمون]، وانتهت المسألة، لكنه قابل حالة الارتداد والتراجع بقوله: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ}، فقابل تلك الحالة بهذه الحالة المناقضة لها، فارتداد أولئك (الصنف الآخر الذي يتراجع) هو ارتداد- في مقدمته- عن هذه القيم المذكورة، من أبرز ما فيه غياب هذه القيم.

{فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ} يناقضون في حالهم، في ثباتهم، في وفائهم، في التزامهم الإيماني والديني، ما عليه حالة أولئك المتراجعين، هؤلاء قوم يقول الله عنهم: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ} هذا- بحد ذاته- شرفٌ عظيم وفضلٌ كبير، والمفترض في الإنسان أن يسارع لأن يكون من هؤلاء القوم، أن يحرص على أن يكون منهم، وسماهم قوماً؛ لأنهم سيتحركون بشكل أمة، بشكل أمة تجتمع على هذا المنهج، تجتمع في هذا المسار، تتحرك جماعياً على أساس هذه المواصفات القرآنية، يعني: ليسوا مُبَعثَرين: هذا لوحده، وهذا لوحده، وتحركهم تحرك فردي، بل تحرك جماعي، يأتي الله بهم وهم يتحركون في إطار هذه المواصفات المباركة:

أولها: يتحدث عن طبيعة علاقتهم بالله -سبحانه وتعالى-: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ}، ولذلك هم موالون لله -سبحانه وتعالى-، وهم يحبون الله، والله يحبهم؛ لما هم عليه من مواصفات راقية، ووفاء وثبات على منهج الله -سبحانه وتعالى-، وتجد الحالة تختلف عند الذين يتجهون لموالاة أعداء الأمة، حتى لو وصلوا إلى درجة المحبة لأعداء الأمة، فأولئك لا يبادلونهم المحبة، {هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ}؛ أما الله -جلَّ شأنه- فهو يقول ابتداءً: {يُحِبُّهُمْ}، قبل أن يقول حتى: {وَيُحِبُّونَهُ}.

علاقتهم هذه في المحبة لله -سبحانه وتعالى- أكثر من أي شيءٍ في هذه الحياة، يبنى عليها منطلقاتهم العملية، فهم الذين يتحركون في سبيل الله، وفي الطاعة لله، وفي الموقف مع الله -سبحانه وتعالى- بكل رغبة، ولا يؤثرون على ذلك أي اعتبارات أخرى، هم ذائبون في الله، يتحول هذا الحب لله -سبحانه وتعالى- إلى دافعٍ قويٍ جدًّا للعمل بكل رغبةٍ، وبكل جدٍ، وبكل اعتزازٍ، وبكل شوقٍ، ومن دون أي تراجع لأي اعتبارات أو حسابات شخصية، لا يخضعون لأي حسابات شخصية، أو أي اعتبارات شخصية من هنا أو من هناك، ولذلك فسيكون هو الضمانة التي ستجعلهم ينطلقون ولا يتراجعون أبداً، الذي يتراجع هو الذي تدخل في نفسه، في دوافعه، اعتبارات شخصية: إما مصالح شخصية، أو مكاسب شخصية، أو دوافع شخصية، الذي يحمل الاعتبارات الشخصية هو الذي من يمكن أن يتراجع.

{أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ}، هم في واقعهم الداخلي أذلة على بعضهم البعض، لدرجة أن حالة التواضع فيما بينهم والاحترام المتبادل فيما بينهم، والمودة فيما بينهم، والأخوة فيما بينهم، توصَّف بهذا التوصيف: (أَذِلَّةٍ)، ليسوا جريئين في الإساءة إلى بعضهم البعض، على العكس من غيرهم، تجد الآخرين الذين اتجهوا اتجاهاً آخر كيف هم جريؤون في الإساءة إلى المؤمنين، وفي نفس الوقت أذلاء أمام الأعداء، لا جرأة عنده في الكلام والموقف ضد إسرائيل، ضد أمريكا، لكنه سيكون جريئاً في الإساءة والكلام، ولربما الموقف- بأكثر من ذلك- ممن يعادي أمريكا وإسرائيل.

{أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ}؛ لأنهم يحملون العزة الإيمانية، فهم جريؤون، تتجلى هذه العزة في كل مواقفهم، في كلامهم، في فعالهم، في حركتهم، في مواقفهم بكلها.

{يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}، فليسوا ممن يتبنى القعود والجمود، والتخاذل والتكاسل، ليسوا ممن يشطب هذه المسؤولية بكلها، ويلغيها نهائياً وكأنه لا أساس لها من الدين، فهم يتحركون لبذل الجهد في كل المجالات؛ لإقامة دين الله -سبحانه وتعالى-، فيتحركون وفق الطريقة التي رسمها الله -سبحانه وتعالى- في كل مجالات هذه الحياة: على المستوى العسكري، على المستوى الأمني، على المستوى الاقتصادي، على المستوى الإعلامي، مواقفهم واضحة، يتصدون للعدو في كل مجال وفي كل ميدان، ويتصدون لمؤامراته وخططه في كل المواضيع وفي كل القضايا التفصيلية، هم الحاضرون في كل ميدان للتصدي للعدو، للتصدي لمؤامراته، للتصدي لخططه، للتحرك وفق توجيهات الله -سبحانه وتعالى-، ومن أجله -جلَّ شأنه-.

{وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ}؛ لأن الزمن الذي تدخل فيه الأمة في حالةٍ من الانقسام والاختلاف على هذه القضية سيكثر فيه اللوم، اللوم بشكل كبير لمن يتجه هذا التوجه، لمن يتحرك على هذا الأساس، سيلقى اللوم من القاعدين الجامدين، المسترضين للعدو بقعودهم وجمودهم، وما تخلوا عنه من المسؤوليات والواجبات، وما قصروا فيه من توجيهات الله -سبحانه وتعالى- استرضاءً لأمريكا وإسرائيل، استرضاءً لفريق الشر والغدر والمكر والكفر من أهل الكتاب، وسيلقون اللوم بأشده ممن تحرك بشكل موالاة صريحة وتحالف واضح مع أعداء الأمة، الكل سيلومهم، وسيأتي اللوم بكل أشكاله وأنواعه: اللوم الذي هو بطابع ديني وعناوين دينية، واللوم الذي سيأتي أيضاً بشكل إعلامي وسياسي، واللوم الذي سيأتي إليهم لانتقادهم على كل موقف، على كل حركة، على كل عمل، للتشكيك بنواياهم، للتشكيك بهم، هكذا سيكثر اللوم، سيكون من أكثر ما يتجلى فيه اللوم هو هذا الموقف: اللوم لهم، ولكنهم على درجة عالية من الوعي، واليقين، والبصيرة، والإيمان؛ فلا يكترثون، ولا يبالون، ولا يخافون من لوم اللائمين بكل أشكالهم، بكل أنواعهم، بكل خطاباتهم وأساليبهم، بكل العناوين التي يعتمدون عليها في توجيه اللوم.

هؤلاء الذين يمنحهم الله هذا الفضل الكبير، قال -جلَّ شأنه-: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ}، فضل من الله وشرف عظيم أن يكون الإنسان ممن يدخل في إطار هؤلاء القوم، ممن يحمل هذه المواصفات، نعمة عظيمة وفضل وشرف كبير؛ بينما اللوم- في واقع الحال- ينبغي أن يتوجه تجاه الذين يتخذون مواقف منحرفة.

{وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}، فليسعَ الإنسان إلى أن يكون ممن يؤتى هذا الفضل، وليسعَ لأن يكون ممن يلتزم بهذه المواصفات: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ}[المائدة: 55-56]، وهؤلاء بمواصفاتهم هذه يلتزمون بالتولي العملي لله ولرسوله ولأوليائه وللإمام عليٍ -عليه السلام- ، ولذلك فبتوليهم العملي الذي يبنون عليه حركتهم، مواقفهم، مسيرتهم العملية، يتحقق لهم هذا الوعد الإلهي في نهاية المطاف: {فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ}.

فنجد أن هذه المسارات في واقع الأمة لها عواقبها المرسومة من قبل الله -سبحانه وتعالى-: مسار عاقبته الندم والخسران، هو مسار من يسعى لاسترضاء أولئك من أعداء الأمة، ومسار نتيجته: {فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ}، من يتحرك ضمن هذه المواصفات والطريق التي رسمها الله -سبحانه وتعالى-.

لا يفوتنا- في نهاية المطاف- أن نؤكد على أن هذه المسألة من أهم المسائل التي ينبغي أن يتعامل الإنسان معها بالتزام واستشعار للمسؤولية أمام الله -سبحانه وتعالى-، وأن يحرص أيضاً عندما يتوجه أن يتوجه بجد وصدق، ضمن هذه المواصفات القرآنية، ألَّا يتراجع في منتصف الطريق، ولا في بعضٍ من المراحل المعينة، وأن يحرص على أن يبقى في واقعه الشخصي، في التزامه، ملتزماً بهذه المواصفات، وضمن هؤلاء القوم الذين يحملون هذه المواصفات، والتي بها الشرف الكبير.

نسأل الله -سبحانه وتعالى-، أن يوفقنا وأياكم لما يرضيه عنا، وأن يرحم شهداءنا الأبرار، وأن يشفي جرحانا، وأن يفرِّج عن أسرانا، وأن ينصرنا بنصره، إنه سميع الدعاء.

 

والسَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛

قد يعجبك ايضا