من تحرير أيّار إلى انتصار تموز.. ما هي خيارات “اسرائيل”؟

” صحافة “

لا ينفصل إنجاز التحرير عن المسار التاريخي لحتمية الانتصار، منذ انهيار السلطنة العثمانية في بدايات القرن العشرين، وتوالي الاحتلالات الأجنبية لدول المنطقة بشكل عام ولبنان بشكل خاص. وقد يخيّل لمن يقلّب صفحات التاريخ أن المقاومة في هذا البلد الصغير حدث ناشئ تبلور في منتصف ثمانينيات القرن الماضي، ولكن المتفحّص للتاريخ يدرك أن لبنان لم يكن جزءاً هامشياً في رقعة الصراعات في المنطقة، بل كان ولا يزال القطب الرئيسي في رحى الثورات والتحرير.

ثوابت المقاومة

ست سنوات ما بين الانتصارين مثّلت لدى قادة العدو فرصة “لأخذ العبر” ودراسة مواطن الضعف في التخطيط والفشل الاستخباري والعسكري، في حين كانت مرحلة انتقلت فيها المقاومة إلى بعد آخر في المواجهة، فقد رسم انتصار أيار سقفاً لا يمكن النزول دونه، وشكّل خطاب النصر في بنت جبيل برنامج عمل أتبعه الأمين العام لحزب الله سماحة السيد حسن نصر الله، وفي أكثر من مناسبة، بإعلان مجموعة من الثوابت أهمها:

• المقاومة مستمرة لتحرير باقي الأراضي اللبنانية المحتلّة.

• المقاومة معنية مباشرة وجاهزة دائماً للردّ على أي اعتداء إسرائيلي على لبنان برّا وجوّاً وبحراً، وفي أي ظرف وفي أي مكان وزمان.

• المقاومة ماضية في رفع مستوى جهوزيتها البشرية والعسكرية إلى أعلى حد، لتكون قوية مقتدرة وجاهزة في أي طارئ للدفاع عن لبنان وسيادته وأرضه وشعبه.

• المقاومة هي مشروع أساسي في إعادة تشكيل النسيج الوطني دولة وشعباً ومؤسسات، فهي غير منفصلة عن المجتمع اللبناني بل هي في صلب هذا النسيج تتأثر به وتؤثر فيه.

• دعم الانتفاضة وقوى المقاومة في فلسطين المحتلة من أولويات المقاومة الإسلامية في لبنان.

ولعلّ واحدة من أهم ثمرات الانتصار كانت الانتفاضة التي اندلعت بعد تدنيس أرييل شارون باحة المسجد الأقصى في أيلول 2000، ودامت لأكثر من خمس سنوات تحوّلت فيها فلسطين كلّها وفي عمق تواجد الاحتلال إلى أتون مشتعل، وأسّس ذلك للاندحار الإسرائيلي عن قطاع غزة في أيلول عام 2005، مما سمح لقوى المقاومة بتأهيل وتطوير بنيتها العسكرية وتشكيلاتها المقاتلة، وهو ما اعتبرته قيادة العدو تهديدا استراتيجيا إضافيا ليضع كيان الاحتلال بين فكّي كمّاشة.. لم يتردّد السفير الصهيوني في واشنطن داني أيالون آنذاك في الاعتراف بأن السيد نصر الله “السياسي اللبناني الأبرز والأكثر شعبية.. وأكثر القادة العرب ذكاءً، وأكثرهم خطورة”.

ممهّدات الانتصار

حاول العدو مدعوماً بالإدارة الأمريكية أن يحقّق بالسياسة ما عجز عنه بالحرب، باستغلال أحداث 11 أيلول ولاحقاً باستصدار القرار 1559 من مجلس الأمن الذي يطالب بنزع سلاح حزب الله وانسحاب سوريا من لبنان، ولكن السيد نصر الله كان قد حدّد معالم الأفق مبكراً في العام 2002 حيث أكّد “أننا في مواجهة الأخطار لا نتحدّث عن صمود أو تعطيل أهداف أي عدوان إسرائيلي، بل عمّا هو أكبر من ذلك، ونتطلّع إلى انتصار أكبر من انتصار أيّار بآثاره الاستراتيجية على وجود هذا الكيان وعلى مجمل المشروع الصهيوني في المنطقة”.

لم يكن هذا الكلام مجرد موقف سياسي استنهاضي، فقد أرست المقاومة مجموعة من المعادلات الميدانية أهمها:

• معادلة الردع البرّي: وتمثّلت بقصف مواقع الاحتلال على طول جبهة المواجهة في مزارع شبعا اللبنانية المحتلة وكفرشوبا وصولاً إلى الجولان المحتلّ، وبالتصدّي المباشر لمحاولات التوغّل التي كان يقوم بها جيش الاحتلال داخل الأراضي المحرّرة متجاوزاً ما يسمّى “الخط الأزرق”.

• المواجهات النوعية: وأبرزها في قرية الغجر في 21/11/2005، التي امتدّت على جبهة تجاوز طولها 20 كيلومتراً، وبثّت شاشات التلفزة مشاهد عن تجوّل المجاهدين في شوارع الغجر واستهداف مراكز العدو فيها على بعد أمتار، واعتبرتها مصادر عسكرية إسرائيلية أنها “بروفة” تحضيرية للمقاومة للتوغّل في شمال فلسطين المحتلّة.

• معادلة الردع الجوي: وتمثلت بالرد الحاسم على الخروقات الجوية المعادية بالمضادات الأرضية للمقاومة والجيش اللبناني، فضلاً عن إطلاق طائرة الاستطلاع “مرصاد 1” التي نفذت أولى طلعاتها في تشرين الثاني 2004، وجابت الأجواء الشمالية لفلسطين المحتلة وعادت سالمة، وهو ما اعتبره العدو تطوّراً خطيراً انعكس لاحقاً بشكل فعّال على أداء المقاومة خلال ملحمة تموز 2006. ويمكن لهذه الطائرة أن “تحمل متفجرات زنتها بين 40 و50 كيلوغراماً” وفق ما أعلنه السيد نصر الله، مؤكداً “نحن الآن لا نملك فقط إمكانية مواجهة الخرق الجوي، بل أيضاً إمكانية أن نردّ على أي عدوان جوي بمواجهة وعمل من الجو”.

بيت العنكبوت

كانت العقدة الحقيقية ولا تزال عند قادة العدو، في مواقع الجبهة وفي الإدارة والسياسة، هي أن المقاومة الإسلامية لم تخسر حرباً في مواجهة الاحتلال منذ اجتياح لبنان في حزيران عام 1982، فضلاً عن أنها تتقن استثمار مفاعيل الانتصار وتوظيفه لرفع مستوى المواجهة وتوسيع أطرها، ومثال على ذلك ما أطلقه الأمين العام لحزب الله سماحة السيد حسن نصر الله خلال احتفال التحرير في بنت جبيل عام 2000 حين قال: “إسرائيل أوهن من بيت العنكبوت”، فقد اعتبر المعلّق الإسرائيلي رون شليفر أن المقصود من هذا الكلام “إبراز إسرائيل كدولة ضعيفة ومريضة يسكنها مجموعة من الناس المنحطين”، فيما رأى خبراء أن هذه الوصف قد يكون أخطر ما تضمنته الحرب النفسية من قبل حزب الله، لأنه أضرّ بالروح الإسرائيلية كما بالوعي والإرادة والخيال والذاكرة. وهذا الضرر ساد في المستويات السياسية والعسكرية والأمنية وخصوصاً لدى المستوطنين، وتراكمت آثاره السلبية على الروح المعنوية للعدو، فكان لا بد إسرائيلياً من إزالة الصورة الكارثية التي رسمها السيد نصر الله عن الهزيمة، فكان أحد أهم الأهداف في حرب تموز 2006 السيطرة على بنت جبيل وزرع العلم الإسرائيلي في المكان نفسه حيث أعلن السيد نصر الله مقولته، وسمّيت هذه العملية بـ “خيوط الفولاذ” كردّ على وهن “خيوط العنكبوت”، ولكن فشل العدو مجدّداً في تحقيق ذلك.

خيارت “إسرائيل” الممكنة

كان يكفي أن تهدد “إسرائيل” بالحرب حتى يسود الهلع والخوف فتحصل على ما تريد بدون إطلاق أي رصاصة، ولكن بعد تغيير المعادلة أصبحت “إسرائيل” تهرع إلى لملمة أي حدث ميداني يحصل، لأنها باتت تعلم أن اعتمادها قرار الحرب سيرتّب على وجودها تكلفة بشرية ومادّية كبيرة، فقد بات العدو يقرّ بعدم إمكانية الانتصار الحتمي على حزب الله، فانكفأ يعيد حساباته على وقع معادلة “توازن الرعب” وفي ظل اتساع دائرة قدرة صواريخ المقاومة على الاستهداف، وبدأ بإعادة رسم خياراته الوجودية وتقييم مشاريعه الاستراتيجية، وأهمها مشروع “الشرق الأوسط الجديد” ومشروع “إسرائيل الكبرى”، وهما مشروعان أسقطتهما المقاومة الإسلامية، بما دفع منظّري العدو إلى إزالتهما من قائمة الخيارات الممكنة، وهذا بحد ذاته يُعدّ إنجازاً استراتيجياً ليس فقط على مستوى القرار والسياسة، بل أيضاً على مستوى التأثير البنيوي في عقلية الاستعمار الصهيوني، وتزعزع موقع “إسرائيل” في الخارطة الجيوستراتيجية لصالح قوة وثبات موقع لبنان الرسمي والشعبي.

كان لتراكم الانجازات بدءًا من العمليات النوعية والاستشهادية وعمليات الأسر والانتصار في عدواني تموز 1993 ونيسان 1996 الأثر في تحقيق انتصار أيار 2000؛ وهذا الإنجاز الوطني الكبير لا ينفّك في المسار الطبيعي للتاريخ عن حتمية الانتصار. ولعلّ العنوان الأبرز لهذا الإنجاز، إلى جانب الغلبة في الميدان، جاء بغلبة مشروع المقاومة في جبهة “كيّ الوعي” التي أعلنها العدو الإسرائيلي نفسه ولم يستطع تحقيق أهدافه بها؛ وانتفت مقولة: “إسرائيل لا تُقهر”، لتصبح: “إسرائيل أوهن من بيت العنكبوت”، ويصير الشعار بعد الإنجاز الإستراتيجي الذي تجدّد في تموز 2006: “جاء زمن الانتصارات”.

 

محمد أ. الحسيني

قد يعجبك ايضا