ثورة الــ 21 من سبتمبر.. مواجهةُ تركة 4 عقود من الاستعمار الغذائي
|| صحافة ||
على مر التاريخ، اشتهرت اليمن بازدهار الزراعة، حتى قيل إن الزراعة بالنسبة لليمني أُسلُـوبُ حياة وطريقة عيش، فبُنيت المدرجات الزراعية على هضاب وقمم الجبال، وزُرعت الوديان المنخفضة والمرتفعة والسهول المنبسطة والقيعان، وأقاموا أوعية لحصاد المياه، ودائماً ما قدّسوا مواسم ومواعيد المحاصيل الزراعية المختلفة وحافظوا على البذور وانتقوها بنفس عنايتهم بمهد البذرة (الأرض) وبناء على نظام زراعي متكامل تحصل اليمن على الاكتفاء الذاتي من الغذاء، وأكثر من ذلك شكلت الزراعة الموردَ الأهم للدخل الوطني.
ويمكن القول إن فترة الرئيس الحمدي تكادُ تكونُ آخرَ محطات الازدهار الزراعي، حيثُ تحقّق للبلاد خلالها الاكتفاء الذاتي من الإنتاج النباتي والحيوان، كما تشير الدراسات والبحوث المهتمة بهذا القطاع الحيوي، وفي أعقاب ذلك شهد اليمن تغيرات عدة أثرت سلباً على الزراعة بشكل عام وزراعة الحبوب بشكل خاص، انخفض معها إنتاج القمح مع تزايد مستمر في حجم الاستهلاك المحلي السنوي تمت تغطيته دائماً عبر الاستيراد لدرجة وصلت معه واردات اليمن من القمح والدقيق إلى ثلاثة ملايين طن متري سنويا وبفاتورة استيراد تقدر بمليار دولار وفق إحصائيات المؤسّسة العامة لإنتاج وتنمية الحبوب والإدارة العامة للتسويق الزراعي بوزارة الزراعة، وهي فاتورة دائماً ما أرهقت اقتصاد البلاد وعملته الوطنية، فما أسباب تراجع الإنتاج المحلي للقمح وتصاعد استيراده؟ وكيف يمكن عكس هذه المعادلة؟ هل من حلول وفرص متاحة لمواجهة هذا التحدي، هذا التحقيق يبحَثُ ذلك.
الفجوةُ الغذائية في القمح
كثيرةٌ هي الدراساتُ والتقاريرُ الرسمية وغير الرسمية التي تناولت الفجوة الغذائية في القمح وهي في المجمل تتوافق على أن هذه المشكلة تراكمية وَجذورها تبدأ مع لجوء سلطة الثلاثة والثلاثين عاماً إلى تغطية حجم الطلب الاستهلاكي بالاستيراد من الخارج وليس العودة إلى التوسع في الإنتاج وتحفيز المزارعين والمستهلكين في آنٍ على ذلك، وفي ظل عزوف متنامٍ عن استهلاك الحبوب المحلية الأُخرى، وهو خلل جوهري يعكس غياب خطط تنمية القطاع الزراعي وعدم تبني الحكومات المتعاقبة من شريكَي السلطة (المؤتمر ـــ الإخوان) خطط استراتيجية مزمنة تسخر معها كُـلّ الإمْكَانات لتنفيذها، فضلاً عن الاستجابة لوصفات البنك الدولي وهيمنتها على السياسة الرسمية، هذه الأسباب هي العِلة الأَسَاسية للفجوة الغذائية من القمح من منظور المؤسّسة العامة لتنمية وإنتاج الحبوب، بحسب ما أوضح المديرُ التجاري بالمؤسّسة علي عامر “هذه الفاتورة المكلفة لواردات القمح والدقيق حصيلة عقود من غياب سياسة زراعية صحيحة تعمل على الارتقاء بالمنتج المحلي”.
وضمن أسباب الفجوة الهائلة بين الإنتاج والاستهلاك المحلي من القمح ارتفاع تكاليف إنتاجه محلياً وبالتالي أسعاره، في ظل سياسة ممنهجة للشيطان الأكبر ــ أمريكا أهم مصدري القمح لليمن ـــ حرصت على خفض قيمة الكميات المصدرة لليمن في بادئ الأمر أَو قل حتى أصبح اليمن مستورداً شبهَ صافٍ للقمح، حيثُ تصاعدت أسعار المستورد تدريجياً حتى رضخت معها حكوماتُ علي عفاش والإخوان -المتعاقبة على مدار العقود الماضية- إلى دعم واردات القمح وهكذا ظلت المواجهة بين المنتج المحلي والمستورد غير متكافئة فدائماً ما كانت أسعار الواردات منافسة.
غير ذلك نشرة المستجدات الاقتصادية والاجتماعية في اليمن الصادرة عن قطاع الدراسات والتوقعات بوزارة التخطيط والتعاون الدولي تضمنت في عددها الــ38 من نوفمبر 2018م، التأكيد على أن “الفجوة الغذائية لم تجد المعالجات المستدامة وهو ما جعلها تتسع باستمرار في ظل محدودية الإنتاج المحلي وتزايد عدد السكان وتنامي الطلب على الواردات”، وقائمة الأسباب بعد ذلك تستوعب سطوراً أُخرى، لكنها أقل أثراً من جهة ومن جهة أُخرى كانت انعكاساً مباشراً لغياب التدخلات الرسمية الداعمة لإنتاج القمح وقد ترتب عن ذلك تزايدُ حجم تهديدات الأمن الغذائي بل إلى خلق واقع من الاستعمار الغذائي لليمن.
وفي ظل العدوان والحصار الأمريكي السعودي على اليمن ترتفع مخاطر وتداعيات ذلك، وهو ما يستدعي تنفيذ استراتيجية وطنية توفر الأمن الغذائي وتحميه وتحقّق الاكتفاء الذاتي وإن على مراحل، وهذا يعني تخفيضَ فاتورة الاستيراد تباعاً.
في هذا السياق، وبالانطلاق من الفرص الكامنة والجدوى الاقتصادية لإنتاج القمح تؤكّـد المؤسّسة العامة لإنتاج وتنمية الحبوب ـــ المؤسّسة حديثة النشأة وقد أنيط بها تصحيح أخطاء وتداعيات أربعة عقود ـــ أن السياسات ذات الأولوية “لتغطية أَو خفض فاتورة استيراد القمح تبدأ من قيام القطاع الخاص (المستوردين) بالاستثمار في إطار مشروع الزراعة التعاقدية الذي سينظم حصول المزارع على مدخلات ومستلزمات الإنتاج والتسويق”.
ويوضح المدير التجاري بالمؤسّسة “يمكن من خلال توجيه 20 % من قيمة واردات القمح والدقيق سنويا وفي الحد الأدنى، إنتاج ست مِئة ألف طن من القمح المحلي، وهي بدورها ستحدُّ من كمية واردات القمح وفي نفس الوقت تنخفض حوالى 200 مليون دولار من فاتورة الاستيراد”، على أن لن يكون ناجعاً -برأي المختصين- إلا مع تطبيق الحزمة المتكاملة لتقنيات الإنتاج الحديثة (وسائل الري الحديثة / البذور المحسنة / التسميد/ مكافحة الآفات الزراعية / استخدم المَيْكَنَة في المراحل الإنتاجية)، وغير حشد التمويلات اللازمة وتوظيف الموارد المتاحة لا تقتصر المعالجة المستدامة لزيادة الفجوة الغذائية من القمح على زيادة الإنتاج المحلي منه، إذ تجدُ خياراً آخرَ هو تغييرُ النمط الاستهلاكي في الوجبة الغذائية مع الاتّجاه إلى ترشيد استهلاك الغذاء المستورد، يقول المدير التجاري بالمؤسّسة العامة لإنتاج وتنمية الحبوب علي عامر “إدخَال محصول الذرة ضمن النمط الغذائي للمستهلكين (الدقيق المركَّب) سيخفض من استهلاكنا لمحصول القمح وبالتالي ستنخفض فاتورة استيراد القمح ولذلك نأمل من المواطنين الإقبال على استهلاك الخبز المعد من الدقيق المُرَكَّب لتشجيع الإنتاج الزراعي المحلي؛ باعتبَار ذلك مدخلاً لتغطية دورهم في الحد من فاتورة الاستيراد المكلفة ونحن في مرحلة تحول ونخوض معركة تحرّر واستقلال والاكتفاء الذاتي مطلب مُلح في هذا السياق ولا يمكن ذلك إلا بتفاعل مختلف فئات المجتمع “.
ترشيدُ الاستهلاك
وفي تفاصيل ترشيد استهلاك القمح، تشير دراسات رسمية حديثة إلى أن عمل خلطات بنِسَبٍ محدّدة من دقيق القمح مع الحبوب الأُخرى المنتجة محلياً (مثل الدُّخن والذرة الرفيعة التي يمكن التوسع في زراعتها، خَاصَّة أنها أكثر مقاومة للجفاف)؛ مِن أجلِ تقليص الدقيق والقمح المستورد، بالتوازي مع تخصيص جزء من الطاقة الإنتاجية في مصانع المطاحن لصالح إنتاج الدقيق المركَّب من الذرة الرفيعة والدخن والقمح بما يسهل تسويق الحبوب المنتجة محلياً، ويحسن منافسة المُرَكَّب، كما يستلزم الاتّجاه إلى الدقيق المُرَكَّب، تحفيز أصحاب الأفران على خلط دقيق القمح مع بقية أنواع الحبوب المنتجة محليًّا وتوسيع الوعي المجتمعي بالتفاعل مع ذلك.
مع الوصول إلى هذه الخُلاصة في التحقيق، استكملنا بحثه مع القطاع التجاري الذي أكّـد بدوره تموضعه ضمن مسارات معركة الاكتفاء الذاتي والانخراط في إطار الزراعة التعاقدية، وهذا التأكيد جاء على لسان رجل الأعمال المعروف الشيخ يحيى الحباري “في حال قدّمت الجهات الرسمية الضماناتِ الكاملةَ المتعلقة بالمنتج المحلي من القمح، فلا عُذرَ لنا كقطاع خاص في التوجّـه لتمويل إنتاجه”.
رئيس مجلس إدارة الشركة اليمنية الدولية للصناعات الغذائية المحدودة ذهب أَيْـضاً إلى أن الزراعة التعاقدية المطروحة كخيار للحد من فاتورة الاستيراد وتوسيع الإنتاج المحلي من القمح “نظام يمني تقليدي وسلف سابق كان متعارفاً عليه بين المزارعين وتجار وجامعي الحبوب قبيل فتح الباب على مصرعَيه أمام المستوَرد الخارجي”.
وفيما يخص الاتّجاه إلى الدقيق المُرَكَّب يقول الحباري وهو من كبار مستوردي القمح “يمكن أن يكون القطاع الخاص شريكاً فاعلاً فيما يخص إعداد الدقيق المُرَكَّب، لكن ما سيقف حائلاً دون قفزة كبيرة في هذا المجال هو عدم قدرة المطاحن الكبيرة الموجودة على عملية طحن تجمع بين كميات من الذرة والقمح” على أن الشيخ الحباري يرى أن “تهيئة الأجواء لإعداد استراتيجي للدقيق المُرَكَّب سيعيدُ شريحةً كبيرةً من المواطنين لاستهلاك المنتج المحلي من الحبوب”.
وكانت “المسيرة” ضمن هذا التحقيق قد استطلعت آراءَ بعض أصحاب الأفران في العاصمة صنعاء بخصوص إعداد الدقيق المُرَكَّب والكثير منهم يعلل تأخره عن الاتّجاه إلى إعداد الخبز من الدقيق المُرَكَّب بعزوف المستهلكين، فيما يؤكّـد السائرون في هذا المضمار ـــ على نُدرتهم ـــ أن تحقيقَ قفزة نوعية في إعداد الخبز من الدقيق المُرَكَّب يتطلب حسًّا وطنيًّا عاليًا من أصحاب الأفران وقبلهم المستوردين وَفي نفس الوقت يستلزم ووعياً شعبياً بخطورة مهدّدات الأمن الغذائي، وبالتالي الاتّجاه إلى طلب واستهلاك الدقيق المُرَكَّب، ولا شك أن مواجهةَ معضلة تعاظم فاتورة استيراد القمح ومشتقاته معادلةٌ وطنية ثلاثية الأطراف، ولا يمكن أن يسيرَ بها طرفٌ واحدٌ من أطرافها وتحريك المياه الراكدة في هذا الطريق مهمة مشتركة..
المسيرة ــــ عبد الحميد الغرباني