البرنامج الرمضاني لليوم الرابع عشر من ص 2 _ ص 5( ذكرى إستشهاد الامام علي عليه السلام)
لنأتِ إلى حديث واحد هو قوله (صلوات الله عليه وعلى آله): ((علي مع القرآن، والقرآن مع علي)) حتى يتجلى لنا أن تلك الإنزلاقة التي يراها البعض لم تشكل خطورة على الإسلام والمسلمين أنها في واقعها كانت على هذا النحو.
نحن متأكدون والمسلمون جميعاً يعرفون أن الإمام عليا (عليه السلام) أُقْصِيَ، أُزِيْحَ، أُبْعِدَ عن المقام الذي اختصه به الرسول (صلوات الله عليه وعلى آله) وحل محله أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان.
فعندما نرى الرسول (صلوات الله عليه وعلى آله) يقول: ((علي مع القرآن، والقرآن مع علي)) فعندما يُقْصَى علي على جنب فبالتأكيد أن القرآن أُقصِيَ معه أيضاً؛ لأنه قرين القرآن لا يمكن أن تتصور أن أحداً من الناس بإمكانه أن يُقصيَ علياً جانباً ويبقى القرآن يعمل, ويبقى القرآن حياً، ويبقى هو مطبقاً للقرآن، ويبقى هو على منهجية القرآن, لا يمكن ذلك، لو قلنا ذلك لكنا مكذبين بهذه المقارنة المؤكدة, الصريحة, التي قالها الرسول (صلوات الله عليه وعلى آله) في هذا الحديث المتواتر, المعروف عند الجميع: ((علي مع القرآن، والقرآن مع علي)).
وعندما يُقصى علي ففي الواقع أُقصيَ القرآن معه على جنب، أليس هذا انحراف خطير؟. لذا كان طبيعياً بعد ذلك الانحراف أن نرى العظماء، أعلام الدين، الصادقين, يسقطون واحداً تلو الآخر داخل هذه الأمة، ونرى الكاذبين المنحرفين هم من يَلُوا أمر هذه الأمة، هم من يتحكمون في شؤون هذه الأمة، هم مَنْ بعد تحكموا في هذا الدين فقدموه بشكل آخر.
يصبح هذا طبيعياً, أن ترى معاوية يحكم البلاد الإسلامية، بعد أن رأيت أمير المؤمنين قرين القرآن سقط شهيداً في محرابه؛ لأنه: لولا أبو بكر لما كان عمر، لولا عمر لما كان عثمان، لولا عثمان لما كان معاوية، هذا شيء مؤكد لا شك فيه.
ماذا يفيدنا هذا بالنسبة لنا؟ بالنسبة لنا؟ بالنسبة لنا سنرجع إلى نفس الحديث: ((علي مع القرآن، والقرآن مع علي)) وسنظل مع علي أينما كان، نظل مع منهجية علي أينما كان حتى وإن كان قد أُُقصيَ، نحن لا نلتفت إلى الكراسي، إلى العروش، إلى القصور، فمن وجدناه في سُدَّة الحكم قلنا: ذلك أمير المؤمنين، من وجدناه في قصر الخلافة قلنا: ذلك خليفة رسول رب العالمين.لا.
أمير المؤمنين، خليفة رسول رب العالمين، قرين القرآن هو ذلك الرجل, الإمام علي (عليه السلام) يوم أُقصِي, ويوم عاش سنين طويلة يعيش مرارة الألم وهو يرى هذه الأمة يبدأ الانحراف يأكل قِيَمها، يأكل عظمة مبادئها، ثم في الأخير نراه يسقط شهيداً في محراب عبادته.
لنقول لأنفسنا مهما طَبّل الآخرون فقالوا أولئك: [الصّديق، الفاروق، ذي النورين، كاتب الوحي] عناوين من هذه، ألقاب ضخمة من هذه, لا نغتر بها أبداً؛ لأن كل هؤلاء [صديقهم، فاروقهم، أنوارهم, وكاتب الوحي] – كما يقولون – نحن لا نشك جميعاً أنهم كلهم أقصوا علياً، وأنهم سمعوا جميعاً أن الرسول (صلوات الله عليه وعلى آله) قال: ((علي مع القرآن، والقرآن مع علي)) ((علي مع الحق، والحق مع علي)) ((أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي)) ((من كنت مولاه فهذا علي مولاه)) ((لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق)).
أحاديث كثيرة من هذا القبيل سمعوها, وعلموها, وسمعناها نحن من بعدهم، وسمعها أيضاً أشياعهم من بعدهم, أولئك الذين قدموهم من بعد [السلف الصالح] أطلقوا على أولئك هذا اللقب الكبير: [السلف الصالح] [نتمسك بسيرة السلف الصالح] [بمنهجية السلف الصالح]!.
لقد رسم الرسول (صلوات الله عليه وعلى آله) القدوة لنا، والعَلَم لنا، والسلف الصالح لنا في هذه الأحاديث التي يعرفها الناس جميعا, يعرفها علماء المسلمين، يعرفها المحدثون، يعرفها الكثير من المثقفين، ولربما يسمعها الكثير أيضاً من عامة الناس في كل زمان ومكان.
إذاً سنرجع إلى علي باعتباره قرين القرآن، ولا يمكن بحال أن نتأثر بتلك الضجة الإعلامية, وبذلك الإرهاب الثقافي الذي يفرضه الآخرون؛ لأننا نجدهم هم, ونجد أنفسنا أيضاً لو استجبنا لهم سنصطدم بمثل هذه الأحاديث، سنصطدم بالقرآن، نصطدم بالرسول، نصطدم بالواقع أيضاً, نصطدم بالواقع.
فعندما نرى عليا (صلوات الله عليه), نرى فيه المنهجية التي سار عليها رسول الله (صلوات الله عليه وعلى آله)، نرى فيه القرآن الناطق كما قال هو عن نفسه.
إذاً فلنستنطق علياً فيما يتعلق بقضايانا، الأحداث التي مر بها علي، المواقف التي سار عليها علي، التوجيهات التي أطلقها الإمام علي, فيما يتعلق بتصحيح عقائدنا، فيما يتعلق بترسيخ إيماننا، ترسيخ القيم والمبادئ الإسلامية التي جاء بها كتابنا, ورسولنا (صلوات الله عليه وعلى آله).
ففي موضوع الشهادة مثلاً, موضوع الشهادة, لقد كان الإمام علي على علم عن رسول الله (صلوات الله عليه وعلى آله) يوم أن أخبره بأن لحيته سَتُخْضَب من دم رأسه.
هذا الخبر لو يأتي لشخص منا – ربما – قد يكون مزعجاً، لو يأتي هذا الخبر لشخص منا قد ينظر إلى ما حوله, ينظر إلى أسرته, إلى أولاده, إلى ممتلكاته إلى مظاهر الحياة من حوله فيبدو متأسفاً ويودع نفسه حيناً بعد حين وينتظر متى يخضب دم رأسه لحيته، لكن عليا كان يهمه شيء واحد.
كيف أجاب على الرسول (صلوات الله عليه وعلى آله)؟. قال: ((يا رسول الله أَفِيْ سلامة من ديني؟)) أفي سلامة من ديني يحصل هذا؟ ((قال: نعم. قال: إذاً لا أبالي)) مادام أن ديني سليماً.
الإمام علي عندما يقول بهذه العبارة يعطينا إشارة مهمة جداً، وكأنه يلحظ من خلال ما يسمع من رسول الله (صلوات الله عليه وعلى آله) أنه سيحصل ضلال، يحصل انحراف، تحصل فتن. يهم أي إنسان حريص على سلامة نفسه أن يبحث عن سلامة دينه, وأن يحرص على سلامة دينه.
لو كانت الأمور عند الإمام علي (عليه السلام), في رؤيته – يوم قال لـه الرسول (صلوات الله عليه وعلى آله) بهذا الكلام – هو أن هذه الرسالة ستمشي بشكل طبيعي، وسيكون الناس كلهم هكذا بشكل صحيح يسيرون جيلاً بعد جيل لما سأل الرسول: ((أفي سلامة من ديني؟)).
ناهيك عما إذا كان قد قال لـه: أن الذي سيقتله هو أشقى هذه الأمة، أي من هذه الأمة، وهو من يجلب الشقاء على هذه الأمة، وشبَّهه بعاقر ناقة ثمود الذي جلب الشقاء على تلك الأمة فجعلها تستحق عذاباً شديداً من الله، استأصل تلك الأمة بأكملها.
((أفي سلامة من ديني يا رسول الله؟)) ما أحوجنا إلى هذه المشاعر!.
تجد الإمام علياً تأكد أيضاً بأنه فعلاً كان قريناً للقرآن, وما يزال قريناً للقرآن, أن هذا هو منطق القرآن نفسه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (آل عمران:102) أليس هذا توجيه يحث كل إنسان منا على أن يكون حريصاً على أن يسلم له دينه؟ وأن يكون كل ما يهمه هو أن يسلم له دينه، على الرغم من كل ما يواجهه، على الرغم من أي شيء يمكن أن يواجهه حتى وإن كان خبراً مؤكداً على نحو ما جاء لعلي (صلوات الله عليه): ((ستخضب هذه من هذا)) وأشار إلى لحيته ورأسه؟.
ومن خلال هذا نعرف موقعنا نحن من القرآن ومن قرين القرآن، عندما نجد الكثير منا، الغالبية العظمى منا يضحي بدينه من أجل احتمال أن تسلم لـه دنياه، إحتمال أن تسلم لـه قدماه ناهيك عن رأسه، أو لاحتمال أن لا يبـيت ليلة في سجن من السجون، لاحتمال أن لا يضحي بمبلغ من المال في سبيل إعلاء كلمة ربه، أليس كثير من الناس على هذا النحو؟.
كأننا نقول للقرآن نفسه عندما يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ}(الصف: من الآية14ه) أفي سلامة من دنيانا يا قرآن الله؟!. عندما يقول: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} (آل عمران: من الآية104) تمام, لكن هل في سلامة من دنيانا ورؤوسنا وأقدامنا وأيدينا يا كتاب الله؟!.
إن كل إنسان يتولى عليا، إن كل إنسان مصدق برسول الله (صلوات الله عليه وعلى آله) وبكتاب الله يجب أن تكون مشاعره على هذا النحو الذي كان يسيطر على مشاعر علي (عليه السلام): ((أفي سلامة من ديني يا رسول الله؟. قال: نعم: إذاً لا أبالي)).
ولقد كان يقول: ((والله لا أبالي أوقعت على الموت أو وقع الموت عليّ)) إن كل شيء يهمه هو أن يكون هناك السلامة لدينه، فلتخضب دماء رأسه لحيته، وليتقطع إرباً, وليكن ما كان ما دام دينه سالماً لـه.
وهذه هي الرؤية الصحيحة، هذه هي السلامة لمن يبحث عن السلامة، الإنسان لا يمكن أن يسلم إذا لم يسلم لـه دينه, لا في دنياه ولا في آخرته، ما الذي جعلنا نُظلم؟ ما الذي جعلنا نُقهر ونحن ملايين؟ نمتلك الإمكانيات الكبيرة، نمتلك الجيوش، نمتلك الثروات الضخمة والهائلة في باطن الأرض وظاهرها، نمتلك رقعة استراتيجية مهمة؟ لأن ديننا لم يسلم لنا, فوجدنا أنفسنا لم نسلم من الذل، لم نسلم من القهر, لم نسلم من النهب.
أصبحت هذه الأمة ذليلة, أصبحت مستضعفة, أصبحت مقهورة؛ لأنها لم تفكر تفكير قرين القرآن ((أفي سلامة من ديني؟))، وحينها عندما تنطلق لتبحث عن السلامة لنفسك وأنت لا تفكر في أن يسلم لك دينك فلن تسلم نفسك، لن يسلم عِرْضك، لن تسلم كرامتك، وفي الأخير لن تسلم أنت في الآخرة يوم تلقى الله، لن تسلم سوء الحساب، لن تسلم نار جهنم.
إنها الرؤية الحكيمة, ليست رؤية ذلك الذي يفكر في ممتلكاته البسيطة، يفكر في نفسه هو فيرى نفسه أغلى من الدين بكله، يرى نفسه أغلى من نفس الرسول، أغلى من نفس علي، أغلى من نفس الحسن، أغلى من نفس الحسين.
متى يمكن أن يكون لإنسان يفكر هكذا تفكير قيمة عند الله؟ متى يمكن أن يُمنح إنسان على هذا النحو عزة من الله؟ لا، إنه بهذا التفكير يُعتبر تجسيداً صادقاً لمن يَعْشُ عن ذكر الرحمن {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} (الزخرف:36).
كم هو الفارق بين أن تكون في الاتجاه الذي يمنحك الله فيه العزة، يمنحك الله فيه القوة, التأييد، يمنحك الله فيه سلامة آخرتك وإن لم تسلم دنياك؟ كم هو الفارق بين واقع شخص على هذا النحو وبين شخص يُقَيِّض لـه الله شيطاناً يصبح قريناً لـه {وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} (الزخرف:37) وواقع إنسان يُسلط الله عليه شرار عباده، يسلط الله عليه من يسومه سوء العذاب في دنياه, وفي يوم القيامة سوء الحساب, وسوء العذاب في نار جهنم؟ نعوذ بالله من نار جهنم.
إن عليا (صلوات الله عليه) – وإن وجدناه [سَقَطَ] بل نقول صعد إلى ربه شهيداً – إنه ما يزال حياً كما أن هذا القرآن الذي قرنه به الرسول حياً، حياً فيما يعطيه من هدى, من نور، من دروس، من عظة، من عبر، حياً فيما يعطيه الأحرار، فيما يعطيه المجاهدين، فيما يعطيه الصادقين من دروس تجعلهم يذوبون في هذا الدين.
أنت عندما تنظر إلى نفسك، أنا عندما أنظر إلى نفسي, وأنظر أيضاً إلى علي (صلوات الله عليه) فأكون حريصاً على سلامة نفسي وإن كان ثمن ذلك أن أُلقي بعلي، وبدين علي، وبمنهج علي، وبتوجيهات علي عرض الحائط، هذا يعتبر من أسوء الانحطاط الذي يمر به الإنسان.
هل يمكن أن أرى نفسي، أو أي واحد منا يرى نفسه أغلى من نفس علي (صلوات الله عليه)؟؟. هل يمكن لأحدٍ منا أن يرى نفسه، أن يرى دمه أغلى من دم علي (صلوات الله عليه)؟. لا يمكن لأحدٍ أن يقول لنفسه هكذا وإن كان واقع الكثير منا هكذا.
فعلي (صلوات الله عليه) عندما وجدناه كان يستقبل ذلك الحدث الذي يتوقعه: أن يخضب دم رأسه لحيته ويسقط شهيداً, لم يكن منزعجاً من ذلك، كان الذي يزعجه هو ما يرى الأمة فيه وهي تسير باتجاه ذات الشمال، وهي تبتعد حيناً بعد حين, ومسافات طويلة تبتعد عن كتاب الله, وعن منهج رسوله (صلوات الله عليه وعلى آله).
كان يتألم عندما يرى أن تلك الجهود التي بذلها الرسول (صلوات الله عليه وعلى آله) وبذلها هو تحت لوائه, في مكة, وفي المدينة, في معارك الإسلام, كلها ضاعت هباء، وصارت هباء منثوراً تحت أقدام، وعلى أيدي من لم يكونوا يجرؤون في يوم من الأيام أن ينزلوا إلى ساحات الوغى لمواجهة أعداء الله.