نص المحاضرة الرمضانية السادسة للسيد عبدالملك بدرالدين الحوثي 06 رمضان 1442هـ
أَعُـوْذُ بِاللهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيْمِ
بِـسْـــمِ اللهِ الرَّحْـمَـنِ الرَّحِـيْـمِ
الحمدُ لله رَبِّ العالمين، وأَشهَـدُ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ الملكُ الحقُّ المُبين، وأشهَدُ أنَّ سيدَنا مُحَمَّــداً عبدُهُ ورَسُــوْلُه خاتمُ النبيين.
اللّهم صَلِّ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، وبارِكْ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، كما صَلَّيْتَ وبارَكْتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ إنك حميدٌ مجيدٌ، وارضَ اللهم برضاك عن أصحابه الأخيار المنتجبين، وعن سائر عبادك الصالحين.
اللهم اهدنا، وتقبَّل منا، إنك أنت السميع العليم، وتب علينا، إنك أنت التواب الرحيم.
أيُّها الإخوة والأخوات: السَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛
تحدثنا في المحاضرة بالأمس على ضوء الآيات المباركة من أول سورة الرحمن، واستعرضنا ما ذكر الله فيها “سبحانه وتعالى” من نعمه العظيمة علينا، التي أسبغها علينا برحمته، وبفضله وجوده وكرمه، نعمٌ متنوعة وعظيمة، والنماذج التي وردت فيما قرأناه بالأمس هي نماذج عامة؛ أمَّا على المستوى التفصيلي: فنعم الله “سبحانه وتعالى” لا تحصى، {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا}[إبراهيم: من الآية34].
لاحظنا- فيما استعرضناه بالأمس- أنَّ أول نعمةٍ ذكرها الله “سبحانه وتعالى” لنا، وذكَّرنا بها، هي قوله “جلَّ شأنه”: {عَلَّمَ الْقُرْآنَ}[الرحمن: الآية2]؛ باعتبار نعمة الهداية هي المفتاح لكل النعم، وهي التي من خلالها يمكن للإنسان أن يستفيد من كل النعم في هذه الدنيا، وأيضاً أن يحظى بالنعم العظيمة في الحياة الأخرى، في الحياة الثانية، التي هي آتية، استقرار حياة الإنسان، وصلاح حياته، متوقفٌ على التفاعل مع هذه النعمة: نعمة الهداية.
ومرَّ بنا الحديث عن بقية النعم التي وردت في تلك الآيات المباركة:
نعمة الخلق، نعمة خلقك كإنسان، وما في ذلك من النعم الواسعة جداً، كلما تأمل الإنسان فيها تفصيلياً، يتجلى له كم فيها من النعم العظيمة والكبيرة، وذات الأهمية الكبيرة له في حياته:
نعمة تعليم البيان، وما يترتب عليها.
نعمة السماء والأرض.
نعمة العدل.
نعمة التعليم.
النعم المعنوية والنعم المادية.
نعمة العلامات والأوقات، التي نضبط بها علاقتنا مع الزمن، واستفادتنا من الزمن، نعمة علامات الشهور والسنين، وكذلك حتى علامات الاتجاهات، الله جعل لنا في السماء حتى علامات للاتجاهات، وهكذا.
نعم عظيمة: نعمة العدل، نعمة الأرض، وما هيَّأ الله فيها، وما هيأها عليه من الاستقرار لصالح هذا الإنسان، وهكذا نعمة الفواكه، نعمة الحبوب، النعم التي أنعم الله بها أيضاً علينا فيما يتوفر لحيواناتنا، التي نستفيد منها في هذه الحياة، وأيضاً نعمة الريحان، أشجار الزينة، والأشجار ذات الرائحة الزكية، الرائحة الطيبة.
ونلحظ في كل هذه النعم: أنها مظاهر نعم، ومظاهر جمال، كلٌّ منها حتى عندما نأتي إلى نعمة الفواكه، والأشجار، والريحان، الأشجار الكثيرة التي هي ذات منظر بهيج، وخلَّاب، ومبهج، يستمتع الإنسان بالنظر إليه، عندما يشاهد الإنسان مشاهد من هذه الأشجار المتنوعة المثمرة، وأشجار الزينة والورود والأزهار، كم يبتهج، كم يشعر بالارتياح والسعادة.
هذه النعم العظيمة جداً نعمٌ مرئيةٌ، مشاهدةٌ، كبيرةٌ، عظيمةٌ، لا يمكن للإنسان أن يجحدها، أو يكذِّب بها، أن يقول: [لا يوجد شيءٌ من هذه]، ونعمٌ أكبر منا، أعظم منا، الإنسان كائن بسيط صغير خلق الله له كل هذه النعم، وأسبغ عليه بهذه النعم.
الأثر الطبيعي للنعم عندما نستذكرها، وعندما حتى نستذكرها في مقامات التذكر والتأمل على نحوٍ أوسع وأفضل وأكثر وأعمق، الأثر الطبيعي هو: الانشداد إلى الله “سبحانه وتعالى”، المحبة لله “جلَّ شأنه”، الذي هو ولي كل هذه النعم، والتي هي برحمته وفضله وكرمه، وأن نتوجه بالشكر له على هذه النعم، وألَّا نقابل إنعامه علينا بالإساءة إليه، أو باستخدامها فيما هو معصيةٌ له، هذا هو الأثر الطبيعي؛ وبالتالي أن نستجيب له، وأن نسير على هداه، وأن تكون استجابتنا له على المستوى العملي ونحن نتحرك فيما يرضيه عنا، ونسعى لما يرضيه، أن تكون استجابةً برغبة، بمحبة، بتفاعلٍ إيجابي؛ لأن نعمه عظيمةٌ جداً علينا، ونحن إنما نتقلب فيها، إنما نتحرك فيها، هذا هو الأثر الطبيعي، الأثر السليم، الأثر الصحيح، والذي يغيب عنا، وعن مشاعرنا ووجداننا، وعن أعمالنا واهتماماتنا إلى حدٍ كبير، بسبب غفلتنا عن التذكر كما ينبغي لهذه النعم العظيمة، والتأمل فيها، وإلَّا فالنتيجة هي هذا التوجه بكل رغبة، بكل محبة فيما يرضي الله “سبحانه وتعالى” عنا.
الحالة السلبية والخطيرة جداً على الإنسان تجاه هذه النعم مع غفلته عن الله “سبحانه وتعالى”، وعن عظيم هذه النعم التي أسبغها عليه: هي حالة التكبر، حالة التكبر، عندما لا يكون للنعم أي تقديرٍ لديك، وكأنه ليس لله أي فضلٍ عليك، وكأنك أنت شخصياً الجدير بهذه النعم، وأن نعطاها بدون فضلٍ ولا منَّة، هذه حالة خطيرة جداً، وهذه النعم التي وردت هي نماذج عامة، وإلَّا فموقف الإنسان حتى تجاه بقية النعم المعنوية والمادية.
نعمة أن يهيئ الله لك في هذه الدنيا جاهاً، أو دوراً، أو موقعاً محترماً، أو أن يكون لك دورٌ عمليٌ مهمٌ وبارز، النعم الأخرى: أن تكون صاحب ثروة، وصاحب إمكانيات مادية… وهكذا بقية النعم، أن تكون صاحب علمٍ وذكاءٍ وفهمٍ، وتمتلك في القدرة البيانية والإعلامية أكثر من الكثير من الناس، الكثير من الناس يغتر ويتكبر؛ لأن البديل عن استذكار النعمة، واستشعار فضل الله عليك: هو أن تغتر بما وهبك الله من النعم، وأن تتكبر بها، وأن تكبر نفسك وتعظم نفسك بدلاً من أن تكبر فيك المحبة لله “سبحانه وتعالى”، وهذا ما يحصل للكثير من الناس تجاه ما يعطيهم الله من النعم، وما يهبهم من نعمه، فبدلاً من أن يستشعروا عظيم فضل الله عليهم، وأن ينشدوا إليه “سبحانه وتعالى” ويحبوه، فالنتيجة الأخرى والبديل الآخر: هو أن تعظم أنفسهم، وأن تكبر أنفسهم لديهم، وكأنَّ ما أعطاهم الله هو جدارة شخصية لديهم، وليس هبةً من الله، وفضلاً من الله عليهم يقترن به مسؤولية عليهم، كأنه مجرد جدارة شخصية، هذه الحالة تؤثِّر على نفسية الإنسان إلى حدٍ كبير، تؤثِّر عليه في:
أولاً: تبعده عن الشكر، تبعده عن الشكر.
ثم هي تؤثر عليه في مقام الاستجابة العملية لله “سبحانه وتعالى”، فهو لا يستشعر نعمة الله عليه، فلا يتوجه عملياً بالشكر لله، والالتزام بتوجيهاته، والسير على هديه، والانطلاقة العملية الجادة بكل رغبة؛ إنما يتحرك وكأنه صاحب جدارة شخصية بكل ما وهبه الله، متكبراً، مغتراً، وحركته فيما يتعلق بالاستجابة العملية إنما تنطلق بدوافع ذاتية شخصية ناشئة عن حالة الغرور، وليس بدافع المسؤولية، وليس بدافع المسؤولية، ولا بدافع المحبة لله “سبحانه وتعالى”، فتراه منفصلاً عن هذا الارتباط الإيماني، والصلة الإيمانية بالله “سبحانه وتعالى”، وترى ذلك يؤثر على أدائه العملي؛ لأن أداءه العملي بات محكوماً وخاضعاً ومتأثراً بمقاصده الشخصية، واعتباراته الشخصية، وأهدافه الشخصية، ومكاسبه الشخصية؛ وبالتالي إذا تعارض أي شيءٍ مع تلك المقاصد الشخصية، والأهواء الشخصية، والأهداف الشخصية، فهو قد يتخلى عن أي مسؤولية، أو قد لا ينطلق في أي عملٍ أو موقفٍ معين مهما كان مهماً، مهما كان مهماً، بات المهم لديه هو مقاصده الشخصية، وحساباته الشخصية، وأهدافه الشخصية، ولذلك هو لا يذوب فيما هو رضا الله، ولا ينطلق انطلاقةً سليمة، انطلاقة المحب لله، الساعي لمرضاة الله “سبحانه وتعالى”، الراغب فيما عند الله، الذي يخجل أمام الله، ويستحي أمام نعمه العظيمة، لا، هو قد تضخَّمت ذاته لديه؛ وبالتالي يتمحور حول ذاته في الواقع العملي.
وقد يأتي هذا حتى في إطار العمل تحت عنوان العمل في سبيل الله، في أي مجال من المجالات، في أي مجال من المجالات، قد ينطلق الإنسان والعنوان عنواناً دينياً، عنواناً مقدَّساً، ولكن لأنه يعيش هذه الحالة من احتساب ما هو فيه بأنه جدارة شخصية، وعظمة ذاتية، وقيمة خاصة، وأنه ليس هبةً من الله العظيم، ونعمةً تقترن بها مسؤولية، فهو ينشد إلى نفسه أكثر مما ينشد إلى الله، وبدلاً أن يعظم الله في نفسه، تعظم نفسه عند نفسه وتتضخم، تتضخم، وهذه حالة خطيرة جداً، ولهذا أتى بعد التذكير بتلك النعم قوله “سبحانه وتعالى”: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ (14) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ (15) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}[الرحمن: 14-16]؛ ليذكِّر الإنسان وليذكِّر الجان أيضاً بحقيقة أصله، هذا مما يفيد كمعالجة تربوية: أن تتذكر أصلك، أصلك المادي وقيمتك المادية لا تساوي شيئاً، وعندما وهبك الله هذه النعم، فهي برحمته وفضله، لا تنظر وكأنه ليس لله فضلٌ عليك.
استشعار الإنسان لأصله، واستشعار الإنسان لنقاط ضعفه، يجعله يخجل أمام الله، يجعله يستشعر التكريم الإلهي، يجعله يستشعر عظيم فضل الله عليه، ويدرك أنَّ الفضل لله، وأنَّ المنَّة لله، وأنَّ عليه أن يتوجه إلى الله بالشكر، وأنه في أصله هو محل العجز، محل الضعف، محل الإفلاس والعدم، إنما الله من وهبه كل شيء، وأنعم عليه بكل شيءٍ، فالفضل لله عليه، لا يتنكر لنعمة الله، لا يتجاهل فضل الله عليه، هذه معالجة تربوية مهمة جداً.
ثم يستمر عرض هذه النعم العظيمة: {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}[الرحمن: 17-18]، الله “سبحانه وتعالى” هو رب المشرقين ورب المغربين، والكثير من المفسرين يتحدثون عن أنَّ هذه الآية المباركة هي تتحدث عن حركة الشمس في شروقها في الصيف، وشروقها في الشتاء، واختلاف منازلها في ذلك، وفي غروبها في الصيف، وغروبها في الشتاء، واختلاف منازلها في ذلك، وما يترتب على ذلك من تغير وتنوع الفصول، والفصول هذه وتنوعها من صيفٍ وشتاء…إلخ. لها أهمية كبيرة جداً في حياة الإنسان، وفي واقع الحياة على الأرض، ويأتي نتاجاً لذلك يأتي أيضاً تنوع في المحاصيل الزراعية، تنوع في الفواكه، كذلك تنوع في مواسم الزراعة، ولهذا علاقة بصحة الإنسان فيما يتعلق حتى ببدنه، وفي أشياء كثيرة تفصيلية في واقع حياة الإنسان على هذه الأرض، فالله “سبحانه وتعالى” هو رب المشرقين ورب المغربين، وهو الذي يتولى هذا التدبير بكل ما يترتب عليه، وينتج عنه من نتائج في حياة الإنسان، ومن نعم كبيرة في حياة الإنسان، ونعم متنوعة، ومن تنوع في واقع الأرض في مشارقها ومغاربها وفي مختلف أنحائها، تنوعٌ يأتي بتكاملٍ عجيب في توفير احتياجات هذا الإنسان وعلى نحوٍ واسعٍ جداً من فضل الله الواسع، وتنوع يبنى عليه التكامل في الحركة التجارية ما بين أبناء المجتمع البشري.
{فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}، هذه نعم مؤكَّدة واضحة يعيشها الإنسان في حياته، وهي نعم لم تأت عبثاً، هي نعم تقترن بها مسؤوليات على هذا الإنسان، ومسؤوليات تعود إلى ما فيه خيره هو، إلى ما يصلح حياته هو، إلى ما تستقر به وتنتظم به حياته هو؛ إنما كيفية التعامل مع هذه النعم، والحركة في هذه النعم ضمن الدور الذي أراده الله لك كإنسان، واستخلفك في الأرض على أساسه، هو الذي يعود عليك أنت بالنفع.
{مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (19) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ}[الرحمن: 19-20]، البحار تغطي مساحة واسعة على كوكب الأرض، ويقدِّرها البعض بثلثي مساحة الأرض مغطاة بالبحار، والبحار لها دور كبير في حياة الإنسان، وهي من مظاهر النعم الكبرى على الإنسان، ومن مظاهر التسخير العجيب لهذا الكون، ولهذه الأرض، وما على هذه الأرض لصالح الإنسان، البحار بحجمها الهائل، بعمقها الواسع، وبحركتها العجيبة واضطرابها وتموجها، يصعب على الإنسان أن يضبطها، وأن يسيطر عليها، وأن يستغلها، لكن الذي سخَّرها له هو الله “سبحانه وتعالى”.
والنعم في البحار هي نعم كثيرة جداً، عندما نتأمل ما أودع الله في البحر من النعم، أولاً الثروة الغذائية ثروة كبيرة جداً، الأسماك والأحياء البحرية التي يستفيد الإنسان منها، نعم واسعة وكبيرة في غذائه وفي حركته التجارية والاقتصادية، ويتفرع عنها الكثير من النعم، النعم الأخرى أيضاً فيما يتعلق بالبحار مع نعمة التقاء هذه البحار، مثلما قال هنا: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ}، التقاء البحار شكَّل حلقة وصلٍ للحركة التجارية، والحركة الاقتصادية، وللتنقل بالنسبة للإنسان، وربط ما بين القارات عل الأرض ربطاً عجيباً، وجعل هذه الحركة التجارية الضخمة بين مختلف المناطق على الأرض، والتي هي متباعدة في شرق الأرض وغربها، ربط ما بينها وجعل هذه الحركة ميسَّرة وسهلة، ونجد أن هذا الالتقاء بين البحار فيه آيةٌ عجيبةٌ جداً، تحدث عنها في هذه الآية المباركة، عندما قال: {بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ}، فالبحار تلتقي، يلتقي هذا البحر والبحر الآخر، ونجد هذا بشكلٍ واضح، عندما نلحظ مثلاً كيف يلتقي البحر الأحمر بخليج عدن، ثم خليج عدن يلتقي بالبحر العربي، البحر العربي يلتقي بالمحيط الهندي، هكذا تلتقي، يلتقي البحر الأبيض المتوسط بالمحيط أيضاً، وهكذا تلتقي المحيطات والبحار، والمحيطات هي بحار كبرى، تلتقي فيما بينها، وهذا الالتقاء لا يفقد أياً من البحرين، البحر الذي التقى مع البحر الآخر أياً من خواصه؛ لأن لكل بحر خواص معينة، بيئة معينة، خواص في واقعه وفي داخله خواص معينة، عندما يلتقي البحر مع بحرٍ آخر لا يمتزجان فيغلب بحرٌ منهما على البحر الآخر، إلى درجة أن المحيط- وهو بحر كبير جداً المحيط- عندما يلتقي ببحرٍ أصغر لا يغلبه، فيمتزج به بشكلٍ كامل ويفقده كل خواصه، وهناك حديث يطول عن التيارات البحرية، وعن الخصوصيات للبحار، عادةً ما يأتي الحديث عنها في العلوم المختصة بهذا المجال، وفي الإنتاجات الإعلامية التي تختص بهذا المجال، التقاؤهما وبشكلٍ مباشر الماء مع الماء، بدون أي حاجزٍ ماديٍ صخريٍ مثلاً، أو نحوه، إنما هو حاجزٌ من قدرة الله “سبحانه وتعالى”، الذي عبر عنه في قوله: {بَرْزَخٌ}، في إطار التدبير الإلهي، الذي جعل لكل بحرٍ خواصه، وجعل أيضاً ما يحول دون أن يبغي أحدٌ منهما عند الالتقاء على البحر الآخر، فيمتزج فيه بكله.
ويفقده كل خواصه، هذا يساعد على التنوع، التنوع البحري، فيمتاز بحرٌ معين بخصوصيات معينة، بأحياء بحرية معينة، بأشياء معينة، إنتاجات معينة، نِعَم معينة، ويمتاز البحر الآخر كذلك، وبالتالي يحصل هذا التنوع الواسع جداً، الواسع جداً، والمفيد للإنسان نفسه.
{فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}[الرحمن: الآية21]، والنعم في البحار من أوسع وأكبر وأكثر النعم التي يستفيد منها الإنسان، ويزداد مع الوقت اكتشافه للمزيد منها، واستغلاله للمزيد والمزيد منها.
{يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ}[الرحمن: الآية22]، إلى جانب ما فيها من النعم، التي هي نعم متنوعة وكثيرة، ومنها نعمة الغذاء للإنسان المتوفر في البحار، هناك أيضاً نعم أخرى، حتى نعمة الزينة، اللؤلؤ والمرجان، والأحجار الكريمة، التي يستغلها الإنسان في مجال الزينة، والله خلق أشياء كثيرة في البر والبحر، مما يستخدمها الإنسان كزينة، وهي مظاهر جمال، وتروق للإنسان، ويُعجب بها، نعم الله واسعة جداً على هذا الإنسان.
{فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}[الرحمن: الآية23]، لا يمكن للإنسان أن ينكر هذه النعم، فلماذا لا يشكرها؟ لماذا لا يشكر الله عليها؟
{وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ}[الرحمن: الآية24]، وله “سبحانه وتعالى” السفن، السفن هي تدبير إلهي، وهي نعمةٌ من الله “سبحانه وتعالى” أنعم بها على الإنسان، ويستفيد منها بشكلٍ كبيرٍ جداً في حياته، ولهذا نلحظ أن الإنسان يعتمد بشكلٍ أساسي في حركته التجارية والنقل التجاري ما بين البلدان، ولمسافات شاسعة وبعيدة، على السفن، ومعظم احتياجات الإنسان تنقل في هذا الزمن، وفي مراحل كثيرة من حياة الإنسان، تنقل عبر السفن، حركة النقل التجاري- كما قلنا- تعتمد على السفن، وهذا الدور الكبير جداً للسفن في حركتها، ونقلها لمختلف احتياجات الإنسان وبكميات كبيرة جداً، يعني: أحياناً تصل سفينة واحدة في هذا الزمن وهي محملة مثلاً بالنفط، بالبترول، بالبنزين مثلاً، وفيها ما يكفي أحياناً احتياج شعب كامل لمدة شهرٍ كامل، أو وهي محملة بمئات الآلاف من أطنان القمح، وفيها ما يغذي شعباً يكون تعداده ثلاثين مليوناً، أو نحواً من ذلك، لشهر كامل، مئات آلاف الأطنان من القمح، سفينة واحدة، هذا ييسر الحركة، يعني: لو لاحظنا مثل هذه الحمولة كم كانت ستحتاج في نقلها براً من وسائل نقل، مثلاً: قاطرات، أو ناقلات، كم كانت ستحتاج؟ وكم كانت ستحتاج من الوقت؟ بينما هي عبرت من خلال الحركة البحرية، قد يكون عبرت من قارة بعيدة إلى قارة أخرى، مسافة شاسعة وبعيدة جداً، ولكن لأنها أتت عبر البحر وعبر هذا الاتصال البحري، أمكن لها أن تصل في وقتٍ مبكر، أقرب مما كانت ستحتاج إليه من خلال الحركة عبر البر، ثم إن النقل الجوي لا يمكن أن يفي بهذا الاحتياج الكبير، النقل الجوي له مستوى معين في إمكانية حجم هذه الحمولة التي تنقل، ولكن هذه الحمولات الكبيرة جداً، التي تصل إلى مئات الآلاف من الأطنان، تحمل عبر السفن.
من الذي أنعم على الإنسان بهذه السفن، بالوسائل التي تصنع منها، وهداه إلى صناعتها؟ من الذي جعل لدى البحر قابلية لأن يحمل هذه السفن، وأن تجري عليه، فتكون جاريةً عليه، تشاهد الناقلات وهي تمشي على الأرض، وتلك تجري على البحر، على الماء تجري؟ إنه الله “سبحانه وتعالى” الذي هيأ كل هذه النعمة، فسخر البحر من جهة، وسخر هذه السفن من جهةٍ أخرى، فهي تؤدي هذا الدور الكبير في حياة البشر.
{فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}[الرحمن: الآية25]، هي نعم عظيمة، كيف لا تشكروا الله عليها؟! كيف لا تستشعروا مسؤوليتكم في العمل تجاه هذه النعم، وفق هدي الله “سبحانه وتعالى”، وعلى أساس العدل، البديل عن ذلك ما هو؟ الطغيان، الإنسان يطغى، إذا لم يشكر الله “سبحانه وتعالى” فهو يطغى، طغيانه يؤثر على حياته كمجتمع بشري، يفقده الاستقرار، ينتج عنه الكثير من المشاكل، يؤثر سلباً على واقع الحياة، وطغيانه يجعله يتصرف مع هذه النعم بطريقة تخرِّب حياته من جهة، وتخرب عليه هذه النعم، وتفسد عليه هذه النعم من جهة أخرى، الطغيان هو البديل عن الشكر.
{كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ}[الرحمن: 26-27]، ثم إن كل هذه النعم، وكل من على الأرض سيفنى، كل هذا سيفنى، هذه النعم ستفنى، وكل من على الأرض سيفنى، والبقاء لله “سبحانه وتعالى” وحدة هو الذي يبقى، {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ} الذي خلق ويخلق كل شيءٍ على أجل صورة، وأكرم وأتم نعمة {وَالْإِكْرَامِ}.
{فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}[الرحمن: الآية28]، يشبه موقع هذه الآية {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ}، بعد هذا العرض لهذه النعم، يشبه موقع الآية السابقة في قولة تعالى: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ}، الإنسان بحاجة حتى يدرك قيمة هذه النعم، وأن تشده إلى الله، أن ينشد من خلالها إلى الله، إلى ربه الرحمن المنعم الكريم، بحاجة إلى أن يتذكر أصله، وبحاجة إلى أن يتذكر الفناء، أنه سيفنى هو، ومرجعه إلى الله “سبحانه وتعالى”، وأن كل هذه النعم أيضاً ستفنى؛ لأنها حياة هي الحياة الأولى، وميدان حياته فيها، ميدان مسؤوليته فيها، يتصل بكيفية التعامل معها من منطلق الشكر لله “سبحانه وتعالى”، والعمل فيها بما يرضيه “جلَّ شأنه”، بما لا يسيء إليه “سبحانه وتعالى”.
تذكر الإنسان بأن هذه النعم ستفنى، وأنه سيفنى أمرٌ مهمٌ؛ حتى لا ينشد إليها هي بدلاً من الانشداد إلى الله “سبحانه وتعالى”، وحتى لا ينسى أن هناك حياةً أخرى، أن هذه هي الحياة الأولى فحسب، وسيأتي أيضاً الحياة الأخرى الأبدية والدائمة، والتي لها علاقة بهذه الحياة، ليبقى لديه اهتمام بأن هناك حياتين، حياتين، وليست حياة واحدة، فلا يتجه كل اهتمامه إلى هذه الحياة فحسب، وينشد إلى مظاهرها فحسب، وينسى الحياة الأخرى؛ لأنه بحاجة إلى أن يستذكر الحياة الأخرى، والتي هي حياة أبدية، وخيرها خالص، وشرها خالص، هذا يساعده على أن يستقيم هنا، حتى التذكر للفناء يساعده، الفناء الذي سيأتي بعده تلك الحياة، هذا يساعده على أن يستقيم في حياته هنا، وحتى لا يطغى، حتى لا يطغى في تعامله مع هذه النعم، فهذا التذكير نعمة علينا، وهو تذكيرٌ مهم، والفناء فيه نعم لا يتسع الوقت للحديث عنها، لكن هذا من أهم ما يحتاج الإنسان إلى أن يتذكره، عندما يستشعر أن هذه النعم ستفنى، وأنه سيفنى، عليه أن يستقيم في هذه الحياة؛ لأن بعد ذلك الفناء ستأتي الحياة الأبدية، ويأتي الجزاء.
{فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}، ثم مع كل هذه النعم العظيمة، التي أسبغها الله علينا، ونعم كبيرة جداً، نعم كبيرة، البحار، نعم كبيرة جداً، الزينة، كل هذه النعم الماضية، من نعمة الهدى والقرآن، ونعمة العدل والتعليم، إلى النعم المادية المتنوعة الواسعة جداً.
فالله “سبحانه وتعالى” مع كل هذه النعم يقول: {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ}[الرحمن: الآية29]، بعد كل هذه النعم، وبعد كل هذا التجهيز لهذه الأرض، بما فيها من متطلبات الإنسان، واحتياجاته الواسعة، والتي وفر له فيها كل هذه النعم الواسعة والعظيمة، فهو “سبحانه وتعالى” يعرض علينا المزيد والمزيد من فضله، بعد كل هذه النعم، وكل هذا التجهيز لها على الأرض، لمصلحتك أنت كإنسان، هو يعرض عليك أنه لا يزال أيضاً جاهزاً لإعطائك المزيد، وجاهزاً إذا طرأ لك أي طارئ أن تدعوه فيستجيب لك، هذا تكريم كبير للإنسان، تكريمٌ كبيرٌ للإنسان، بعد كل هذه النعم العجيبة جداً، والعظيمة جداً، والواسعة جداً، هو لا يغلق عليك بابه أبداً، بابه مفتوحٌ لك، أي وقت تريده، تسأله، تتوجه إليه بالدعاء، وتسأله المزيد من فضله، وإذا طرأ عليك أي طارئ تسأله، وهو جاهزٌ ليستجيب لك، هذا تكريم عظيم، تكريم عظيم من الله “سبحانه وتعالى”، يخجل الإنسان أمام الله، ويستحي من الله أن يكون رحيماً به إلى هذه الدرجة، ومنعماً عليه إلى هذه الدرجة، وأنت تذكَّر ما هو أصلك، تذكَّر تكريم الله لك، وهو يعرض بهذا نعمه، والمزيد من كرمه، وأن بابه لن يغلق عليك أبداً؛ إنما يريد منك أن تستجيب له، واستجابتك له فيما هو لك أنت؛ أما هو فهو غنيٌ عنك، فيما يفيدك أنت، فإذا استجبت له، فهو سيستجيب لك، هو يستجيب لك، وعندما تسأله شيئاً، هو يعطيك ما هو أفضل وأنفع وأصلح لك؛ لأنه الذي يعلم بمصلحتك وما فيه الخير لك.
{يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ}، هو لا يقول: قد أنعمت عليكم بهذه النعم التي لا تحصى، هذا يكفي، وأنتم لا تستحقون شيئاً، ولا أقدم لكم أي شيءٍ إضافي، يكفيكم ما قد جهزته لكم على الأرض، قد أصبحت نعم كافيه، وخلاص لا عاد أسمع ولا كلمة، أيش عاد تشتوا بعد كل هذا؟ لا، هو “جلَّ شأنه” الحي القيوم، وهو الجواد البر الرحيم الكريم، فضله مستمر، عطاؤه مستمر، رحمته واسعة ومستمرة، وفي كل يومٍ وعطاؤه مستمرٌ لعباده، ينزل إليهم فضله، وتأتي إليهم نعمه الواسعة التي لا تحصى.
{كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}، إن لم تشكروا هذه النعم الواسعة، إن لم تقدروا هذه النعم العظيمة، فأنتم في حالةٍ خطيرة؛ لأنه يرتبط بها مصيركم، مصيركم ومستقبلكم في الحياة الآخرة مرتبطٌ بشكركم لهذه النعم، إن لم تشكروا هذه النعم، فستخسروا نعمه العظيمة في الآخرة، وسيكون لكفركم بهذه النعم، وتكذيبكم لهذه النعم، وعدم تقديركم لهذه النعم، وتعاملكم معها بالطغيان، العواقب السيئة، عليكم أنتم في مستقبلكم أيضاً في الآخرة، وفيما يؤثر عليكم في الدنيا.
نكتفي بهذا المقدار.
ونسأل الله “سبحانه وتعالى” أن يوفِّقنا وإيَّاكم لما يرضيه عنا، وأن يتقبل منا ومنكم الصيام، والقيام، وصالح الأعمال، وأن يرحم شهداءنا الأبرار، وأن يشفي جرحانا، وأن يفرِّج عن أسرانا، وأن ينصرنا بنصره، إنه سميع الدعاء.
والسَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛