العهدُ في فكر الإمام علي عليه السلام
موقع أنصار الله || مقالات ||د. حبيب الرميمة
لا شَكَّ أن فكرةَ أداء اليمين الدستورية -التي تُشترَطُ لتولي بعضِ المناصب العليا- أصبح تقليداً عالميًّا تَنُصُّ عليه معظمُ الدساتير في الوقت الحاضر، وهو يشيرُ إلى زيادةِ الثقةِ بأداء المسؤولية، من خلال إبراز الجانب الروحي؛ لِمَا له من تأثيرٍ والتزامٍ، وذلك بالحَلف بشيء مقدَّس -وهو يختلفُ بحسبِ معتقداتِ الشعوب- وبالنظرِ إلى نشوء هذا التقليد في العصر الحديث، فهو يرجع للرئيس الأمريكي جورج واشنطن الذي بدأ هذا التقليد عندما استخدم كتابه المقدس المورموني في حفل تنصيبه عام 1789، ثم أصبح تقليداً ليس قاصراً على الرؤساء الأمريكيين فقط وإنما على تولي مناصب عليا في السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية -على الرغم أن الدستور الأمريكي لا يتضمن نصاً صريحاً يلزم أداء اليمين-.
وكان هذا التقليدُ مما أثار إعجابَ كَثيرٍ من الدول كخطوة في تعزيز الثقة والشفافية لدى المسؤولين، ونظر إليه الكثيرُ من المبهورين في الثقافة الغربية وفلسفتها المادية من أبناء جلدتنا نظرة رقي وإجلالٍ في تعزيز مبدأ الشفافية، وخطوة محسوبة للثقافة الغربية التي لولاها لَمَا وصلنا إلى هذا التقليد “المتطور” في استشعار المسؤولية -حسب زعمهم- إلا أنَّه بالنظر إلى ثقافة الحضارة الإسلامية وفلسفتها نجدُ أن هذا التقليدَ (العهد أَو القَسَم) هو أعمقُ من مُجَـرّد أداء قَسَمٍ لا يتجاوز بضعة أسطر، نجد ذلك واضحًا في فكر الإمام علي -عليه السلام-، بالوثيقة الشهيرة (العهد) التي عهد بها لمالك الأشتر -رضي الله عنه- عندما عينه والياً على مصر، فلم يكتفِ بمُجَـرّد القسم، وإنما عَهِدَ إليه بمجموعةٍ من القواعد الأَسَاسية التي تتضمن موجهاتٍ عامةً في طريقة الإدارة وتحمل المسؤولية، وهي قواعدُ -بالإضافة إلى ما تتضمَّنُه من استشعار للجانب الروحي في تحمل المسؤولية- تتضمَّنُ قواعدَ عمليةً فيما يعرف الآن بمبدأ المواطنة (مجموعة الحقوق والواجبات التي تنظم العلاقة بين الحاكم والمحكوم)، منها وهي قواعد لا تقتصر على جانب معين وإنما تتضمن قواعد في مجالات مختلفة اقتصادية، واجتماعية، وسياسية؛ ونظراً لما تجسده هذه الوثيقة (العهد) من ضمان للحقوق الأَسَاسية العالمية للأفراد داخل أي مجتمع، استرعى ذلك أن تقتبس بعض التقارير الدولية في الأمم المتحدة أجزاء منه، -بل تشير بعض الكتابات أن هذه الوثيقة اعتمدتها الأمم المتحدة كأحد مصادر القانون الدولي العام- (وسواء صح هذا الخبر أَو لم يصح) فَـإنَّ مَن يقرأ هذا العهد لا يجدُ مَناصاً من التسليم بأنه يشكل فخراً واعتزازاً للحضارة الإسلامية برمتها، ومصدر إلهام للعدالة الإنسانية العالمية، فالأمم المتحدة لن تضفيَ جديدًا لهذا الإنسان الكامل.
لذلك نرى أنه من المفترَضِ أن تُشْكِّلَ هذه الوثيقة العالمية (العهد) أولى فلسفة الإدارة الإسلامية في تحمُّلِ المسؤولية من خلال إقامة دورة ثقافية قبل تولي المنصب لفهم ما ورد بهذا العهد، وشروحاته من أقوال أعلام الهدى، ثم يأتي دور اليمين كتقليد متمماً له، وهذا الإجراء بنظرنا يرتبط بأولى مراحل مكافحة الفساد، وإبراء الذمة، ذلك أن اليمين الذي يؤدى كتقليد (بروتوكول) ليس له تأثيرٌ رادعٌ إن لم يصحبه موجهات عملية نابعة من ثقافة الحضارة الإسلامية الأصيلة.