القرآن يرسم المسارات للتفريق بين الحق من الباطل

من عظمة القرآن الكريم أنه يرسم ويحدد التوجهات، والمواصفات العامة، وبطريقة تهيئ حتى للإنسان العامي أن يفرق بين التوجه الصحيح والتوجه الخاطئ، بين الموقف الحق والموقف الباطل.

لاحظوا، على سبيل المثال في سورة المائدة، صفحة كاملة في سورة المائدة، تحدث فيها القرآن الكريم حديثاً عجيباً، عندما تقرأ هذه الصفحة، وكأنها نزلت في هذا الزمن، مع أنها نزلت على نبي الله محمد “صلوات الله عليه وعلى آله” في ذلك الزمن، ولكن هكذا هو القرآن، عطاؤه مستمر، لا ينضب معينه أبداً، (بحرٌ لا يدرك قعره)، كما قال الإمام عليٌ “عليه السلام”، في هذه الصفحة حذر الله من التولي لليهود والنصارى، وحذر من؟ حذر المؤمنين، الذين آمنوا، حذر الذين ينتسبون لهذا الإسلام، وأنهم قد يقعون في هذه المصيبة الكبيرة، في هذا الانحراف الخطير جدًّا، وأتى بمواصفات للمنحرفين، وعناوين تعبر عنهم، ثم أتى ليحدد المسار الصحيح عندما تقع الأمة في مشكلةٍ كهذه، قال “جلَّ شأنه”: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}[المائدة: الآية54]،.

في هذه الآية المباركة عندما يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ}، هي في نفس السياق الذي تحدث فيه عن الولاء لليهود والنصارى؛ لأن حالة الولاء لليهود والنصارى هي على حساب الدين، على حساب مبادئ ذات أهمية كبيرة من الدين، على حساب مواقف ذات أهمية كبيرة في الدين، على حساب توجهات ذات أهمية كبيرة في الدين، شرائع، فرائض، التزامات دينية، والسياق هنا ليس بالضرورة يتحدث عن الارتداد عن الملة، والخروج من الإسلام كلياً، هي الحالة التي يتجه فيها من يتورطون في ذلك، من يتجهون- في مقابل ألَّا يكون لهم مشكلة أمام خطر اليهود والنصارى- يتجهون إلى المقايضة بالدين، يتركون أشياء، يسكتون عن أشياء، يجمدون أشياء، يشطبون أشياء، وهذا في سياق ماذا؟ في سياق الاسترضاء، لئلا يحسب لهم موقف مناوئ للخطر الذي يأتي من جانب اليهود والنصارى، يعني: يحاولون أن يوصلوا رسالة أن لهم توجهاً آخر، وأن اتجاههم اتجاه مختلف، ليسوا ممن يتبنون موقفاً آخر، والارتداد عن الدين هنا، هو ارتداد عن مبادئ من الدين، عن قيم من الدين، عن مسؤوليات في هذا الدين، عن التزامات عملية في هذا الدين، وهي تأتي في هذا السياق؛ لاسترضاء أعداء الأمة، أعداء الإسلام والمسلمين.

ولذلك كيف قابل حالة الارتداد؟ لو كان السياق في سياق الحديث عن الخروج من الملة، مع أن البعض يصلون إلى الخروج من الملة، لكن هذا السياق واضح ماذا يقصد، أتى ليقابل ما بين حالة الارتداد وما بين اتجاهٍ رسمه وحدده، هو الاتجاه الذي يقي من الارتداد، قال: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ}، {وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ}.

لاحظوا، عندما يقول: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ}، ثم يأتي لهم بهذه المواصفات، لو كانت المسألة فقط في إطار الحديث عن الخروج من الملة، وارتداد من يرتدون عن ملة الإسلام كلياً، لقال “جلَّ شأنه”: [من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقومٍ يسلمون]، واحتلت المسألة، ليقابل حالة الخروج من الملة بناس مسلمين، يسلمون، لكنه أتى بمواصفات؛ ليحدد منهجاً ثابتاً، وطريقاً واضحاً بيناً، وبمواصفات واضحة، يمكن للكل أن يتبين له الناس، وأن يقيم من خلالها.

نحن في هذا الزمن تعاني أمتنا من الوقوع في حالة الولاء لأعدائها من اليهود والنصارى، مشكلة حقيقية، مشكلة كبيرة في هذا العصر، في هذا الزمن، بشكل واضح، وأوضح من أي زمنٍ مضى، يستطيع حتى العامي أن ينظر في الساحة من الذين يتجهون هذا الاتجاه، اتجاه: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ}، سيجد البعض ممن أصواتهم مرتفعة، ممن مواقفهم مشدودة وقوية وقاسية، فقط تجاه المؤمنين؛ أما تجاه الكافرين لا صوت لهم، لا موقف لهم، لا تحرك لهم، بل يعتبرون ذلك ليس ضرورياً نهائياً، يشطبون ذلك من اهتماماتهم: التثقيفية، والتعليمية، والخطابية، والـ… كل أنشطتهم، يشطبون منها موضوع العزة على الكافرين، لا تتجسد عزتهم على الكافرين، لا في مواقف، لا في عبارات، لا في تحرك عملي جاد، ولا في أي شيء، وفقط تتجه مواقفهم السلبية، السيئة، القاسية، إساءاتهم، نبرات أصواتهم المرتفعة، على المؤمنين، على الساحة الداخلية، على من يتحرك- بالتحديد- ليتجه هذا الاتجاه القرآني، وضمن هذا الموقف القرآني، وفي هذا الطريق الذي رسمه القرآن الكريم.

 

هنا تتحدد المعالم الواضحة في القرآن، عندما يقول: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ}، وهذا الزمن من أكثر ما فيه اللوم، بمجرد أن تتجه هذا الاتجاه القرآني، كم سيتوجه إليك من اللوم، من مختلف اللائمين:

من يلومك ويقدم نفسه متديناً، قد يلومك من على منبر المسجد، قد يلومك بمحاضرات تحت عناوين دينية، بكلمات ذات عناوين دينية، بنشاط تعليمي وتثقيفي باسم الدين، وهو يلومك، يلومك، ومشكلتك معه هي هذه: أنك تتجه هذا الاتجاه، لو لم تتجه هذا الاتجاه، لربما سكت عنك، وما كان له مشكلة معك، هو لا يلوم الساكتين، لا يلوم القاعدين، لا يلوم المتخاذلين، لا يلوم الموالين لليهود والنصارى، لأمريكا وإسرائيل، لا يلوم أي أحد له موقف متخاذل، متنصل عن المسؤولية، يلوم من يتجه هذا الاتجاه.

البعض قد يلومك في الإطار السياسي، والعناوين السياسية، والعناوين المختلفة.

أساليب كثيرة للوم، عناوين كثيرة للوم، جهات كثيرة للوم، أصوات كثيرة للوم، عناوين وخلفيات متنوعة للوم، إذاً من يتجهون هذا الاتجاه القرآني، يجب أن يكونوا على هذا المستوى: {وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ}.

هنا تجد عندما يقول الله عن القرآن: {هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ}[البقرة: من الآية185]، أنه نور، يستطيع الإنسان أن يفرق- على مستوى التوجهات، على مستوى المواقف، على مستوى الأعمال- بين الاتجاه الصحيح المنسجم مع القرآن، والاتجاه الآخر المنحرف عن القرآن.

لذلك يجب أن نركز في شهر رمضان على الإقبال بشكلٍ كبير على القرآن الكريم، وأن يكون هناك نشاط واسع في الساحة، كل الذين يمتلكون القدرة التعليمية والتثقيفية، من مثقفين، من علماء، من خطباء، يجب أن يكثفوا جهودهم في هذا الشهر المبارك، وعلى أساس القرآن الكريم، وربط الأمة بالقرآن الكريم، والسعي لهداية الأمة بالقرآن الكريم، وأن يتناولوا واقع حياة هذه الأمة، ما تواجهه من تحديات وأخطار ومشاكل، فينيروا لها الدرب من خلال القرآن الكريم.

 

السيد عبد الملك بدر الدين الحوثي

محاضرة للسيد بمناسبة قدوم شهر رمضان 1442 هـ

قد يعجبك ايضا