التحذير مما حل بالأمم ووجوب التوبة قبل الندم
نبدأ ببعض الآيات المباركة التي تحذر من الذنوب والمعاصي، يقول الله -سبحانه وتعالى-: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ}، مجتمعات كثيرة عتت وتعنتت وتجاوزت حدود الله وتعليماته، ولم تبالِ بها، ورمت بها عرض الحائط، وتجاهلتها، وتنكرت لها، ولم تعطها أي قيمة، واتجهت بناءً على أهواء أنفسها، وأهواء ذوي النفوذ والتأثير فيها، فماذا كانت النتيجة؟ {فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا}[الطلاق: الآية 8]، فحاسبها الله وعاقبها، والحساب هذا يأتي جزءٌ كبيرٌ منه في هذه الحياة، وهذا العذاب النُكُر يأتي في هذه الحياة، ونجد في القرآن الكريم ما حل بكثيرٍ من الأمم والأقوام، وهي نماذج محدودة عرضها لنا القرآن الكريم، ونجد في زمننا هذا ما تعانيه البشرية من عناء شديد وعذاب شديد على كل المستويات، {فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا}[الطلاق: الآية 9].
يحكي القرآن الكريم في تلك النماذج أنواعاً من العقوبات، حتى أنه حكى لنا عمَّا حلَّ ببعضٍ من بني إسرائيل الذين كانوا يعتدون في السبت، وكانوا يفسقون، فوصل الحال بهم إلى أن مسخ الله أهل تلك المعاصي إلى قردة خاسئين والعياذ بالله، تجد إلى هذا المستوى من العقوبات الإلهية على الأعمال، على المعاصي، على الذنوب، أنها تشكل خطورةً كبيرة على الناس.
فمع ذلك التحذير من النار، والتحذير من العقوبات العاجلة في الدنيا، والتحذير بما حل بالأمم الماضية، والتحذير من العقوبات المتنوعة التي قد تطال الإنسان في نفسه، أو في رزقه، أو في ممتلكاته… تطال المجتمع كمجتمع، نجد الله -سبحانه وتعالى- يدعونا- في نفس الوقت- إلى الإنابة إليه، ويفتح لنا الباب: باب التوبة، باب الرحمة، باب المغفرة؛ لننيب إليه، لنرجع إليه، يقول -جلَّ شأنه- في كتابه الكريم: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ}، يوجه هذا النداء بكل رحمة وبكل رأفة، نداءً رقيقاً جدًّا، نداء رحمة، {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ}؛ لأن الإنسان بالمعاصي هو يسرف على نفسه، يتجاوز الحد، وهو يظلم نفسه، وهو يسبب لنفسه الشقاء في الدنيا، والعذاب في الدنيا، والعذاب العظيم في الآخرة.
وهو ينادي هذا النداء: {لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ}[الزمر: 43-54]، فهو ينادي كل عباده الذين أسرفوا على أنفسهم، وما من إنسان إلا وهو مسرفٌ على نفسه، تتفاوت المستويات في هذا الإسراف، تتفاوت من إنسان إلى آخر، من مجتمع إلى مجتمع، طبيعة ومستوى الالتزام الديني والأخلاقي بتوجيهات الله وتعليماته -سبحانه وتعالى- والإنسان بحاجة إلى أن يغتنم فرصة هذا النداء، الله يفتح باب التوبة، ويدعو إليه، وفي نفس الوقت يعد بالمغفرة على كل الذنوب، ويحذر من اليأس والقنوط من رحمة الله -سبحانه وتعال-؛ لأن اليأس والقنوط قد يدفع البعض إلى الاستمرار في المعاصي والذنوب،
وقد يمثِّل صداً لهم وعائقاً لهم عن الإقبال إلى الله وعن التوبة، يظن أنه لا فائدة من التوبة، وأن الله لن يتوب عليه، ولن يغفر له، والله -سبحانه وتعالى- يحذر من هذا اليأس وهذا القنوط، ويدعو إلى المبادرة والإسراع بالتوبة والإنابة، والله وعد بالمغفرة: {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ}، المطلوب هو الإنابة إلى الله والرجوع الصادق نفسياً، يتخذ الإنسان قراراً بالعودة والإنابة إلى الله -سبحانه وتعالى- وعملياً، {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ}[الزمر: الآية 54]،
قبل العذاب، ما الذي تنتظر؟ لا بدَّ من العذاب على الذنب إن لم تتب، لا يدفع عنك العذاب إلا التوبة؛ أما الإصرار على الذنوب، الإصرار على المعاصي، الذنوب ما كان منها بشكل تعدٍ لحدود الله وارتكاب جرائم، وما كان منها تقصيراً وتفريطاً في الواجبات والطاعات التي أمرنا الله بها وأرشدنا إليها، والمسؤوليات التي حمَّلنا إياها.
كلا هذين الجانبين من الذنوب علينا أن نبادر بالتوبة إلى الله -سبحانه وتعالى- والإنابة إليه قبل العذاب، لا بدَّ من العذاب إن لم يُنِب الإنسان ولم يتب، ولا أحد يمكن أن ينصره، ولا أن يدفع عنه أبداً.
{وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ}[الزمر: الآية 55]، أن يبادر الإنسان قبل أن يأتي العذاب بغتة، في الوقت غير المتوقع، وفي الحال غير المتوقع، والإنسان غافل.
السيد عبدالملك بدر الدين الحوثي
المحاضرة الرمضانية السابعة1441هـ