ضرورة التوازن بين البناء المعرفي والتهذيب النفسي
{يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ}، يتجه- أيضًا– ليس فقط ليقدِّم لهم التوجيهات كمعارف ومعلومات، وتنتهي المسألة عند هذا الحد، أو حتى كمنهج للحياة يلزمون به عمليًا هكذا من دون أن يؤخذ بعين الاعتبار تزكية النفس البشرية، مهما قُدِّم للإنسان من أفكار عظيمة، من توجيهات صالحة، مهما طُلِب منه من أعمال إيجابية، أو مواقف إيجابية، إذا لم يلحظ جانب التزكية للنفس تبقى هذه مشكلة كبيرة جدًّا لدى الإنسان، يمكن أن يعرف الإنسان أشياء مهمة في هذه الحياة ذات قيمة أخلاقية وإنسانية كبيرة، ولها إيجابية في واقع الحياة وأثر طيب في واقع الحياة، فيها خير، فيها مصلحة، ولكن إذا لم تكن نفسه زاكية، وإذا لم يتجه بدافع هذا الزكاء في النفس للأعمال الزاكية، يمكن أن ينحرف، يمكن أن يتعمد التوجه للأعمال السيئة، والأعمال السلبية، والسلوكيات السلبية، وهو يعرف أنها أعمال سيئة، وأنها تصرفات سيئة، ويتعمد فعل ذلك، لماذا؟ لأن عنده خلل في زكاء نفسه.
النفس البشرية خلقها الله -سبحانه وتعالى- وجعل فيها قابلية للزكاء والخير والصلاح، وقابلية للفساد، وللانحطاط، وللظلم والظلام والانحراف، يمكن أن تزكو هذه النفس، ويمكن أن تتدنس هذه النفس، وتفسد هذه النفس، ولذلك يقول الله -سبحانه وتعالى-: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ∗ فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ∗ قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا ∗ وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} [الشمس: 7-10]، فالنفس البشرية قابلة لأن تزكو، لأن تصلح، لأن تطهر، لأن تسمو، لأن تنمو فيها البذور التي فطرت النفس البشرية عليها (بذور الخير)، الإنسان في فطرته يحب الخير، يحب السمو، يحب الشرف، يحب مكارم الأخلاق، يشعر بعظمتها، بقداستها، ينجذب إليها، ولهذا نجد في الساحة البشرية والواقع البشري حتى الأشرار كيف يسعون دائمًا أن يقدِّموا لما هم عليه عناوين إيجابية،
مثلًا: لا يحبِّذون أن يرفعوا عنوان الباطل صراحةً، فيسمون باطلهم بحق، ويقدِّمون أنفسهم أنهم أهل الحق؛ لأن الإنسان في فطرته مفطور على أن يتبع الحق، وأن يعظِّم الحق، وأن يؤمن بأن الشيء الصحيح الذي يفترض أن يتبع في هذه الحياة، وأن يلتزم به هو الحق، ولذلك كل فئات الباطل لا تأتي لتعترف على نفسها بصراحة على أنها جهات باطل، إذا كانت هي حالات نادرة وشاذة لا اعتبار لها ولا حضور لها في الواقع البشري بشكلٍ كبير، ولكن يحاولون، حتى فرعون يقول لقومه: {وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر: من الآية29]، يرفع عنوان الهداية، ويرفع عنوان الرشاد، تجد كذلك عناوين لفسادهم بالإصلاح، يحكي الله عن المنافقين: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} [البقرة: الآية11]، فيسمون فسادهم بالصلاح.
الواقع البشري يعترف بسمو القيم والأخلاق العظيمة، والأشياء السيئة يعترف البشر بسوئها وقبحها، إنما يشتغلون على تبريرات لها، أو فلسفات، أو عناوين، ويتعبون في ذلك، يتعبون في التبرير لها، وفي التفلسف لها.
فالنفس البشرية قابلة للزكاء، لكن إذا لم يكن هناك اهتمام بتزكيتها تفسد، وإذا فسدت انحرف الإنسان وكان عنده اندفاع داخلي للانحراف، اندفاع نفسي نحو الانحراف، وحينئذٍ لا ينفع فيه معرفة الحق، ولا معرفة الخير.
عملية التزكية هذه التي تتجه نحو الإنسان لإصلاح نفسه، ولتنمية مشاعر الخير في نفسه، ولتنمية الاتجاه الإيجابي في نفسه، الاتجاه نحو القيم الفضلى، ونحو مكارم الأخلاق، ونحو الحق، ونحو السمو، ونحو الأعمال الزاكية، الإصلاح للنفس البشرية لإبعادها عن الخبائث من الأعمال والتصرفات والسلوكيات، وإبعادها عن الرذائل، وإبعادها عن المفاسد، والسمو بها حتى تحمل اهتمامات زاكية، واتجاهات زاكية، وميول صالحة، تحب مكارم الأخلاق، تعشق حميد الصفات، تنشد إلى ما فيه خيرٌ وسموٌ وشرف، تترفع عن الرذائل والخسائس والنقائص المسيئة للإنسان في أخلاقه وشرفه وفي حياته، والمضرة بواقع حياته، يحتاج الإنسان إلى جهد.
السيد عبدالملك بدر الدين الحوثي
سلسلة محاضرات المولد النبوي 1440هـ (2)