الحصار.. العقابُ الجماعي المسكوت عنه

مجموعة الأزمات الدولية: الأمم المتحدة لم تعطِ الحرب الاقتصادية أولوية

صحافة|

بموازاةِ الغَاراتِ الإجراميةِ المُستمرَّةِ على المحافظات اليمنية، يستمرُّ الحصارُ الظالِمُ الذي يفرضُه تحالُفُ العدوان الأمريكي الإماراتي السعوديّ على البلد، مضاعفاً معاناةَ الشعب اليمني بصورة متواصلة، وسط تجاهل دولي وأممي تام لهذا العقاب الجماعي الوحشي المُستمرّ، في نفس الوقت الذي يتم فيه الحديث عن “السلام” وكأنّه أمرٌ منفصلٌ تماماً عن الحقوق الإنسانية المشروعة للشعب اليمني.

منذ صعود إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى الحكم، أغلق الطريقَ تماماً أمام سفن المشتقات النفطية المتجهة إلى ميناء الحديدة، ولم يسمحْ إلا لبضع سفن بالوصول وتفريغ حمولتها، وقد تحملت تلك الشحنات القليلة للغاية من الوقود غرامات مالية مهولة نتيجة فترة الاحتجاز الطويلة.

عمدت إدارةُ بايدن إلى استخدام الحصار الاقتصادي كورقة ضغط ومساومة، وهو أمرٌ غيرُ جديد في الموقف الأمريكي تجاه اليمن منذ بدء العدوان، لكن هذه الإدارة بالذات حرصت على أن تجعل هذا الابتزاز “طبيعيًّا” إلى درجة أنها تبنته بصراحة وبشكل معلَن: على صنعاء أن تقبل بما تم عرضُه عليها، أَو ستستمر مشاكلُ المشتقات النفطية والأزمة الإنسانية والاقتصادية بشكل عام، هكذا ظل العديد من المسؤولين الأمريكيين يردّدون بكل وقاحة، وعلى رأسهم المبعوث تيم ليندركينغ.

ومؤخّراً، شدّد تحالف العدوان إجراءات الحصار بشكل أكبر مع بدء التصعيد الجديد الذي تقف على رأسه الإمارات بإيعاز معلَنٍ من الولايات المتحدة، حَيثُ غرقت جميع المحافظات اليمنية في شمال البلد وجنوبه في أزمة وقود خانقة لا زالت مُستمرّةً حتى الآن، في عقاب جماعي إجرامي ضربت تداعياته كُـلّ القطاعات بما في ذلك القطاع الصحي.

مع ذلك، لا زال التجاهل الأممي والدولي للحصار مُستمرًّا بصورة فجة، ولا زالت كُـلّ تصريحات وأحاديث “السلام” الدولية والأممية تتعامل مع هذه الجريمة كمسألة ثانوية، في تماهٍ فاضح مع الموقف الأمريكي الذي ليس له أي مبرّر، وتنكر لكل الحقائق التي وثقتها العديد من التقارير الدولية والتي شهدت بأن التجويع يستخدم كسلاح حرب ضد اليمن.

في تقريرها الجديد بشأن اليمن، تلخّص “مجموعةُ الأزمات الدولية” قصةَ الحصار المفروض على اليمن كالتالي: “عندما شنت المملكة العربية السعوديّة حصاراً بحرياً على الموانئ اليمنية في مارس/آذار 2015، تدافع الدبلوماسيون لضمان استمرار وصول الغذاء والوقود والسلع الأَسَاسية الأُخرى إلى البلاد. وقال السعوديّون: إن الحصار يهدف إلى منع الحوثيين من الحصول على أسلحة إيرانية مهربة على متن سفن الشحن. وحاول المسؤولون الأجانب طمأنة الرياض بأن السماح بالواردات إلى ميناء الحديدة الذي يسيطر عليه الحوثيون لن يسهل مثل هذا التهريب، وعيّنت الأمم المتحدة مسؤولاً مخضرماً للتفاوض على تصميم نظام تفتيش للسفن التجارية المتجهة نحو اليمن، والمعروف باسم آلية الأمم المتحدة للتحقّق والتفتيش، لكن المملكة العربية السعوديّة أنشأت وحدةً في وزارة دفاعها مكلفة بمراقبة التجارة البحرية والمحمولة جوًّا التي تدخل اليمن، تسميها خلية العمليات الإنسانية الطارئة، ومنحتها الإذن لتفتيش السفن واحتجازها، قبالة ساحل البحر الأحمر في السعوديّة، وكَثيراً ما أخّرت القوات البحرية التابعة للتحالف السفن في منطقة الاحتجاز وأخضعتها لعمليات تفتيش اقتحامية حتى لو كانت قد حصلت على تصاريح من البعثة. واتهم رجال أعمال مسؤولين حكوميين بطلب رشاوى مقابل الموافقة على الشحنات”.

هذا ليس رأياً متحيزاً، بل سرد لوقائع يعرفها الجميع وسبق أن أوردتها العديد من المنظمات الدولية ووسائل الإعلام طيلة الفترة الماضية، وهذا السرد يعني بوضوح أنه لا يوجدُ أي مسوغ أَو مبرّر للحصار، بل يؤكّـد أن عمليةَ احتجاز السفن المفتشة والحاصلة على التراخيص، يعتبر تحدياً فجًّا للأمم المتحدة وآليتها، وهو الأمر الذي يجعل التجاهل الأممي والدولي المُستمرّ للحصار بمثابة مشاركة واضحة في تجويع اليمنيين وابتزازهم، وليس جهلا بالحقائق.

وفي هذا السياق، يؤكّـد عضو الفريق الوطني المفاوض عبد الملك العجري أن “مزاعم تهريب السلاح عبر الميناء مبرّر سخيف لإغلاقه، رغبة في التنكيل الشعب اليمني” ويضيف: “السفن تخضع للتفتيش فلماذا يتم منعها إذَا كانت الحجّـة السلاح؟”

لا تمتلكُ قوى العدوان ولا رعاتها أيةَ إجَابَة مقنعة عن هذا السؤال رغم بساطته، ولا يبدو أن الأمم المتحدة والمجتمع الدولي يطالبان بإجابات؛ لأَنَّ معظم المواقف الدولية والأممية تجاه لا تعتبر الحصار جزءًا رئيسيًّا من المشكلة.

يقول تقرير مجموعة الأزمات بشأن ذلك إنه: “بمُجَـرّد التوصل إلى اتّفاق ستوكهولم، ركز مبعوث الأمم المتحدة على استئناف المحادثات السياسية رفيعة المستوى، تاركاً الجوانبَ الأمنية والاقتصادية للاتّفاق لمسؤولين أقل رتبة للتعامل معها. وواصل هو وكبير مستشاريه السياسيين القول بأن الاقتصاد ليس من اختصاص مكتبهما، وأن المنازعات الاقتصادية ستسوى كجزء من اتّفاق سياسي وطني سيأتي في مرحلة لاحقة من عملية الوساطة، وعلى الرغم من أنهم توسّطوا في اتّفاق يتناول مباشرة الصراع الاقتصادي، فَـإنَّ هذا البُعد من الأعمال العدائية كان بوضوح أقل أولوية من وقف إطلاق النار العسكري أَو المحادثات السياسية، على سبيل المثال، حتى لو كان عائقاً أمام التقدم السياسي”.

وبناءً على ذلك يمكن القول: إن الأممَ المتحدة قد أسهمت بشكل مباشر في تهميش ملف الحصار والحرب الاقتصادية، وهو تحَرّك يخدم بشكل واضح قوى العدوان ورعاتها؛ لأَنَّ هذا التهميش يعني تجاهل استخدام الوقود والغذاء كأوراق ضغط سياسية، ولذلك عندما حاولت إدارة بايدن وضع وصول سفن الوقود والغذاء بمقابل وقف التقدم في مأرب ووقف الضربات الصاروخية والجوية على السعوديّة، لم يكن هناك أي استنكار لهذا الابتزاز الإجرامي الصارخ.

والحقيقة أن الأممَ المتحدة قد عملت منذ ما قبل صفقة على تكريس “شرعية” استخدام الحصار كورقة ضغط وابتزاز، وقد عبر مبعوثها السابق مارتن غريفيث ذات مرة بشكل صريح عن تواطؤ الأمم المتحدة مع تحالف العدوان في مسألة احتجاز السفن وربطها بمطالب تفاوضية.

ومن هنا، جاء الموقف الوطني صارماً في التمسك بضرورة فصل المِلف الإنساني عن الملفات العسكرية والسياسية، والتأكيد على أن الحصار جزء جوهري من المشكلة، شأنُه شأنُ العمليات العدوانية العسكرية، وبدون رفعه بشكل كامل وتام لن يكون هناك أي سلام فعلي.

وينصح تقريرُ “مجموعة الأزمات” المبعوث الأممي الحالي إلى اليمن، بإعطاء أولوية لملف الحصار والحرب الاقتصادية للوصول إلى حَـلٍّ حقيقي، وهو الأمرُ نفسُه الذي تنصحُ به العديدُ من مراكز الدارسات والأبحاث الأجنبية التي تتحدَّثُ عن ضرورة تغيير نهج التعاطي الأممي والدولي مع ملف اليمن، لكن لا يوجد في الأفق أيُّ احتمال يشيرُ إلى الاستجابة لتلك النصائح، والتفسير الوحيد لذلك هو الحقيقة التي لا مفرَّ من مواجهتها دائماً عند الحديث عن الحصار، وهي أنه جريمة متعمد يراد لها أن تستمر والأمم المتحدة والمجتمع الدولي يعون ذلك ويوافقون عليه.

 

صحيفة المسيرة

قد يعجبك ايضا