قصف مبنى الاتصالات بالحديدة.. إجرام أمريكي سعوديّ لا يُنسى

ناجون وشهود عيان يروون جزءاً من تفاصيل الفاجعة:

صحافة|

لا تزالُ فاجعةُ قصف مبنى الاتصالات بمحافظة الحديدة الشهر الماضي، حديثَ المكلومين والموجوعين باليمن بشكل عام ومحافظة الحديدة بشكل خاص، وهي واحدةٌ من سلسلة جرائم طويلة لتحالف العدوان الأمريكي السعوديّ الإماراتي ضد المدنيين في اليمن.

وكما أن لكل جبهةٍ رجالَها الأبطال وجنودَها المجهولين الأبرارَ الذين انطلقوا في ذات الموقف وفي ذات المسار، كان لمنتسبي قطاع الاتصالات وتقنية المعلومات والجهات التابعة لها موعدٌ ولقاءٌ، مع البذل والعطاء، مع البطولة والتضحية والفداء، على مدى سبع سنوات من العدوان الأمريكي السعوديّ الإماراتي الصهيوني على اليمن (الأرض والإنسان).

وفيما تفصلنا بضعة أسابيع عن الولوج للعام الثامن من الصمود اليمني الأُسطوري، يسترسل هذا التحالف الأرعن في غيّهِ ووحشيتهِ، في عدوانهِ وحصاره، للوطن اليمني عُمُـومًا، ولقطاع الاتصالات على وجه الخصوص، ففي أقل من عشرين يوماً من مجزرة العدوان على فرع الاتصالات في مدينة المحويت والحيّ المتاخم له والتي حصدت العشرات ما بين شهيدٍ وجريح جلُّهم من النساء والأطفال، جاء الاستهداف الثاني لفرع مؤسّسة الاتصالات والسنترال الرئيسي والبوابة الدولية للإنترنت في مدينة الحديدة، ليدخل ذلك القصفُ على مؤسّسة مدنية لا تمُتُّ للحرب وجبهاتها بصلةٍ في عداد جرائم الحرب التي لا تسقط بالتقادم.

استفز القصفُ مشاعرَ كُـلِّ اليمنيين واحتار الجميعُ في معرفة أسباب ذلك القصف لمنشأة مدنية تتبع قطاع الاتصالات.. لقد بالغ العدوان في غيه ووحشيته، وأفلس في تحديد أهدافه وأخذ ينشر الرعب في الأرض اليمنية لا فرق لديه بين هدف مدني وآخر عسكري.. إن ذلك يأتي كتعبير صادق عن الإفلاس والهزيمة التي مُني بها تحالف العدوان بمختلف جبهات القتال فلجأ إلى هذا الأُسلُـوب الرخيص استهداف المنشآت المدنية في محاولة يائسة منه لتشكيل ضغط شعبي على قيادة البلاد.

لقد كان يوماً مأساوياً ذلك المساء الذي عاش فصوله وبمرارة موظفي فرع مؤسّسة الاتصالات بمحافظة الحديدة المناوبين والذين وقع القصف على رؤوسهم وهم داخل المكتب، عاشوا تلك اللحظات المرعبة بعضهم ارتقى شهيداً والبعض نجا من الموت المحقّق بعناية الله.

بعض أقرباء الموجودين داخل المكتب اندفعوا نحو المبنى لا شعورياً بعد سماعهم بالضربة وتمكّنوا من الدخول إلى المبنى دون خوف من تكرار القصف في محاولة شجاعة منهم لإنقاذ من لا يزالُ على قيد الحياة.

في اللحظات الأولى من الفاجعة هكذا ظهر المشهد، أحياءٌ سكنيةٌ مدمّـرة، مبنى عامر بالخراب، جثثٌ متفحمة، أجساد أدميةٌ ترقد تحت الركام، وأشلاء متناثرة على جنبات الدمار، لا تستطيع تمييز أيّها للأطفال أَو الكبار، لا شيء يعشعش في المكان سوى رائحة البارود والدخان الممزوجة بدماء الضحايا الأبرياء، لا شيء.. سوى نسيجٍ متقطعٍ وأنَّات متوجعٍ، حزن يجثم فوق ربوة الصمت.

دفعني الواجبُ للقاء الجرحى هاتفياً بعد الفاجعة والاستماع لأقوال الناجين، واستوقفتني قصص جنودنا المجهولين في قطاع الاتصالات، فحدثني الأخ طارق علي ناشر الشقاقي، رئيس قسم السنترالات (أحد الجرحى)، بالقول: “كان يوم الخميس الموافق 20/1/ 2022م، بدأنا استلامنا في الساعة الثامنة مساءً بعد أن غادر زملاءنا المستلمين في فترة العصر، كنت في غرفة المستلمين في الطابق الأول جوار السنترال، أنا والأخ أحمد عبد الكريم باحويرث، مهندس سنترالات والأخ عصام هبه، مهندس تراسل، والأخ حافظ إبراهيم، مهندس قوى وتكييف، وكذلك الأخ محمد أحمد عبد الوهَّـاب -رئيس قسم السنترالات بفرع محافظة إب- الذي صادفت زيارته هذا اليوم في مهمة عمل رسمية لتمديد كابلات الألياف الضوئية وكان قد اتصل بي محمد عبد الوهَّـاب وقال نريد نشتغل مع بعض، وبالفعل شاركتهم في العمل بحضور المهندس نبيل الثلايا -مهندس الاتصالات الريفية- وقمنا بتمديد الكابلات داخل المبنى والاستمرار في العمل حتى الساعة العاشرة.

ويضيفُ بقوله: “انتهينا من العمل ثم غادر الأخ نبيل الثلايا السنترال وذهب إلى منزله، أما الأخ حافظ إبراهيم مهندس القوى والتكييف، فقد اتجه نحو غرفة المولدات لتفقد عمل المولدات وبقية التجهيزات في مجال القوى والتكييف”.

ويتابع المهندس طارق: “عند الساعة العاشرة والنصف مساءً وأثناء تواجدي أنا والأخ أحمد عبد الكريم والأخ عصام هبه والأخ محمد عبد الوهَّـاب، في غرفة مستلمي السنترال ونحن نناقش استكمال بقية الأعمال الفنية الخَاصَّة بالتمديدات لكابلات الألياف الضوئية”، هُنا.. “تفاجأنا بضغطٍ شديدٍ جِـدًّا.. دفعنا بقوة وَأَدَّى إلى ذهاب كُـلّ واحد منا في اتّجاه ونزول ركام المبنى كاملاً فوق رؤوسنا لدرجة أنه غطى الركام أجسامنا كاملاً، ولم يبق منّا سوى الرأس والباقي مدفون، بعد لحظاتٍ كُـلّ واحد منّا يصيح لزميله ويتفقد بعضنا بعضاً ولما تأكّـدنا أن الجميع بخير، كانت فرصة النجاة للأخ أحمد عبد الكريم أكثر؛ لأَنَّ الركام الذي سقط عليه كان قليلاً، فاستطاع إخراج نفسه وخرج من المبنى، لطلب النجدة، وبقينا نحن تحت الأنقاض، حتى وصلت فرق الإنقاذ وتم إخراجنا من تحت الأنقاض باستثناء الأخ عصام هبة، رغم أنه كان أكثر واحد فينا ينادينا ويهدئنا ويذكرنا بالله وينادينا سبحوا الله استغفروا الله.. اشهدوا أن لا إله إلاّ الله وأن محمداً رسول الله”.

ومن المفارقات العجيبة يقول المهندس طارق: “كان أول شخصٍ يصل إليّ لإنقاذي وإخراجي من تحت الركام هو (محمد) ابن عصام هبه، فأخرجني وكلمته أن يذهب لينقذ والده.. وحدّدت له موقعه.. لقد كان أكثر الركام متواجداً حَيثُ كان يجلس عصام هبه، ثم علمنا بعد ذلك أنه استشهد، رحمة الله تغشاه”.

 

عمليةٌ بطولية

وعند تواصلي بمحمـد (ابن الشهيد عصام هبة) حدثنا بالقول: “منزلنا قريب من العمل، سمعت الغارات الجوية وكانت قريبة فقمت بالاتصال بعمليات المحافظة، وسألتهم أين الضربة فأجابوا أنها في مبنى الاتصالات.. ففزعت؛ لأَنَّ والدي هناك.. تحَرّكت مسرعاً إلى هناك وبمسافة بعيدة من المبنى رأيت قطع أحجار المبنى وبقايا الدمار المتناثرة والمنتشرة في كُـلّ مكان بشكلٍ فظيع يدل على بشاعة الفعل والجريمة النكراء”.

ويضيف: “تحَرّكت صوب المبنى المدمّـر والناس ينادوني توقف لا يزال الطيران محلقاً.. فلم أكترث لذلك رغم سماعي لأصوات الطائرات تحوم فوق المكان.. وواصلت التحَرّك ووصلت إلى المبنى المدمّـر فلم أعرف من أين أدخل؛ بسَببِ الركام، فوجدت أن النوافذ قد نزعت من أماكنها؛ بسَببِ قوة القصف، فدخلت من إحدى النوافذ وأنا أعرف أين غرفة المستلمين حق السنترال فوصلتها والركام كثير جِـدًّا فوجدت أول شخص التقيته هو الأخ طارق الشقاقي، فقمت بنزع الركام وأخرجته وكان في حالة يرثى لها.. كسور كثيرة بجسمه لا يستطيع التحَرّك فتمكّنت من إخراجه ثم أخبرني عن موقع والدي وقال: اذهب بسرعة انقذ أبوك”.

ويزيد محمد زفرات الحرقة والألم ويتابع: “ذهبت فوجدت الركام كَثيراً حتى سقف الغرفة فلم نتمكّن من الوصول إليه إلاّ بحفر حفرة في الجدار من الغرفة المجاورة، تحَرّكت أنا وبعض الناس الذين وصلوا بعدي، وقمنا بحفر حفرة في جدار الغرفة المجاورة وتمكّنا من فتح فتحة، فرأيت أبي سليماً تماماً لم يصبهُ خدش واحد..، إذ كان تحت الطاولة التي كانت هناك والركام كله فوق الطاولة.. ناديته فاستجاب لي وكان يحرّك رأسَه وينظر إليّ وهو يتمتم متبسماً”.

ثم واصلنا الحفر في الجدار بسرعة.. من شدة حرقتي وألمي وخوفي على أبي كنت أنزع الأحجار وأحاول أن أحفر بيدي؛ لأَنَّه لم يكن لديَّ معول حتى أُصيبت يداي بجروح نتيجة ذلك، مواصلاً حديثه بالقول: “وبعد أن صارت الفتحة كبيرة ومناسبة تمكّنا من إخراجه من هناك، وبعد أن أصبح في أيدينا شاهدنا خروجَ رَغوة بيضاء من أنفه، وكان لا يتحَرّك.

ويستمر محمد في سرد الحكاية بأسى: “أخذناه للمستشفى القريب وعملنا له تخطيطَ قلب وكان لا يزال ينبض ثم عملنا له تنفس اصطناعي ومحاولة إنعاش لكن دون جدوى، وعملنا له تخطيط قلب مرة ثانية، وكانت النتيجة أنه توقف وارتقى شهيداً، وهو يؤدي واجبه الديني والوطني في سبيل الله وخدمة المجتمع”.

 

النجاة بأعجوبة

بدوره، يحكي فضل عبد القادر الشحاري، وهو إداريٌّ في الشئون القانونية -أحد الجرحى- ما حدث فيقول: “مكتبي كان في الجهة المدمّـرة كليًّا، وفي وقتٍ سابق طُلب منّا تجهيز كشوف بأسماء الموظفين وبيانات عاجلة وضرورية وتم تكليفي لتجهيز العمل بأسرع وقت، فعدت إلى المكتب ليلاً، كي استكمل تجهيز عملي المطلوب، وبمُجَـرّد وصولي إلى المكتب لم أجد المفاتيح، حَيثُ نسيتها في البيت، فدخلت مكتب الخدمات الإدارية في الطابق الثاني وبقيت استمر في عملي، طبعاً المكاتب فواصل زجاجية وألمنيوم بين المكتب والآخر”.

ويتابع مطلقاً زفراته: “حتى الساعة العاشرة تماماً سمعت قصف طيران على منطقة الكثيب القريبة من الشاطئ، نحن في المكتب مُستمرّون في عملنا، لم نتوقع قصف المبنى الذي نتواجد فيه، وبعد نصف ساعة أَو أقل من ذلك تفاجأت بضغط شديد وقوي وانفجار رهيب، تطاير على إثره زجاج فواصل المكاتب، ودخل الكثير من شظايا الزجاج في فخذي ورأسي وشعرت بالدم يسيل من رأسي فتحَرّكت بصعوبة للخروج من الدرج، فوجدت الركام يغطي ويسد الدرج والممر، ورأيت الزميل عبده معوضة يناديني من الممر الجهة الغربية وهو مصاب، فتحَرّكت إليه وأخذته وكلٌّ منا يتكئ على الآخر، وتحَرّكنا إلى باب الطوارئ الذي كان قريباً، وتمكّنا من الخروج بأعجوبة”.

بدوره، يقول عبده معوضة، “محاسب” وهو (أحد الجرحى): كنت في الدور الثاني في مكتبي استكمل أعمال الجرد السنوي، وأقوم بتجهيز تقارير الزيادة والنقص في الجرد، وكنت قد خرجت من مكتبي إلى مكتب زميلي الأخ محمد اللحماني، الذي كان منهمكاً في تجهيز أعمال حسابات جرد المخازن ويفصل بين مكتبه ومكتبي مكتب واحد فقط، ورجعت مكتبي لاستكمال عملي.

ويضيف: “وبعد أن أنهيت عملي وحزمت أمتعتي وأثناء مروري أمام مكتب الأخ محمد اللحماني الذي كان لا يزال يعمل، وقبل دخولي إلى مكتبه شعرت بضغط شديد دفعني في الممر عدة أمتار من النقطة الذي كنت أقف فيها مع صوت صرير في أذني، وكادت طبلات أذُنَيَّ تنفجر، حسب تأكيد المختصين بالمستشفى وبعد أن أفقت من هول الضربة والمكان يمتلئ بالدخان والركام، ورأيت سقف المبنى غير موجود، رأيت فضل الشحاري يضيء بتلفونه وناديته أن يضيء لي حتى أرى ما أمامي، ولما وصل لإنقاذي وهو جريح ينزف دماً، وأنا جريح كذلك ذكرنا الأخ محمد اللحماني، وقلت له “محمد اللحماني” نشوفه فوجدنا مكتبه مليئاً بالركام الكثير، فتمكّنا من الخروج وطلب المساعدة، وبعد ذلك سمعنا أن المنقذين وجدوا الأخ محمد اللحماني في حوش المبنى جثة هامدة، والركام فوقه، ليرتقي شهيداً في مواكب الإباء”.

وفي محصلةٍ نهائية لهذه الفاجعة ارتقى شهداء الأخوين “محمد اللحماني، وعصام هبه”، وجرح كُلٌّ من الإخوة: (فضل عبد القادر الشحاري، أحمد عبد الكريم باحويرث، طارق علي ناشر الشقاقي، عبده محمد معوضة، محمد محمد شعبين، محمد عبد الوهَّـاب)، ناهيك عن الضحايا من السكان في الحيّ من الأطفال والنساء، إذ ليس هذا السرد إلا جزء من حكاية، فما يزال أبناء الشعب اليمني والمجاهدون الأحرار يخوضون غمار المعركة المصيرية العادلة؛ مِن أجلِ الحرية والسيادة والاستقلال وما تزال مشاعل الانتصار تسقى بدماء الشهداء الأبرار وعرق المجاهدين الأخيار في كافة جبهات العزة والكرامة ومختلف مواقع المجد والشرف، بجهادٍ واجتهاد.. بإخلاص ومثابرة، إخلاص أمام الله عز وجل، في الأقوال والأفعال، وأمام كلما يربطهم بوطنهم اليمني وهُــوِيَّتهم الإيمانية اليمانية الأصيلة، كُلٌّ في مجاله وبحسب تخصصه، والعاقبة للمتقين.

 

صحيفة المسيرة

قد يعجبك ايضا