عملية كسر الحصار الأولى… الأبعاد والدلالات
| مقالات | إبراهيم محمد الهمداني
لم تدخر قوى العدوان السعوأمريكي وتحالفها العالمي، أي جهد أو وسيلة لاستهداف الشعب اليمني، والنيل من صموده وكرامته، وثنيه عن تبني نهج حريته واستقلاله وسيادته ووحدة أراضيه، وإصراره على رفض مشاريع الوصاية والهيمنة الاستعمارية، مهما كانت العواقب والمخاطر والتحديات، ومهما كان الثمن والتضحيات، ومهما طال أمد العدوان، وتعددت أساليبه وأدواته، وتزايد رصيد توحشه وإجرامه، ولم يكن الاستهداف العسكري المباشر وغير المباشر، هو الاستراتيجية الوحيدة لهذا العدوان البربري العالمي، وإنما حضرت إلى جانب ذلك، استراتيجية الحصار الشامل، برا وبحرا وجوا، بحق شعب بأكمله، في عملية أقل ما يقال عنها، إنها حرب إبادة وحشية شاملة، تستهدف جميع أبناء الشعب اليمني دون استثناء، في لقمة عيشه ودوائه وكل ضروريات حياته، التي تشكل المشتقات النفطية، الجزء الأكبر منها، غير عابئة بمخاطر ذلك، وما ينتج عنها من تداعيات، وكارثة إنسانية شاملة، بالشراكة مع مجلس الأمن والأمم المتحدة، بكل مؤسساتها وهيئاتها ومنظماتها، وخاصة الحقوقية والإنسانية، التي تدعي حماية حقوق الإنسان، ورعاية الحريات والعدالة والمساواة، بينما هي في حقيقتها، مجرد أدوات تحركها القوى الاستعمارية لمصلحتها، تحت غطاء شعارات الحرية والإنسانية الزائفة.
عجز تحالف العدوان العالمي، على اليمن – على مدى ثمانية أعوام – عن تحقيق أي هدف من أهدافه، أو أدنى تقدم، أو انتصار عسكري أو سياسي يذكر، فلجأ – بكل قبح وصلف ووحشية – إلى تشديد الحصار، وخنق الشعب اليمني، في لقمة عيشه وكل مقومات حياته، جاعلا من استراتيجية منع دخول المشتقات النفطية، وسيلته لتحقيق ما يطمح إليه، من الهيمنة واستعباد الشعوب، مدعيا أن حكومة الإنقاذ الوطني، هي من منعت دخول المشتقات النفطية، كما هي عادة الماكينة الإعلامية الاستعمارية، في تزييف الحقائق، والترويج للكذب والزيف، بهدف تحويل سخط الشعب إلى قنبلة موقوتة، في وجه حكومة الإنقاذ الوطني، وفي حال لم تنجح كذبتهم، وفشلت خطتهم في إثارة الرأي العام، فإن حصارهم سيستمر في قتل الشعب اليمني بأكمله، دون أن يرف للمجتمع الدولي – الاستعماري – جفن، أو يحركه ضمير أو شعور، أو يردعه عرف أو قانون، لتنعكس تداعيات حصار المشتقات النفطية، على مستوى كل الخدمات في المستشفيات، وارتفاع كلفة المواصلات، وأسعار المواد الغذائية، وتطال كل متطلبات ومرافق الحياة العامة، وهو ما جعل الشعب يعاني أسوأ أزمة إنسانية، وأشد وأخطر كارثة، وأبشع مجاعة في تاريخ البشرية جمعاء.
فشلت رهانات إعلام العدوان، في تأجيج الشارع اليمني، وخلق حالة من الفوضى، في سياق خدمة مصالح وأهداف تحالف العدوان، فلم تعد أكاذيبه قادرة على خداع البسطاء من عامة الشعب، نظرا لما وصل إليه الشعب اليمني – شعب الحكمة – من مستويات الوعي، وقراءته لحقيقة المواقف والسياسات، الوطنية من جهة، والاستعمارية من جهة أخرى، علاوة على ما يلمسه من فروقات هائلة، على المستوى المعيش وحالة الأمن والاستقرار، وحرص حكومة الإنقاذ الوطني، على تخفيف معاناة المواطن اليمني، في المناطق الحرة، وقياس كل ذلك بأوضاع الحياة المعيشة، وأحوال المواطن اليمني في المناطق الخاضعة لهيمنة قوى الاحتلال والعدوان.
ويمكن القول إن خروج الشعب في مظاهرته الحاشدة، تحت شعار “حصار المشتقات النفطية قرار أمريكي.. وخيارنا إعصار اليمن”، ليس إلا دليل وعي جماهيري شعبي متقدم، بحقيقة الحرب الاقتصادية، والمؤامرات الإمبريالية، ويؤكد توجه الرأي العام الجمعي، نحو القاتل الحقيقي، ممثلا في الإدارة الأمريكية، ومن خلفها الكيان الصهيوني الغاصب، وهذا المستوى المتقدم من الوعي، هو الذي جعل الشعب اليمني يعلن خيار المواجهة، ب “إعصار اليمن”، كاستراتيجية هامة وفاعلة، في مسار مواجهة عمليات القتل الممنهج، ويؤكد تفويضه المطلق للقيادة الثورية والسياسية، والقوة الصاروخية والطيران المسير، في الرد على عنجهية العدوان، وردعه عن التمادي في حصاره الجائر، وإمعانه في قتل وإبادة شعب كامل، ظنا منه أنه بفرض الجوع، سيجبر الشعب اليمني على الركوع، والاستسلام لهيمنته ووصايته، وبذلك يحقق من خلال الحرب الاقتصادية والحصار، ما عجز عن بلوغه في ميادين المواجهة.
كانت “عملية كسر الحصار الأولى”، المعلن عنها في الثامن من شعبان ١٤٤٣ ، الموافق ١٠/٣/٢٠٢٢م، بمثابة الاستجابة الرسمية لمطالب الشعب، بتفعيل خيار “إعصار اليمن”، كاستراتيجية ردع يمنية، تعبر عن رغبة شعبية، في انتهاج سبيل المقاومة، من أجل دفع الضرر وكف الأذى، انطلاقا من مبدأ الدفاع عن النفس، المكفول في كل الأديان والشرائع السماوية، والقوانين والأعراف الوضعية، وبهذا سقطت كل مزاعم العدوان وأكاذيبه، وسقطت محاولاته في تفجير الوضع الداخلي، وتأجيج السخط الشعبي، المتنامي جراء تدهور الأوضاع الحياتية والمعيشية، غير أن تلك المحاولات باءت بالفشل، وأصبح أبواقه الناعقين – من الطابور الخامس – في موضع حرج كبير، ورفض شعبي تام، واحتقار وازدراء جمعي عام، كون جميع أبناء الشعب اليمني – حتى أولئك الذين في المناطق المحتلة – يعون جيدا حقيقة الدور الهدام والتدميري، الذي يقوم به تحالف العدوان، بحق جميع اليمنيين، في جميع أنحاء الوطن، إذ لا فرق بين مناهض أو مؤيد، عند آلة القتل والتدمير الاستعمارية، ومشاريع الإبادة الجماعية، سواء من خلال القصف والاستهداف المباشر، لكل مظاهر التجمعات المدنية، وارتكاب أبشع الجرائم والمجازر الجماعية، أو من خلال فرض الحصار الجائر، وحرمان المدنيين الأبرياء من أبسط وأهم ضروريات ومقومات الحياة، أو من خلال تحويل أبناء المجتمع اليمني – في الجنوب – إلى جماعات وظيفية، تعمل لحساب فريقي الاحتلال، وأداتي الاستعمار، وتقتل بعضها بعضا، بتوجيهات سعودية إماراتية، تنتهج سياسة “فرِّق تسد”، بما من شأنه إحكام قبضة المحتل السعوإماراتي، ومن خلفها المستعمر الأمريكي البريطاني، وتمكين الغاصب الصهيوني، وسلب المجتمع اليمني، كل مقومات وجوده، وعوامل قوته وحضوره.
حملت “عملية كسر الحصار الأولى”، الكثير من الأبعاد والدلالات، على المستويين الإقليمي والعالمي، علاوة على دلالات التسمية، التي خصصت أو عيَّنتْ أو حددت، وميزت هذه العملية بمصدرية ال “كسر”، في محمولاتها الدلالية؛ سواء المصورة لطبيعة فعل الكسر، في هيئة القطع، والفصل بين جزأي/ طرفي المتصل والممتد، أو المؤكد لامتلاك الفاعل/ الكاسر، القدرة والقوة الكافيتين، للقيام بفعل الكسر، الذي يتغلب على صلابة الحصار، في تموضعه السياسي الإمبريالي، وتموضعه الاقتصادي الحياتي، ومواجهته والتغلب عليه، بعملية أكثر منه صلابة، وأشد قوة وأعظم خطرا وتأثيرا، يتجاوز الجوار الجغرافي، والمحيط الإقليمي المستهدف بالفعل، إلى ما وراء ذلك عالميا، حيث تظهر تداعياته وانعكاساته على الاقتصاد العالمي، الذي سرعان ما ينكسر عموده، ويفقد قوة حضوره وفاعلية وجوده، حين يتم استهداف أساس تحققه، وعامل نهضته واستقراره، ممثلا في منابع الطاقة/ النفط، في المملكة السعودية وأخواتها، نظرا لمكانته الهامة، بالنسبة لاقتصادات الدول الاستعمارية الكبرى، التي تعتمد عليه اعتمادا شبه كلي في تلبية حاجتها من الطاقة، وتحقيق استقرارها الإمبريالي، ولذلك فإن أي استهداف لمصافي وآبار النفط في السعودية ودول الخليج، لا يعدو كونه ضربة قاصمة على ظهر الاقتصاد الإمبريالي الغرب – أوروبي عامة، والأمريكي البريطاني على وجه الخصوص.
كما أن تمييز هذه العملية ب “الأولى”، يمنح فعل الكسر، في مصدرية القوة، دلالة القدرة على القيام بالمزيد، من عمليات الكسر المضاد، لقوة وقدرة الحصار على كسر صمود ومقاومة الشعب اليمني، على قاعدة أن لكل فعل رد فعل، معاكس له في الاتجاه، (ومتفوق) عليه في القوة، في هذا السياق خاصة، وكون هذه العملية هي الأولى، في مسار كسر الحصار، فذلك يمنحها فاعلية أقوى، وأثرا أكبر عمقا وأشد إيلاما، وحضورا طاغيا ومتجددا، من خلال ما تعرضه متواليات التسلسل الرقمي – ما بعد الأولى إلى ما لا نهاية – من انفتاح مطلق، على فضاءات زمنية ومكانية لا متناهية، حتى يتحقق “كسر الحصار”، بانكساره في ذاته، وتجاوز أثاره وتداعياته، وزوال فاعليه الطغاة المجرمين.
جاءت “عملية كسر الحصار الأولى”، ردا على تصعيد العدوان وحصاره، وتشدده في منع دخول المشتقات النفطية، واستهانته بأرواح اليمنيين، الذين يموتون في كل دقيقة، خاصة الأطفال في حضانات المستشفيات، ومرضى الفشل الكلوي والسرطان، وغيرهم ممن هم في أمس الحاجة إلى الرعاية والعلاج، بعد أن عجزت معظم المستشفيات عن تأمين الخدمات الضرورية لهم، ناهيك عن تزايد وطأة الفقر، واتساع دائرة المجاعة والموت جوعا.
لذلك وغيره كان من الضروري القيام بتنفيذ ضربة مؤلمة، في عمق الكيان السعودي المعتدي، يتجاوز أثرها حدود المكان الإقليمي، لتتصاعد صرخات الألم من أقصى الغرب الأمريكي، وشركائه الإمبرياليين في العمق الأوروبي والشرقي، وهو الأمر الذي سبق وحذرهم عواقبه السيد القائد عبدالملك بدرالدين الحوثي – حفظه الله – مؤكدا أننا لن نقف مكتوفي الأيدي وهم يقتلوننا جوعا وحصارا، وأننا سنرد ونواجه ونقاوم بكل السبل الممكنة، ولن نتردد عن توجيه أقسى الضربات المؤلمة، في عمق دول العدوان، وهو ما ترجمته الكثير من عمليات الرد والردع، مرورا بعمليات إعصار اليمن، ووصولا إلى هذه العملية، التي تمت بعدد من الطائرات المسيرة اليمنية، استهدفت منشآت أرامكو في منطقتي جيزان وأبها، ومواقع حساسة أخرى بعدد ٦ طائرات مسيرة نوع صماد١، بينما استهدفت 3 طائرات نوع صماد٣، مصفاة أرامكو في الرياض، وقد حملت هذه العملية الكثير من الدلالات على المستويين الإقليمي والعالمي، منها:-
1- تصاعد وتنامي القدرات العسكرية والاستخباراتية اليمنية.
2- تنوع تصنيع القوة الصاروخية والطيران المسير، ووفرة الإنتاج والمخزون.
3- القدرة الفائقة على توجيه ضربات دقيقة، وتحقيق إصابات مؤلمة، بالغة الأثر.
4- تسارع التطور التكنولوجي، والقدرة على تجاوز أنظمة الدفاعات الجوية، ذات الكلفة الباهظة.
5- زلزلة أركان الاقتصاد السعودي – الخليجي، بما له من بالغ الأثر على اقتصادات القوى الاستعمارية، والمخاطر الكبيرة على الاقتصاد العالمي.
6- شل القدرة الإنتاجية النفطية السعودية، والوصول بها إلى مرحلة العجز، عن بلوغ الكمية المعتادة من صادراتها، ناهيك عن قدرتها على تلبية الطلب المتزايد، جراء العقوبات الأمريكية الأوروبية على روسيا.
7- توريطها في دائرة الحرج مع الرئيس الأمريكي “جو بايدن”، لعدم قدرتها الاستجابة السريعة لأمره بزيادة الإنتاج النفطي، وتعويض الكمية التي كانت روسيا تغطي بها احتياجات أمريكا وأوروبا من الطاقة.
8- دخول الثروة النفطية السعودية مرحلة الاستنزاف، ما بين المحاولات المستميتة لزيادة الإنتاج، وتغطية العجز العالمي الراهن، والخسائر الفادحة، التي خلفتها ضربات المسيرات اليمنية.
9- ظهور بوادر تفكك وانهيار التحالفات الاستعمارية، في شقيها الراسي والأفقي، بسبب ارتفاع سعر البرميل النفط عالميا، حيث وصل في الآونة الأخيرة إلى ما يقارب 140$ دولار أمريكي.
10- ينذر تكرار عملية كسر الحصار، بحدوث انهيار اقتصادي عالمي، قد ينتج عنه تحولات وتغيرات في الخارطة السياسية، وسقوط كيانات وأنظمة متوسطة وصغيرة، بين فكي الاقتصادات الكبرى المهيمنة.
11- يترتب على ذلك تغيرات جذرية في ميزان القوى العالمية، وفقا لمعادلة إنتاج وتصنيع الغذاء، وليس إنتاج وتصنيع السلاح.
12- تزامن تشديد الحصار الأمريكي، على الشعب اليمني، مع الحرب الروسية الأوكرانية، وحالة الانشغال العالمي بمجرياتها، لكي يموت الشعب اليمني جوعا، في غمرة ذلك الضجيج، دون أن يسمعه، أو يلتفت إليه أحد.
13- يضاف إلى ذلك، تحذير القوى الاستعمارية من خطر أزمة غذاء عالمية وشيكة، ليكون ذلك بمثابة تبرير للجريمة مقدما.
14- استطاعت “عملية كسر الحصار الأولى”، ليس فقط كسر الحصار إلى مدى معين، أو لفت أنظار شعوب العالم، إلى هول ما يعانيه الشعب اليمني، وكشف حقيقة القاتل الأمريكي، وخطورة استمراره في قيادة العالم، نحو الزوال المحقق، وإنما علاوة على ذلك، فرضت حضور الشعب اليمني، في صياغة معادلة القوى الصاعدة، المؤثرة بقوة في صناعة المستقبل السياسي العالمي.
ختاما.. لا يمكن قراءة ما وراء العدوان العالمي على اليمن، بمعزل عن التحولات السياسية العالمية، وطبيعة المخططات والأطماع الاستعمارية، وحقيقة الدور الذي تلعبه القوى الكبرى، في سياق تدجين الشعوب، وتهيئتها للقبول بالمشروع الصهيوني الاستعماري القادم، وسلبها كل عناصر قوتها، ومقومات وجودها وهويتها، وتسخير خيراتها وثرواتها، لخدمة المستعمر الجديد، ومما لا شك فيه أن اليمن قد لعبت – إلى جانب محور المقاومة – دروا هاما وبارزا، في إفشال هذا المشروع، وتأخيره عن المسار الزمني المفترض لتنفيذه، ورغم فشل صفقة القرن، في نسختيها الأولى والثانية، إلا أن اللوبي الصهيوني لم يجد بدا من المضي – مع شركائه – إلى الخطوات التالية، والانتقال بموقع حكومة الكيان الصهيوني، في المنطقة العربية، من دور الصديق، إلى دور الحليف، ثم إلى دور الزعيم والراعي والقائد، على مستوى المنطقة العربية، كما بدأ الكيان الصهيوني الغاصب، يمثل دورا بارزا في السياسة العالمية، سواء من حيث تحالفاته الندية، مع دول لا تربطه بها أدنى صلة، أو من حيث وساطته في صراع عالمي، بحجم الحرب الروسية الأوكرانية، دون أن يكون لتلك الأدوار المصطنعة، أي سند سياسي أو جغرافي أو اقتصادي، أو أدنى مشترك ثقافي أو حضاري أو إنساني، الأمر الذي جعل الكيان الصهيوني الغاصب، يبدو في صورة مهرج أعمى طماع، يزعم إسعاد الناس وإضحاكهم، بتهريجه المتواصل المزيف، بينما هو في الحقيقة عاجز عن إضحاك وإسعاد نفسه، بسبب ما يكتظ في أعماقه من مشاعر الحقد والكراهية، تجاه الجميع، وما يحمله من نزعة الهيمنة المكبوتة، والاستعلاء المطبوع بواقع انحطاطه ودونيته.