مظلومية الشعب الفلسطيني.. أسباب المشكلة

 

عندما تتأمل اليوم في واحدة فقط من مظلوميات هذه الأمة، مظلومية واضحة ومعترف بها بين الجميع، ليست محلَّ إشكال أو جدل في الواقع الداخلي في الساحة الإسلامية، فقط يراد لها من الآن فما بعد أن تتحول إلى مسألة جدل وإشكال، وإلَّا فكانت معترفًا بها في الساحة الإسلامية بكلها، ولدى كل العرب، مظلومية الشعب الفلسطيني، على مدى كل هذه العقود من الزمن، أكثر من سبعين عامًا، مظلومية واضحة ومؤلمة وكبيرة، فيها كل أشكال الظلم: القتل والاستباحة لحياة الناس، القتل اليومي، الذي لا يكاد يمر يومٌ من الأيام إلَّا ويتكرر، جريمة ومأساة متكررة، ومشهد واضح أمام جميع العرب، وأمام جميع المسلمين، الاستباحة للأرض، اغتصاب الأرض، ومصادرة الأراضي والمزارع والمساكن، واقتلاع المزارع، اقتلاع شجرة الزيتون، والسيطرة والسطو على ممتلكات الناس وحقوقهم،

وكذلك الاضطهاد الديني، معاناة حتى في الصلاة، على مستوى المسجد الأقصى، وتهديد لهذا المقدس، وتهديد للمشاعر المقدسة هناك والمعالم المقدسة، المقدسات بشكلٍ عام هناك تهديد مستمر لها، كل أشكال الظلم، وكل أشكال المعاناة قائمة، وتمسّ بالناس هناك في حياتهم وفي كل شئونهم: في شئونهم الدنيوية، وفي شئونهم الدينية، يعاني من مشكلة في أن يتمكن من أداء الصلاة في المسجد الأقصى، ويعاني من مشكلة في أن يصل إلى مزرعته التي هي مهددة: إما بقلع ما فيها من أشجار الزيتون، أو بمصادرتها عليه بشكلٍ تام، مشكلة القتل المستمر والاستباحة للدماء، مشكلة السجن والاعتقال التعسفي والظالم للرجال وللنساء… كل أشكال الظلم موجودة، واستمرت، ليس فقط عامًا بعد عام، بل على مدى عقود من الزمن: عشر سنوات، ثم عشر سنوات، ثم عشر سنوات… تتفاقم، تتعاظم، تتزايد، يزداد الوضع من واقعٍ إلى ما هو أقسى، المزيد من الأراضي تؤخذ، المزيد من أشجار الزيتون تقلع، المزيد من المزارع يتم السطو عليها والسيطرة عليها، حالات الجرائم: جرائم القتل، جرائم الاغتصاب، جرائم السجن… كل أشكال الظلم تحصل.

عندما نتأمل في هذه المظلومية فحسب، ما بالك الآن كل شعوبنا مظلومة، وتتفاوت مستوى المظلوميات من شعبٍ إلى آخر، هذه مظلومية واحدة، ننظر إلى جانبين لهذه المظلومية:

هناك طرف آخر، طرف هو الذي يباشر هذا الظلم بحق هذا الشعب، هو: (الكيان الإسرائيلي)، كيف نشأ هذا الكيان؟ كيف نمت وترعرعت تلك الغدة السرطانية في وسط هذه الأمة؟ كيف تمكنت أن تصل إلى ما وصلت إليه هي في نفسها، وفي ما تفعله بفئة من أبناء العالم الإسلامي، جزء من الأمة العربية والإسلامية، قطعة من المنطقة الإسلامية، كيف تمكنت من كل ذلك، وبكل بساطة على مدى كل هذه العقود من الزمن؟

لا تنظر إلى هذه المشكلة إلى أنها مشكلة عادية أبدًا، لا يوجد سبب لأن يتمكن ذلك العدو من أن ينمو، ويترعرع، ويبني نفسه، ويصل إلى ما وصل إليه، ويفعل كل ما يفعله من دون أن يكون ذلك بسبب خللٍ في واقع هذه الأمة الإسلامية بنفسها، في واقع هذا المحيط الكبير العربي والإسلامي، الذي شعب فلسطين جزءٌ منه، وأرض فلسطين جزءٌ من جغرافيته، انظر إلى أن هناك مشكلة في هذا الطرف الآخر، كيف بقي كل هذا المحيط الواسع الذي هو مُشَكَّل من مئات الملايين من الناس، والذي يمتلك من القدرات البشرية والمادية والإمكانات ما بإمكانه لو اتجه برؤية جادة، وتوجه جاد، وبمسؤولية فعلية، وبصدق إرادة، إلى أن يعالج هذه المشكلة في أسرع وقت، وأن ينهي تلك المظلومية في أقرب فرصة، المشكلة ليست طبيعية، المشكلة تدعو إلى التأمل، إلى أن ندرك أنَّ وراء هذا الخلل خلل يعود إلى مبادئ، إلى قيم، إلى منظومة نُسِفت، منظومة من: المبادئ، والأخلاق، والقيم، والتعليمات، نُسِفت وقوِّضت من واقع هذه الأمة، أضاعتها الأمة؛ فضاعت، وتحوَّلت إلى أمة لا فاعلية لها في مواجهة التحديات والأخطار الحقيقية والفظيعة والرهيبة، والتي لا يمكن أن نتجاهلها، إن تجاهلناها لم تحل المشكلة، تبقى المشكلة قائمة، بل تتعاظم، وتكبر، وتعظم، وتصل إلى مستويات خطيرة جدًّا.

عندما تشاهد كل تلك المآسي على الشعب الفلسطيني، وترى واقع هذا المحيط بكله، المحيط العربي، المحيط الإسلامي المتشكل من أكثر من مليار مسلم، والذي يمتلك من القدرات والإمكانات المادية الهائلة ما يمكنه من مواقف كبيرة جدًّا، من حضور عالمي كبير، من التصدي لأخطار كبيرة جدًّا، لماذا هذه الأمة الكبيرة في إمكاناتها وقدراتها، والكثيرة في عددها وعديدها، والواسعة في جغرافيتها، لماذا هي ضعيفة إلى هذا الحد الذي عجزت فيه عن التصدي لتلك المشكلة وتلك المظلمة، وحل هذا الإشكال، وتخليص ذلك الشعب، الذي هو جزءٌ منها، جزءٌ من هذه الأمة، مما يعانيه من هذا الظلم على مدى كل هذه العقود من الزمن.

هذه الأمة فيما تعانيه من ضعف في الفاعلية، في الأداء، في الموقف، من انعدام الاحساس بالمسؤولية، من ضعف في الوعي، من اهمال كبير جدًّا وصل بها أن هبطت دون مستوى بقية الشعوب والأمم، يعني: عندما نتَّجه بأنظارنا إلى البلدان الأخرى، إلى الشعوب الأخرى، إلى الأمم الأخرى، إلى الصين مثلًا، أو ليست الصين تسعى اليوم إلى أن تكون في قدرتها، في استقلالها، في قوتها، في حريتها، في إمكاناتها، في حضورها العالمي… منافسًا وندًّا لأمريكا، أو ليست تسعى لذلك؟ بلى، تسعى. وهل واقع الصين- مثلًا– كأمة، وكمجتمع، وكدولة في مسار حياتها، فيما هي عليه من: تعزز، واستقرار، وتمكّن، واقتدار، ونهضة، يمكن أن نساوي بينه وبين الواقع العربي، الذي يتجه إلى الأسوأ في مشاكله وتعقيدات وضعه؟!

إذا جئنا لنتأمل- مثلًا- الواقع الروسي، لماذا العرب- مثلًا– ليس لديهم مسار كهذا، أن يتجهوا ليكونوا أمة موحَّدة، أمة مقتدرة، أمة قوية، أمة عزيزة، أمة ذات مَنَعَة، أمة في مستوى مواجهة التحديات والأخطار، أمة تتصدى للسيطرة الأمريكية، والهيمنة الأمريكية، والطغيان الأمريكي؟ بل أكثر بلدان المنطقة العربية يتجهون اتجاهًا مختلفًا كليًا: الإذعان، الخضوع، الاستسلام لأمريكا، إعطاء أمريكا كلما تريده… الخ. هذا الواقع ليس واقعًا طبيعيًا أبدًا.

 

عندما ترى أشجار الزيتون تقلع في فلسطين، عندما ترى الأراضي تؤخذ وتغتصب، عندما ترى القتل اليومي لذلك الشعب المستضعف المظلوم، عندما ترى المقدسات مهددة، وتقتحم يوميًا، وعلى رأسها المسجد الأقصى الشريف، عندما ترى كل أشكال الظلم هناك، اعرف أنَّ السبب في واقع هذه الأمة التي تنظر إلى تلك الأحداث- ومع الوقت- إلى أنها أحداث روتينية، والكثير يتعامل معها ببرودة، وينظر إليها نظرة الاستبساط واللامبالاة والتجاهل، اعرف أن هناك مشكلة، هذه المشكلة تعود إلى بُعدِ هذه الأمة عن مبادئ وقيم ومعالم أساسية، حينما أضاعتها ضاعت، وحينما فرَّطت فيها وصلت إلى ما وصلت إليه من المشاكل التي هي كثيرة جدًّا، وتعقيدات كثيرة، وخلل، وعندما ترى التعافي يدبُّ في جسد هذه الأمة، وترى كيانات نهضت، هذه الكيانات التي تنهض في وسط هذه الأمة؛ إنما نهضتها هذه بقدر ما عادت إليه من  تلك المبادئ والمعالم الرئيسية، ومن يعود من أبناء الأمة إلى تلك المعالم الرئيسية- فعلًا- سيرى واقعه يبدأ بالتغير: في طبيعة التوجه، في طبيعة الموقف، في طبيعة المسار الذي يتحرك على أساسه.

الله أكبر
الموت لأمريكا
الموت لإسرائيل
اللعنة على اليهود
النصر للإسلام

 

السيد عبدالملك بدر الدين الحوثي

المحاضرة الأولى للسيد بذكرى استشهاد الإمام الحسين عليه السلام 1440هـ-

قد يعجبك ايضا