نص كلمة السيد عبد الملك بدر الدين الحوثي استقبالاً لشهر رمضان المبارك 26-8-1444هـ 18-3-2023م

 

حياكم الله جميعاً، وأهلاً وسهلاً ومرحباً، جمعة مباركة.

نرحب بكم جميعاً الآباء العلماء الأجِلَّاء وكافَّة الحاضرين أجمعين. اليوم بنتذكر اجتماعنا في العام الماضي للتهيئة، وسرعة الوقت، سرعة الوقت، ما أسرع الأيام في الشهور، وما أسرع الشهور في السنين، وما أسرع السنين في العمر، من اجتماعنا للتهيئة في العام الماضي إلى اليوم وقت سريع، لكن تطورات كثيرة، ومتغيرات كثيرة، وأحداث كثيرة، وحركة الزمن نفسها بالنسبة لنا في أعمارنا كل ما مضى عام، فمعنى ذلك نقص من أعمارنا ودُنُوّ من آجالنا.

اللَّه يُوَفِّقنَا وَإِيَّاكُم جَمِيعاً.

أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشهَدُ أَنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ المُبين، وَأشهَدُ أنَّ سَيِّدَنا مُحَمَّداً عَبدُهُ ورَسُوْلُهُ خَاتَمُ النَّبِيِّين.

اللَّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، وَبارِكْ عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، كَمَا صَلَّيْتَ وَبَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وارضَ اللَّهُمَ بِرِضَاكَ عَنْ أَصْحَابِهِ الْأَخْيَارِ المُنتَجَبين، وَعَنْ سَائِرِ عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ وَالمُجَاهِدِين.

أَيُّهَــــا الإِخْــــوَةُ الحَاضِرونَ جَمِيعاً:                              السَّــلَامُ عَلَـيْكُمْ وَرَحْـمَــةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُــه؛؛؛

اعتدنا في هذه الأعوام أن نستفيد من يوم الجمعة الأخيرة في شهر شعبان، للتهيئة لقدوم شهر رمضان المبارك، اقتداءً واهتداءً وتأسِّياً برسول الله وخاتم أنبيائه محمد بن عبد الله “صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَـيْهِ وَعَلَى آلِه”، فقد ورد عنه “صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَـيْهِ وَعَلَى آلِه” التركيز على الجمعة الأخيرة في خطاب الجمعة، في لفت النظر إلى شهر رمضان، والتهيئة على المستوى الذهني والنفسي للموسم المبارك، موسم الخيرات، موسم البركات، موسم الأعمال الصالحات ومضاعفات الأجر، موسم التربية الإيمانية والتزود بالتقوى، وهي طريقةٌ حكيمة ومفيدة، بل ورد في الآثار عن رسول الله “صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَـيْهِ وَعَلَى آلِه” ما يفيد أنه يهيئ ويلفت النظر إلى شهر رمضان، وأهمية اغتنامه، والاستفادة منه، والاستعداد النفسي والذهني له، من شهر رجب، ومن شهر شعبان، وصولاً إلى الجمعة الأخيرة من شهر شعبان.

اعتدنا أن نقرأ النص الوارد عن رسول الله “صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَـيْهِ وَعَلَى آلِه”، الحديث النبوي الشريف في خطبته “صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَـيْهِ وَعَلَى آلِه” في آخر جمعةٍ من شهر شعبان، ثم نتحدث على ضوء ما ورد فيه، ولذلك سنبتدئ به لنتحدث تالياً على ضوئه.

 عن أمير المؤمنين عليٍّ “عَلَيْهِ السَّلَامُ” قال: خطب رسول الله “صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّم” في آخر جمعةٍ من شهر شعبان، فَحَمِدَ اللَّه وَأَثنَى عَلِيه، ثُم قَال، يعني ما بعد مقدمه الخطاب: ((أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّهُ قَدْ أَظَلَّكُم شَهْرٌ فِيهِ لَيْلَةٌ خَيرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْر، وَهُوَ شَهْرُ رَمَضَانَ، فَرَضَ اللَّهُ “عَزَّ وَجَلَّ” صِيَامَهُ، وَجَعَلَ قِيَامَ لَيْلَةٍ مِنْهُ بِتَطوُّعِ صَلَاةٍ، كَمَنْ تَطَوَّعَ سَبْعِينَ لَيْلَةً فِيمَا سِوَاهُ مِنْ الشُّهُور، وَجَعَلَ لِمَنْ تَطَوَّعَ فِيهِ بِخَصْلَةٍ مِنْ خِصَالِ الخَيرِ وَالبِرِّ كَأَجْرِ مَنْ أَدَّى فَرِيضةً مِنْ فَرَائِضِ اللَّهِ “عَزَّ وَجَلَّ” فِيمَا سِوَاه، وَمَنْ أدَّى فَرِيضةً مِنْ فَرَائِضِ اللَّهِ “عَزَّ وَجَلَّ” فِيهِ، كَمَنْ أَدَّى سَبْعِينَ فَرِيضةً مِنْ فَرائِضِ اللَّهِ “عَزَّ وَجَلَّ” فِيمَا سِوَاهُ مِنْ الشُّهُور، وَهُوَ شَهْرُ الصَّبْرِ، وَإِنَّ الصَّبْرَ ثَوَابُهُ الجَنَّة، وَهُوَ شَهْرُ المُوَاسَاةُ، وَهُوَ شَهْرٌ يَزِيدُ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ فِي رِزقِ المُؤْمِن، وَمَنْ فَطَّرَ فِيْهِ مُؤْمِناً صَائِماً كَانَ لَهُ عِنْدَ اللَّه “عَزَّ وَجَلَّ” بِذَلِكَ عِتقُ رَقَبَةٍ، وَمَغْفِرةٌ لِذنُوبِهِ فِيمَا مَضَى. فَقِيلَ لَهُ: يَا رَسُوْلَ اللَّهِ لَيسَ كُلُّنَا يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يُفَطِّرَ صَائِماً، فَقَالَ: إِنْ اللَّهَ تَعَالَى كَرِيمٌ، يُعطِي هَذَا الثَوَابَ مَنْ لَا يَقِدِرُ إِلَّا عَلَى مَذْقَةٍ مِنْ لَبَنٍ يُفَطِّرُ بِهَا صَائِماً، أَوْ بِشَربَةٍ مِنْ مَاءٍ عَذْبٍ، أَوْ تُمَيراتٍ، لَا يَقِدِرُ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ ذَلِك، وَمَنْ خَفَّفَ فِيهِ عَنْ مَمْلُوكِهِ خَفَّفَ اللَّهُ “عَزَّ وَجَلَّ” حِسَابَهُ، فَهُوَ شَهْرٌ أَوَلُهُ رَحَمْةٌ، وَأَوسَطُهُ مَغْفِرَةٌ، وَآخِرُهُ إِجَابَةٌ وَعِتْقٌ مِنْ النَّارِ، وَلَا غِنَى بِكُم عَنْ أَرْبَعِ خِصَالٍ: خَصْلَتَانِ تُرضُونَ اللَّهَ تَعَالَى بِهِمَا، وَخَصْلَتَانِ لَا غِنَى بِكُمْ عَنْهُمَا، أَمَّا اللَّتَانِ تُرضُونَ اللَّهَ تَعَالَى بِهِمَا: فَشَهَادَةُ أَنْ لَا إِلهَ إِلَّا اللَّه، وَأَنِّي رَسُوْلُ اللَّه، وَأَمَّا اللَّتَانِ لَا غِنَى بِكُمْ عَنْهُمَا: فَتَسْأَلُونَ اللَّهَ تَعَالَى فِيهِ حَوَائِجَكُمْ وَالجَنَّةَ، وَتَسْأَلُونَ اللَّهَ تَعَالَى العَافِيةَ، وَتَتَعوَّذُونَ بِهِ مِنْ النَّار)).

هذا هو النص الوارد، وهو نصٌ مهمٌ ومفيدٌ جداً، وفيه ما يكفي ويفي للفت أنظارنا، وتهيئتنا نفسياً وذهنياً لشهر رمضان، والاهتمام به.

عندما نتأمل ما ورد في هذا النص، ففي بدايته في قوله: ((إِنَّهُ قَدْ أَظَلَّكُم شَهْرٌ فِيهِ لَيْلَةٌ خَيرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْر))، يبين لنا ما يتميز به شهر رمضان المبارك عمَّا سواه من الشهور؛ لننظر هذه النظرة: أنه يتميز عمَّا سواه على المستوى الزمني، وما فيه- ما في شهر رمضان- من البركات، من النتائج المهمة، من الفرص الكبيرة، من كل ما يمثِّل أهميةً كبيرةً جداً لنا، في أنفسنا، وفي حياتنا، وفي مستقبلنا الأبدي عند الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، هذه النظرة- بنفسها- لها أهميةٌ كبيرةٌ؛ لأن البعض من الناس يعتاد أن ينظر إلى شهر رمضان كشهر عادي، وكأنه مثل غيره من الشهور، ما يتميز به عمَّا سواه من الشهور هو فقط الروتين في الطعام والشراب الذي يختلف عن غيره، أو نظره قاصرة، لا يعي حجم هذه الفرصة، أهمية هذا الشهر المبارك وما فيه من الخير والفرص العظيمة للإنسان.

شهر رمضان المبارك مِن أهم ما فيه هو ليلة القدر، ليلةٌ مهمةٌ جداً، الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” يُقَدِّرُ فيها أمور عباده، لها علاقةٌ بنا في تدبير أمورنا، في تقرير مصائرنا، فيما يكتبه الله لنا، أو علينا، في واقع حياتنا، ليلة تدبير الأمور، على المستوى التفصيلي في تقدير الله وتدبيره لشؤون عباده، وهي ليلةٌ عظيمةٌ أنزل الله فيها القرآن؛ كما قال “جَلَّ شَأنُهُ”: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ}[القدر: الآية1]، وكما قال “جَلَّ شَأنُهُ”: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ (1) فِيهَا يُفرَقُ كُلُّ أَمرٍ حَكِيمٍ}[الدخان: 1-2]، ليلة ذات أهمية كبيرة، وذات فضل عظيم جداً؛ نزل فيها كتاب الله (القرآن الكريم)، لكل ما له من أهميةٍ وفضلٍ عظيم وشأنٍ كبير، هو حجة الله على عباده، ونوره لعباده، وهديه لعباده، وهو نعمته العظيمة التي لا تماثلها أي نعمةٍ من النعم، نعمة الله العظيمة على عباده: القرآن الكريم، كتاب الهداية، كتاب النور، الذي باتِّباعه والاهتداء به تتحقق النجاة، والفلاح، والفوز، والسعادة، والكرامة، والخير كله، ويمثل صلةً بيننا وبين الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”.

ولذلك لشهر رمضان علاقة قوية بالقرآن، والصلة بالقرآن الكريم، التي تتعزز في واقعنا من خلال شهر رمضان المبارك، كما قال الله تعالى عنه: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ}[البقرة: من الآية185]، وأحوج ما نحتاج إليه، لخير الدنيا والآخرة، للفلاح، والنجاح، والفوز، والكرامة، والسعادة، هو الهدى، نحن بحاجة إلى هدى الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، إلى إرشاده، إلى هديه، إلى نوره، إلى أن يبصِّرَنا، أن يعلِّمنا، أن يدلَّنا هو على طريق الخير، على طريق الفلاح، على طريق النجاة، وهذا ما عمِلَه لنا من خلال القرآن الكريم، الله- من خلال القرآن الكريم- خاطبنا، ووجَّهنا، وعلَّمنا، وأرشدنا، ونبَّهنا، وحذَّرنا، وأنذرنا، وبصَّرنا، وفهَّمنا، وعلَّمنا.

القرآن الكريم فيه توجيهاته، كلماته، هديه، تعليماته، التي هي حق، ونور، وهدى، وشفاء، ونحن في أمسِّ الحاجة إليها، ونحن في مسيرة حياتنا إن لم نهتدِ بهدى الله، لا بديل عن ذلك إلا العمى والضلال، إلا التخبُّط والتَّيه، إلا الجهالة والغفلة، إلا الشقاء والخسران. وهدى الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” هو أساس لنجاتنا أيضاً، لا نجاة لنا إلَّا من خلال تمسكنا بهدى الله، واهتدائنا بهدى الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”.

فما للقرآن الكريم، ما له من أهمية، وعظمة، وشأن كبير، وقيمة عالية جداً، ككتاب هداية تضمَّن كلمات الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وأتى فيه نور الله، الذي يبصِّرُنا ويضيء لنا أمام كل الظلمات المعتمة والمتراكمة، كل ما لهذا القرآن الكريم من أهمية كبيرة جداً، ندرك من خلاله عظمة تلك الليلة، أنها ليلة أتى فيها هذا النور، نزل فيها الوحي الإلهي، أتت فيها رحمة الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”؛ القرآن الذي يقول الله عنه: {هُدًى وَرَحْمَةً}، رحمة الله أتت في تلك الليلة، نزلت في تلك الليلة المباركة، إضافةً إلى ما يمثله القرآن الكريم من أهمية ودورٍ أساسي، وتضمَّن الرسالة الإلهية، وهو إرث الرسالات الإلهية بكلها، ومحتوى التعاليم الإلهية، ومحتوى كتب الله السابقة، التي تضمَّنها، ولخَّصها، واحتواها، وقدَّمها، وما فيه من الهدى الواسع والمعارف الواسعة، وما يصنعه من وعيٍ عالٍ وبصيرة عالية، وما له من أثر نفسي وتربوي، هو كما قلنا: يمثل صلة، يصلنا بالله؛ لأن وراء القرآن من نزَّل القرآن، الله يعِدُنا “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” عندما نهتدي بهديه أن يُمِدَّنا برعايته الواسعة والشاملة، بنصره، بالبركات، بالخيرات، بما وعد به في آياته المباركة من وعود كثيرة وعظيمة ومهمة في الدنيا وفي آجل الآخرة، هذا شيءٌ مهم.

فإذاً هي ليلة لها أهمية كبيرة، في صلتها بتدبير شؤوننا، وتقرير مصائرنا، وما يكتبه الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” فيها لنا، فعندما ندرك أهمية هذه الليلة، وأنها في ذلك الشهر، فلنعي أنه إذا أردنا أن نستفيد غاية الاستفادة من تلك الليلة، وأن نحظى فيها من بركات الله ومما يمُنُّ به ويكتبه فيها من الخير في الدنيا والآخرة؛ فعلينا أن نستعد لها من بداية الشهر، من لا يهتم بالشهر، فلن يظفر بليلة القدر، من لا يهتم بالشهر بنفسه، يعني: بكله، عنده اهتمام من بداية الشهر، يعني: لو فكر إنسان بطريقة خاطئة، وقال: [أنا سأتساهل، وأهمل، ولن أركِّز على الاستفادة من شهر رمضان إلى أن تأتي العشر الأواخر مثلاً، قد تأتي العشر الأواخر وأنت على المستوى النفسي والذهني غير مهيئ أصلاً للاستفادة من تلك الليلة المباركة، عليك أن تُعِدَّ نفسك، أن تهيئ نفسك؛ لكي تُقبِل إلى الله في تلك الليلة الإقبال المطلوب، الذي هو بالمستوى الإيماني الراقي، الذي يؤهلك ويهيئك لأن تتقبل نفحات الرحمة الإلهية، وأن تفوز بما وعد الله به، وأن تكون جديراً برحمة الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” والفضلِ والخير الذي يَمُنُّ به على الذين استجابوا له وأقبلوا، لم يغفلوا، ولم يتنكروا، ولم يتجاهلوا عطاياه، ورحمته، وفضله.

فإقبال الإنسان من البداية أمرٌ مهم، وتركيزه على القرآن الكريم في شهر رمضان من أهم الأعمال، ومن الأولويات التركيز على القرآن الكريم، العناية بالقرآن الكريم، تلاوةً، سماعاً لتلاوته، تفهُّماً، تأمُّلاً، تدبُّراً، يحرص الإنسان على أن يكون من أهم ما يُرَكِّز عليه في شهر رمضان: الالتفاتة إلى القرآن الكريم، والاهتمام بتلاوته، وسماع تلاوته، والاستفادة من هديه ونوره، وألَّا يضيع ليالي شهر رمضان المبارك، الإنسان يضيع الكثير من عمره، ما أكثر ما يضيع الناس من أوقاتهم ومن أعمارهم، لو يُقيِّم الكثير من الناس- يقيِّمون واقعهم هم- كيف يمضون أوقاتهم، لَوَجد أن أكثر عمره أهدره وأضاعه، لَوَجد أن أكثر العام يضيعه ويهدره، ربما هو يستفيد من نسبة بسيطة من أيامه، من لياليه، من أوقاته، هذا شهر على مستوى العام، لماذا لا تقبل فيه أكثر؟ لماذا لا تحاول أن تستثمر لياليه، التي هي ليالي ستنقضي؟ لماذا لا تحاول أن تستثمرها وهي موسمٌ عظيم، فضله عظيم؛ لتظفر بليلة القدر، وما كتب الله فيها من الأجر، والخير، والفضل العظيم؟ مضاعفة الأعمال في ليلة القدر هي من الأشياء المهمة التي تتعلق بها.

فعلى كلٍ، من أهم ما يتعلق بليلة القدر: أنها ليلة نزول القرآن، وهو شيءٌ يلفت أنظارنا إلى أن نعيد تقوية علاقتنا بالقرآن، وأن نعزِّز صلتنا بالقرآن، وأن نسعى للاهتداء به، نحن في عصرٍ لا مثيل له فيما تمتلكه قوى الضلال من إمكانات هائلة، وفي حجم الهجمة الهائلة لإضلالنا في المجتمعات الإسلامية، في المجتمعات الإسلامية نتعرض لحملات رهيبة جداً، ومساعٍ مكثفة من جهة المضلين، نحتاج إلى هدى الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، نحتاج إلى الوعي، نحتاج إلى البصيرة، نحتاج إلى النور؛ وإلا فالإنسان معرَّض لأن يتأثر، وأن يضيع، أو أن يكون لديه تصورات ومفاهيم خاطئة.

ثم أيضاً مما يلفت إليه في هذا النص المبارك، بعد تنبيهه عن ليلة القدر: القيمة التربوية لهذا الشهر (يعني: لشهر رمضان المبارك)، لذلك الشهر- نقول: لهذا بالنظر إلى النص- القيمة التربوية ذات أهمية كبيرة جداً؛ لأنه سمَّاه بشهر الصبر، يعني: من أهم ما في شهر رمضان: أننا نتعود فيه على الصبر، دورة سنوية نتعود فيها على الصبر: نمتنع عن الطعام، عن الشراب، يمتنع المتزوجون عن العشرة الزوجية، وعن الرغبات، هذا فيه ترويض للنفس على الصبر والتحمل، والسيطرة على رغبات النفس وأهوائها، وتقوية الإرادة والعزم، وهذا شيءٌ مهمٌ جداً في تحقيق التقوى.

في الآية القرآنية المباركة (في آيات الصيام في سورة البقرة) قال الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}[البقرة: الآية183]، (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)، من أهم ما في شهر رمضان أنه موسم للتربية، للتزكية للنفس، وللترويض على الصبر والتحمل، وهذا من أهم الأمور في التربية على التقوى، والالتزام بتعاليم الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، في العمل بأوامره، وفي الانتهاء عن نواهيه، هذا من أهم ما نحتاج إليه.

ونحن في مسيرة الحياة، وفي طبيعة ظروف الحياة، وفي مسؤولياتنا في الحياة، وفيما نواجه في الحياة، نحتاج إلى هذه التربية:

  • إلى التعود على الصبر.
  • إلى تقوية الإرادة والعزم.
  • إلى السيطرة على رغبات النفس، وأهوائها، وشهواتها.
  • إلى القدرة على التحمل.

هذه التربية مهمة في الإسلام، تعد الإنسان كفرد، والمجتمع الإسلامي كمجتمع؛ ليكون مجتمعاً قوياً؛ لأنه يمتلك قوة الإرادة، وقوة التحمل، قوة الإرادة وقوة التحمل؛ بينما الإنسان إذا كان مدلّلاً، ضعيف الإرادة، ضعيف التحمل، هذا يؤثر عليه في كل شؤون حياته: في دينه ودنياه، الإنسان إذا كان حالته حاله، ضعيف في إرادته، ضعيف في تحمله، ما عنده تحمل، لا ينفع، لا يفيد، لا يُعتمد عليه، لا يكون له دور مهم في هذه الحياة لا في أمور الدين ولا أمور الدنيا، فهي تربية جيدة، والإنسان مهيأ للاستفادة من هذه التربية، وأن يمتلك من خلال الترويض للنفس، والتهيئة للنفس، والتعود، أن يمتلك- فعلاً- قوة الإرادة، والسيطرة على رغبات النفس، وعلى نقاط ضعفها، وقوة التحمل التي تؤهله للقيام بدور أفضل في هذه الحياة، وتهيئ الإنسان للالتزام بتعليمات الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”.

فقوله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}، يعود إلى هذا المعنى: في تربية الإنسان على الالتزام العملي، والسيطرة على شهوات نفسه، وإلى أن يمتلك قوة التحمل، وقوة الإرادة، وقوة الدافع الإيماني، الذي يندفع معه في أداء مسؤولياته ومهامه في هذه الحياة، بروحٍ إيمانيةٍ عاليةٍ، وليس بضعف، نلحظ مثلاً في ظروف الحياة وواقع الحياة الكثير من الناس التزامهم ضعيف، اهتمامهم ضعيف، توجهاتهم العملية ضعيفة، ضعف ضعف في كل شيء، هذا يعالج هذه الحالة، يتخرَّج الإنسان وقد تعود وأصبح قوي الإرادة.

والصبر من أهم القيم الإيمانية؛ ولهذا يُشِيدُ الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” بالصابرين، ويحث على الصبر، وهو وسيلة مهمة على المستوى العملي، لإنجاز الأعمال المهمة، المسؤوليات الكبيرة، مواجهة التحديات في ظروف هذه الحياة؛ ولهذا يقول الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ}[البقرة: من الآية153]، (اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ) وسيلة تساعد الإنسان، تعينه في هذه الحياة على ادائه للأعمال العظيمة، على اهتمامه بالأمور المهمة، على تحمله للظروف والتحديات الصعبة… إلى غير ذلك، {وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ}، {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}، كم في القرآن الكريم من وعود للصابرين، {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ}.

الصبر قيمة إيمانية عظيمة، فهو مما نستفيده في شهر رمضان: أنه محطة تربوية، وتساعد على زكاء النفس، تلك الحالة من ضبط النفس، والسيطرة على أهوائها، ورغباتها، وشهواتها، والتحكم في الغرائز النفسية، هو أيضاً يفيد في تزكية النفس والسموِّ بها، والإحساس بالمعاني الإنسانية والقيمية، الإنسان يحس بإنسانيته، يبتعد- إلى حدٍ ما- عن الطبيعة الحيوانية والهمجية، وعن حالة الارتباط الشديد بالغرائز والتوجه لها في كل شيء، يرتقي على مستوى مشاعره الإنسانية.

فلذلك أتى هذا التوصيف له: ((وَهُوَ شَهْرُ الصَّبْرِ، وَإِنَّ الصَّبْرَ ثَوَابُهُ الجَنَّةَ))، أعظم ثواب، أعظم مكافأة، ((ثَوَابُهُ الجَنَّةَ)) هذا حافز كبير جداً لتصبر، يعني: لو كان مثلاً يقول لك: [اصبر يا أخي وبايجي لك قصر في مدينة كذا، أو يجي لك مبلغ كذا، أو جائزة معينة]، هنا يقول: ((ثَوَابُهُ الجَنَّةَ))، هذا حافز كبير جداً ومشجع ومغرٍ، الله يقدِّم لنا عروض عظيمة، مغرية، جذابة، مؤثرة، كيف لا نتفاعل، كيف لا نثق، كيف لا نقبل؟! هذا شيءٌ مهمٌ جداً.

ثم أيضاً مما يتميز به شهر رمضان، إلى جانب أنه محطة تربوية مهمة جداً، نتزكى فيها، تتزكى نفوسنا، نمتلك فيها قوة الإرادة، نتروَّض فيها على الصبر…إلخ. من أهم مزاياه: مضاعفة الأجر والثواب، هو موسم عظيم جداً لمضاعفة الأجر والثواب، وهذا ورد في النص، وأخذ مساحةً كبيرةً فيه، وهو من أهم ما نحتاج إليه: (الأجر، والثواب)، أن نتقرب إلى الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وأن نحظى بما وعد به، وأن ترتفع درجاتنا عند الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، هذا موسم- بالنسبة لشهر رمضان- هو موسم عظيم، يحظى الإنسان من خلاله، ويتحقق له من خلاله ما يمثل نقلات كبيرة جداً في واقع حياته، يعني: ما يساوي أكثر من سنوات طويلة من دون شهر رمضان، يعني: لو جينا نحسب سنوات من دون رمضان، عمر بأكمله لا تساوي ليلة القدر في رمضان، ما بالك بشهر رمضان مع ليلة القدر فيه.

فأتى في مسألة مضاعفة الأجر قوله: أن الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” ((جَعَلَ قِيَامَ لَيْلَةٍ مِنْهُ بِتَطوُّعِ صَلَاةٍ، كَمَنْ تَطَوَّعَ سَبْعِينَ لَيْلَةً فِيمَا سِوَاهُ مِنْ الشُّهُور))، هذا قيام ليلةٍ في تطوُّع صلاة، يعني: قارن بين سبعين ليلة، أن تقوم سبعين ليلة، ليس أمراً بسيطاً قيام سبعين ليلة، هذا تطوُّع صلاة فقط، يساوي سبعين ليلة فيما سواه من الشهور.

((جَعَلَ لِمَنْ تَطَوَّعَ فِيهِ بِخَصْلَةٍ مِنْ خِصَالِ الخَيرِ وَالبِرِّ كَأَجْرِ مَنْ أَدَّى فَرِيضةً مِنْ فَرَائِضِ اللَّهِ “عَزَّ وَجَلَّ” فِيمَا سِوَاه)) من الشهور، أجر الفرائض أجر عظيم جداً وكبير، يعني: الفارق بين أجر التطوع والفريضة فارق كبير، ففي شهر رمضان يصبح التطوُّع في أجره وفضله بمستوى أجر وفضل الفريضة في غير شهر رمضان، أجر كبير جداً ومضاعف.

ثم يقول: ((وَمَنْ أدَّى فَرِيضةً مِنْ فَرَائِضِ اللَّهِ “عَزَّ وَجَلَّ” فِيهِ، كَمَنْ أَدَّى سَبْعِينَ فَرِيضةً مِنْ فَرائِضِ اللَّهِ “عَزَّ وَجَلَّ” فِيمَا سِوَاهُ مِنْ الشُّهُور))، فالمضاعفة في شهر رمضان للأجر والثواب ترتقي إلى سبعين ضعفاً، يعني: نسبة ضخمة جداً، تجارة رابحة، موسم عظيم، موسم عظيم، الإنسان يمكن أن يحقق فيه نقلات كبيرة فيما يكتب له عند الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”.

أمَّا في ليلة القدر فهو يفوق كل تصوُّر، ما يمكن أن يتحقق للإنسان أكثر من عمر كامل فيها، مع شهر رمضان يجتمع أجر عظيم وفضل كبير جداً، هذا شيء مهم جداً.

نحن- أيها الإخوة- في هذه الحياة في حياة محدودة، مصيرنا الحتمي الذي لابدَّ منه: الانتقال إلى الدار الآخرة، الإنسان يعيش في هذه الحياة بأجل، وخلال هذه المدة التي يعيشها الكثير من الناس يكون مستهتراً، مهملاً، لا مبالياً، يضيع عمره، يضيع أوقاته، لا يدرك ولا يعي أهمية وقيمة الأعمال الصالحة، وأنه يرتبط بها نجاته، وفوزه، وفلاحه.

أول لحظة قد يتنبه فيها الإنسان لمدى خسارته، ومدى قيمة وقته وعمره وحياته، وأهمية الأعمال الصالحة: هي لحظة الموت، عندما ينتهي أجله، عندما يأتي موته، هي اللحظة التي يستفيق فيها الكثير من الناس، وللأسف استفاقة وانتباه في لحظة لم يعد لذلك أي قيمة من الناحية العملية، ولا يفيده بشيء.

القرآن الكريم يخبرنا عن هذه الحقيقة، يقول الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}[المؤمنون: 99-100]، الإنسان في لحظة الموت، في لحظة نهاية الأجل، نهاية الفرصة، أهم ما يدركه: أهمية الأعمال الصالحة، ويتمنى أن لو بالإمكان أن يُعطى شيئاً من الوقت، أن يُضاف له شيءٌ من الوقت؛ ليسخِّره كلَّه في الأعمال الصالحة، {لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ}.

ثم يوم القيامة، يوم القيامة عندما يبعث الإنسان ويُحشر، يدرك أن فوزه ونجاحه ونجاته مرتبطٌ بالعمل الصالح، ما الذي قدَّم، ما هي أعماله؟ هل امتثل أوامر الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، هل استقام وفق هدي الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”؟ أين هي أعمالك الصالحة؟ رصيدك من الأجر والأعمال الصالحة هو الذي يرتبط به نجاتك وفوزك، والإنسان حينها كذلك يشعر بفداحة الخسارة، حتى المجرمون، كبار المجرمين يوم القيامة كما يقول الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” عنهم في القرآن الكريم: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ}[السجدة: الآية12]، (نَاكِسُوا رُءُوسِهِمْ): في حالة من الحسرة، والندم، والخجل، والشعور العميق بالخسارة الرهيبة، مطلبهم واحد: هو الرجوع من أجل العمل الصالح.

وحتى في جهنم، أهمّ مطلب للإنسان: هو أن يخرج ليعمل عملاً صالحاً، {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا}، يعني: في جهنم، {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا}[فاطر: من الآية37].

العمل الصالح يجب أن ندرك أهميته وقيمته الآن في فرصة الحياة؛ لأنه لا فرصة غير فرصة الحياة، لا مجال عندما يأتي الموت، عندما ينتهي الأجل، لا مجال للعمل، ولا لفرصة إضافية، ولا في يوم القيامة، ولا والإنسان- والعياذ بالله- قد وصل إلى نار جهنم.

الله يقول في القرآن الكريم: {فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ}[القارعة: 6-7]، من يأتي يوم القيامة ومعه رصيده العظيم من الأعمال الصالحة: أطاع الله في هذه الحياة، استجاب لله، أقبل على الفرص التي هيأها الله له، الله هيأ لنا الفرص، أعطانا إغراءات كبيرة، وتسهيلات كبيرة، وفرصاً عظيمة، فإذا اغتنمها الإنسان؛ فأقبل يوم القيامة ومعه رصيد من العمل الصالح، { فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ}، أمَّن مستقبله، عيشتك، ألَا يهمك معيشتك في الآخرة، المعيشة الأبدية، {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ}: حياة طيبة، ومعيشة أنت راضٍ بها تمام الرضا، فيها ما يرضيك، فيها ما تتمناه، أطيب المُنا فيها، تعيش راضياً مرتاحاً، حتى عن جهدك في الحياة، وعن قيمة ما عملته في الحياة، وما حصلت عليه في المقابل، ما منحك الله إياه في المقابل.

{وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ}[القارعة: الآية8]، أقبل يوم القيامة مفلساً، ليس عنده أعمال صالحة، لم يغتنم فرصة هذه الحياة، أعرَض، وقد يكون سَخِر، وتجاهل، ولم يبالِ، {وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9) وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10) نَارٌ حَامِيَةٌ}[القارعة: 8-11]، مصيره الحتمي الهلاك، يهوي ويتردى ويهلك في نار جهنم، التي هي مصيره ومأواه، ويخسر للأبد.

رأس مالك لتنجو، لتفوز، لتسلم من عذاب الله يوم القيامة: هو العمل الصالح، والله يهيئ لك المواسم، يضاعف لك الأجور، يقدِّم لك العروض العظيمة، المؤثرة، المفيدة، النافعة لك، فكيف لا تُقبِل؟! هل تنتظر الموت؟! ما الذي تنتظره؟ لماذا تسوِّف؟ ماذا تنتظر؟ هل لتكون من المتحسرين، المتندمين، عند لحظة نهاية أجلهم، أو في ساحة القيامة؟ يجب أن يدرك الإنسان قيمة هذه الحياة، وأن يدرك قيمة العمل الصالح، وما هيأه الله له، هذا بالنسبة للآخرة.

في الدنيا نفسها، استقامتنا، وتحقيق التقوى، والاهتداء بهدى الله، يترتب عليه ما وعدنا الله به في هذه الدنيا: من نصر، من خير، من بركات، من تفريج هموم، من كشف كروب، من تحقيق آمال، من صلاح حال، من أشياء كثيرة جداً وعد الله بها في هذه الحياة، ونحن بحاجةٍ إلى ذلك.

من أهم الأعمال– إذا جئنا إلى الأعمال الصالحة- من أهم الأعمال في شهر رمضان، كما قال في النص في الحديث النبوي: ((وَهُوَ شَهْرُ المُوَاسَاةُ))، من أهم ما فيه من الأعمال الصالحة: المواساة والإحسان، المواساة والإحسان عملٌ عظيم، وأجره كبيرٌ عند الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وقيمته الإيمانية والإنسانية عالية جداً، {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}، {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ}[الرحمن: الآية60]، والأجر كبير في مسألة الإحسان، إلى الدرجة التي قال عنها: ((وَمَنْ فَطَّرَ فِيْهِ مُؤْمِناً صَائِماً كَانَ لَهُ عِنْدَ اللَّه “عَزَّ وَجَلَّ” بِذَلِكَ عِتقُ رَقَبَةٍ، وَمَغْفِرةٌ لِذنُوبِهِ فِيمَا مَضَى))، وهذا لفَتَ أنظارَ السامعين بشكل كبير، ((فَقِيلَ لَهُ: يَا رَسُوْلَ اللَّهِ لَيسَ كُلُّنَا يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يُفَطِّرَ صَائِماً، فَقَالَ: إِنْ اللَّهَ تَعَالَى كَرِيمٌ، يُعطِي هَذَا الثَوَابَ مَنْ لَا يَقِدِرُ إِلَّا عَلَى مَذْقَةٍ مِنْ لَبَنٍ يُفَطِّرُ بِهَا صَائِماً، أَوْ بِشَربَةٍ مِنْ مَاءٍ عَذْبٍ، أَوْ تُمَيرَاتٍ، لَا يَقِدِرُ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ ذَلِك)).

 الإحسان مهمٌ جداً، من الأعمال الصالحة التي لها وزن كبير، وأجر عظيم عند الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، ونتائجها في عاجل الدنيا وآجل الآخرة نتائج عظيمة ومهمة، الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” يجازي عباده المحسنين بخير الجزاء في الدنيا وفي الآخرة.

ظروف الناس في هذا الزمن تستدعي أيضاً الاهتمام بمسألة الإحسان، فئة الفقراء، والمعانين، والجائعين، والبائسين، فئة واسعة في المجتمع، تحتاج إلى لفتة نظر، إلى اهتمام، إلى تعاون.

نحن في العام الماضي أكدنا على أهمية التعاون في هذا الجانب، يعني: يمكن للإنسان أن يكون له اهتمامات شخصية في مسألة الإحسان والمواساة، ويمكن أن يكون له اهتمامات ضمن أنشطة جماعية، واهتمامات جماعية، وهذا شيء مهم؛ لأنه يتحقق من خلال التعاون: إنجاز أمور كبيرة، وتقديم مساعدات جيدة لكثير من الأُسَر المعانية، والتي تعيش الظروف الصعبة.

والإحسان كما هو عمل صالح، وأجر عظيم، وقيمة إنسانية، وإيمانية، وأخلاقية، له أهمية كبيرة جداً في الواقع: في تعزيز الروابط الاجتماعية، في إصلاح واقع المجتمع. وله أثر كبير على المستوى النفسي، وحتى في تزكية النفس، وفي الشعور بالإنسانية، وفي كسب رضا الله قبل كل شيء، وهذا من أهم الأعمال التي ينبغي التركيز عليها في شهر رمضان.

ثم يقول عنه: ((فَهُوَ شَهْرٌ أَوَلُهُ رَحَمْةٌ، وَأَوسَطُهُ مَغْفِرَةٌ، وَآخِرُهُ إِجَابَةٌ وَعِتْقٌ مِنْ النَّارِ))، موسم عظيم، إذا اهتم به الإنسان، فهو يتعرض لرحمة الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، والله يقدِّم ما فيه الرحمة لك، ما فيه الخير لك، ما تنال به رحمة الله، ما تنال به المغفرة من الله على ذنوبك، وهذا من أهم الطلبات للإنسان المؤمن، هو يسعى دائماً ويطلب من الله على الدوام أن يغفر له؛ لأنه لا شيء يشكل خطورة على الإنسان مثل ذنوبه، أخطر شيء على الإنسان هي ذنوب الإنسان، معاصيه، أكبر ما يسبب لك سخط الله، وعذاب الله، وكل ما يمكن أن يسبب لك ذلك: هو ذنوبك، الذنوب، أنت بحاجة إلى أن تنال المغفرة، وشهر رمضان موسم لنيل المغفرة، لمن يسعى لذلك.

((وَآخِرُهُ إِجَابَةٌ)) يعني: إجابة للدعاء،  عندما تهتم بشهر رمضان من بدايته، وتُقبِل فيه، ولا تضيعه، للأسف الكثير من الناس يضيعونه، يضيعون ليلهم ويضيعون نهاره، في الليل سهرات على المسلسلات أو في مجالس اللغو، وفي النهار إمَّا نوماً، وإمَّا ضياعاً بشكل آخر، فالإنسان عندما يضيعه، فهو يخسر خسارة كبيرة جداً، لكن إذا أقبل الإنسان فيه من بدايته، فهو يصل إلى هذه النتيجة المهمة في آخره: الإجابة للدعاء، وأن يفوز بالعتق من النار، وهذا مكسبٌ كبير، وأهم ما يهم الإنسان المؤمن: هو رضا الله، والسلامة من عذاب الله، وألَّا يكون مصيره المستقبلي في الآخرة الذي هو مصير أبدي: هو جهنم، هو النار والعياذ بالله، هذا أمر رهيب جداً، أمر رهيب وخطير للغاية، والله ينادي عباده المؤمنين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ}[التحريم: من الآية6].

من أهم طلبات الإنسان في الدعاء، هذا يلفت نظرنا إلى الدعاء: ((وَآخِرُهُ إِجَابَةٌ وَعِتْقٌ مِنْ النَّارِ))، هو: طلب المغفرة، وطلب النجاة من عذاب الله، وطلب رضا الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، من أهم ما يَنشُده الإنسان ويدعو به، والدعاء في شهر رمضان مهم جداً، من أهم الأعمال فيه، والاهتمامات فيه: العناية بالدعاء، العناية بالدعاء، أتى (في آيات الصيام في سورة البقرة) قول الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}[البقرة: الآية186]، كلمات كلها رحمة من الله، كلمات مؤثرة، معبرة، {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}.

فالإقبال فيه على الدعاء من أهم الأعمال ومن أهم ما يتم الدعاء فيه، ويركَّز عليه في الدعاء، هو:

  • طلب المغفرة.
  • والنجاة من عذاب الله.
  • والفوز برضوان الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”.
  • إضافةً إلى بقية الأمور.

((تَسْأَلُونَ اللَّهَ تَعَالَى فِيهِ حَوَائِجَكُمْ وَالجَنَّةَ، وَتَسْأَلُونَ اللَّهَ تَعَالَى العَافِيةَ، وَتَتَعوَّذُونَ بِهِ مِنْ النَّار))، الأدعية المهمة، ويأتي- إن شاء الله- الحديث عن الدعاء في المحاضرات الرمضانية، وأتى في المناسبات والأعوام الماضية الحثّ على هذا الجانب، والإنسان إذا أقبل على القرآن وعلى هدى الله هو يلحظ أهمية هذا الموضوع.

يكون من الأشياء التي يتهيأ الإنسان لها، ويبني على التركيز عليها إن شاء الله: الاهتمام بالدعاء، والتركيز على العتق من النار، وأن يُكتب لك في شهر رمضان أن تكون من العتقاء، من العتقاء من النار؛ لأن فيه يكتب الله عتقاء من النار، يعتقهم، والذين يعتقهم الله من النار في شهر رمضان يوفقهم بقية أعمارهم، وبقية أيام حياتهم، فيسلمون من المزالق التي تذهب بالإنسان إلى النار والعياذ بالله، والإنسان بحاجة إلى توفيق الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، هذه من الاهتمامات الكبيرة في شهر رمضان.

يبقى لنا أيضاً التذكير على أنه- بالنسبة لتفاضل الأعمال- إذا اجتمع للإنسان في شهر رمضان، اجتمع له في شهر رمضان أن يكون مرابطاً في سبيل الله، على أهمية الجهاد، وفضل الجهاد، وعظمة الجهاد، وأهمية المرابطة، التي أمر بها الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” عندما قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}[آل عمران: الآية200] ، يتضاعف الأجر أكثر وأكثر عند الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”؛ لأن شهر رمضان أيضاً من أهم ما فيه: مناسبات ذات صلة وثيقة بالجهاد في سبيل الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”:

  • فيه يوم الفرقان، اليوم الذي كان فارقاً في مصير الأمة ومصير البشرية، وابتنت عليه تحوُّلات ومتغيرات كبيرة جداً، يوم الفرقان: يوم بدر، يوم غزوة بدر، سمَّاه الله بيوم الفرقان في القرآن (في سوره الأنفال)؛ لما ترتب عليه ونتج عنه من متغيرات ذات أهمية كبيرة في واقع البشرية بشكلٍ عام، والمسلمين بشكلٍ خاص، فيه غزوة بدر وما نتج عنها.
  • وفيه يوم الفتح، فيه فتح مكة، الفتح أيضاً الذي كان له آثار ونتائج كبيرة جداً، وتحدَّث عنه القرآن الكريم (في سورة الفتح، وفي سورة النصر)، ودخل الناس بعده في دين الله أفواجاً، وكانت نتائجه كبيرة جداً.

فهو شهر فيه أبرز وأهم الأحداث التاريخية والجهادية، التي ابتنت عليها متغيرات كبيرة، وتحولات كبيرة جداً.

فيبقى التأكيد على أهمية الجهاد في سبيل الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، والمرابطة في سبيل الله، وأجرها العظيم، وفضلها الكبير جداً، ويمكن للإخوة المرابطين في الجبهات أن يكون عندهم اهتمام بتلاوة القرآن، بالإكثار من ذكر الله؛ لأن من أهم ما في الأعمال الصالحة: هو الإكثار من ذكر الله، بالتسبيح، بالاستغفار، بتلاوة القرآن، بمختلف الأذكار المشروعة، هي من الأعمال المهمة، والتي عليها أجرٌ عظيم، وفضلها كبير، وأثرها على المستوى النفسي عظيمٌ جداً.

 كنَّا في الأعوام الماضية نحث على أن يكون هناك نشاط في الأسبوع الأخير من شعبان للنظافة، طالما وشهر رمضان نظافة للنفوس، فالاستقبال له أيضاً بالنظافة في المدن، في الأحياء، في المناطق، يمكن التركيز على هذا الموضوع إذا تهيأت الظروف لذلك، نحن نحمد الله ونشكره على نعمة الغيث والأمطار في هذه الأيام، إذا تهيأت الفرصة للنظافة، فمهم العناية بالنظافة، ومزيد من الاهتمام بها، وإظهار الاهتمام بالاستقبال لشهر رمضان، إن استمرت الأمطار ولم يتهيأ ذلك، فـ قالوا في المثل: (خِيرة الاعذار المطر).

نَسْأَلُ اللَّهَ “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” أَنْ يُوَفِّقَنَا وَإِيَّاكُم لِمَا يُرضِيهِ عَنَّا، وَأَنْ يَرْحَمَ شُهَدَاءَنَا الأَبرَار، وَأَنْ يَشْفِيَ جَرْحَانَا، وَأَنْ يُفَرِّجَ عَنْ أَسْرَانَا، وَأَنْ يَنصُرنَا بِنَصْرِه، وَأَنْ يُبَلِّغَنَا شَهرَهُ الكَرِيم بِالخَيرِ وَالعَافِيَّة، وَالتَّوفِيق وَالهِدَاية وَالتَّقْوَى، وَأَنْ يُعِينَنَا جَمِعاً عَلَى قِامِهِ وَصِيامِهِ وَالتَقَرُّبِ إِلى اللَّه بِالأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ فِيه، إِنَّهُ سَمِيعُ الدُّعَاء.

وَالسَّــــلَامُ عَلَـيْكُمْ وَرَحْـمَــــةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتـــُه؛؛؛

قد يعجبك ايضا