الميقاتُ الزراعي للذرة الرفيعة: الأهميّةُ والحضورُ في الموروث الزراعي اليمني
||صحافة||
تعتبر الذرة الرفيعة من أهمِّ محاصيل الحبوب في بلاد السعيدة، وتتميَّزُ جميعُ أصنافها بثنائية الغرض: [غذاء -أعلاف]، وتحمُل الجفاف وَالحرارة الشديدة، وتنجح زراعتها في كُـلّ أنواع الأراضي التي بها درجة مناسبة من الخصوبة والرطوبة، وتقاوم الملوحة بشكل كبير، وتعد الذرة الرفيعة أول محاصيل الحبوب في اليمن؛ وَهذا ما يفسِّرُ اكتساب المزارعين القدامى خبرةً كافيةً في زراعتها أكثرَ من أي محصول آخر في عموم اليمن قبيل تراجع مساحة زراعتها وتدهورها خلال نصف قرن مضى، عَقِب هيمنة القمح المستورد على النمط الغذائي الوطني أَو تركيبة العديد من أنواع الطعام -سبق وشكلت الذرة الرفيعة عمادها الأَسَاسي-، وَأَيْـضاً نتيجة للمساحة وَالإنتاجية المحدودة للقمح المزروع يمنياً، وفي ظل هذه المتغيرات وغلاء سعرها افتقدتها المائدة اليمنية خَاصَّة في سائر المدن اليمنية، بل وَبعض مناطق الريف في عدد من المحافظات التي حولتها لمُجَـرّد علف أَو محصول أحادي الغرض..
وتزرع الذرة الرفيعة بشكل عام في اليمن كمحصول صيفي بين نهاية أبريل/نيسان حتى منتصف مايو في ظل الحرص على بذرها في الحقول ضمن ميقاتها الزراعي أَو ما يُسميه المزارعون في آنس بـ “الغونية” وَهي 13 يوماً تبدأ أول مايو/آيار، وَتزرع في خطوط أتلام تنقيطاً بعد المحراث البلدي أَو محراث الحراثة، حَيثُ يتسنى ذلك، بعد حرث الأرض أكثر من مرة لتجهيز مهد البذرة، وعادة ما كان الفلاحون يملؤون الحقولَ في أَيَّـام الغونية أَو الميقات الزراعي، بُعيد ترقب مغيبَ نجمة الثريا، خلال العشر الأواخر من أبريل/نيسان وَبشكل خاص في آخر ثلاثة أَيَّـام من نهاية الشهر نفسه، كعلامةٍ للانتشار في الحقول وَمباشرة التِلام وزراعتها كمحصول ثنائي الغرض وليس للعلف فقط، وقد حفظت الذاكرة الشعبيّة الكثير من الأهازيج والمغارد الشعبيّة لأرباب الأرض وزُراعها الجامعة بين الإرشاد إلى علامة الموعد والتوجيه والحث والحض على أهميّة السرعة في البذر دون تأخير في الموعد كما نجد في مَثَلٍ يتردَّدُ على ألسنة الفلاحين في اللواء الأخضر محافظة إب:
إذا غابت عشاء، اتْلِمْ حَيثُ تشاء.
المعنى واضح أن موعدَ البذر للذرة الرفيعة بعد مغيب نجمة الثريا وثمة في المغارد المروية شفهياً على ألسنة الفلاحين والرِعِية الكثير ولكن باختلاف بسيط بين ألفاظ ما يتردّد في آنِس وعنس، والبيضاء وصنعاء وريمة وحجّـة وبرط وصعدة، وفي ظل إجماع الكل على أن ميقات بذر الذرة الرفيعة في الصيف خاطف كلمح البصر وأن السعيد هو السبّاق لالتقاط الفرصة أَو كما في هذا المثل من صعدة:
الصيف صيفين، يا هَنا من صاده.
ومما سمعت وَوعيت سابقًا في مديرية المنار بآنس هذ المغرد:
الدهر كله مَتَالِمْ
غير الذرة ذي لها أوقات.
خِيفة فوات الميقات وتداعياته على الثمرة والمحصول واضحة وفي الأمثال الشعبيّة المنسوبة لمشاهيرها في اليمن الكثير مما يحث ويحرض على ضرورة التقاط الموعد للزراعة دون تأخير، يقول الحكيم الزراعي الحُميد بن منصور:
الحَبْ كله تنابيت
غير المواسم لها احلالْ.
بمعنى يمكن للمزارعين أن يبذروا أي نوع من الحبوب في الأرض إلا الذرة الرفيعة، لها وقتها المحدّد ويجب الحرص عليه، وفي كُـلّ المحاصيل يراعى أن تكون البذور منتخبة بالطرق التقليدية المعروفة للمزارعين، أو أن تكون من البذور المحسنة المعتمدة من الجهات الرسمية والمجربة من قبل المزارعين أنفسهم، إذ أن زراعة المحصول في أجيال متعاقبة يؤدي إلى بذور متدهورة وضعيفة الإنتاج، وهذا التحدي يستدعي تدخل المؤسّسات الزراعية ذات الصلة ويضعها أمام مسؤولية تجميع وتقييم الأصول الوراثية لمحصول الذرة الرفيعة، وفي هذا المحصول وغيره يجب أن تكون عملية بذر الأرض دقيقة ويتولاها خبير بكمية البذور لناحية أن الكثافة النباتية [عدد النباتات] في وحدة المساحة من العوامل المحدّدة للإنتاج.
وكما دلت الأمثال الشعبيّة على أهميّة موعد البذر وَحفظت الإرشاد، نجدها نقلت التوبيخ وَالتقريع لمن فاته بذر الأرض بالذرة الرفيعة في هذا التوقيت كما نُقل على ألسنة الفلاحين في غير منطقة.
أما حين يتأخر الغيث ولم ينزل في أبريل/ نيسان وَجاء موعد البذر للذرة الرفيعة دون أن تكون الأرض قد شربت وارتوت، لا يتأخر المزارعون عن موعد البذر، بل يحثون الخطى في حقولهم وهم يضرعون إلى الله بلسان الحال:
تَلَمْت مالي يابِسَاً بيابس
وقطرة الله ما عليها حَابِس.
وعادة ما يكون أهل الريف قبل ذلك قد استنزلوا الغيث بالُسقي والطواف حول الجزء الأكبر من أراضيهم الزراعية، وهم يردّدون تراتيل مختلفة أكثرها شهرة:
يا تواب تُب علينا وارحمنا وانظر إلينا يا الله
يا أرحم الراحمين ليس لنا ملجأ سواك، لا إله إلا الله
إله العباد عبدك العاصي دعاك مُقراً بالذنوب لقد أتاك
إلهي نسألك بالاسم الأعظم بجاه المصطفى فرَّجْ علينا.
وهكذا فاندفاعة الزُّراع لبذر الذري في أرض يابسة ضمن أنشطة متواصلة تُقر أن الزَّارع الله سبحانَه وَتعالى، جلّ جلالُه.
صحيفة المسيرة| عبد الحميد الغرباني