بشأن الانتقال إلى بديل عن الدولار الأميركي دولياً
إبراهيم علوش
الدولار الأميركي المتربع على رأس هرم المنظومة المالية الدولية اليوم، لو دامت لغيره لما آلت إليه. ساد الجنيه الإسترليني قبله خلال معظم القرن الـ 19 والنصف الأول من القرن الـ 20. وفي الربع الأخير من القرن الـ 19، كان 60% من التجارة الدولية يجري بالجنيه الإسترليني. وحتى بداية خمسينيات القرن الـ 20 كان 55% من احتياطيات البنوك المركزية عالمياً بالجنيه الإسترليني. وعندما تبوأ الدولار الأميركي مكانته عملةً أولى رسمياً، مع اتفاق بريتون وودز عام 1944، كان ثاني أكثر عملة استخداماً كاحتياطي في البنوك المركزية بفارقٍ كبيرٍ، أي أن عصر الدولار الأميركي لم يبدأ فعلياً إلا بعد أعوام من تغيّر ميزان القوى، اقتصادياً وعسكرياً، لمصلحة الولايات المتحدة الأميركية.
حلّ الإسترليني عملةً أولى بدوره محل الدولار الإسباني، أول عملة معتمدة دولياً كاحتياطي في العصر الحديث وأطولها عمراً، إذ امتد استخدامه منذ القرن الـ 16 حتى القرن الـ 19، ومن أقصى الشرق إلى أقصى الغرب. وظل الدولار الإسباني، أو “قطعة الريالات الثمانية”، Real de a ocho, Dólar بالإسبانية، أو Peso، اختصاراً لـ Peso Fuerte، أي البيزو القوي، أو Peso Duro، أي البيزو الصلب، بمعنى العملة الصعبة، معتمَداً في أغلبية القارة الأميركية والصين وجنوبي شرقي آسيا وكثيرٍ من أوروبا الغربية، حتى أواسط القرن الـ 19.
في الولايات المتحدة الأميركية ذاتها ظل الدولار الإسباني معتمَداً حتى عام 1857، عندما أصدر الكونغرس الأميركي قانوناً يمنع تداول العملات الأجنبية محلياً. وعلى رغم ذلك، فإنه ظل متداولاً في الريف الأميركي عقوداً بعدها.
صعد الدولار الإسباني على كتف مسروقات مناجم فضة القارة الأميركية. وكان دولاراً مصنوعاً من الفضة في البداية، قبل أن ينخفض منسوب الفضة فيه مع أفول إسبانيا وفقدانها بالتدريج مستعمراتها، ولا سيما الأميركية.
يُذكر أن الدولار الأميركي والدولار الكندي والبيزو المكسيكي وعملاتٍ أخرى صُمِّمت على نمط الدولار الإسباني. وكان الدولار الأميركي فضياً أساساً، ووُضع ليوازي الدولار أو البيزو الإسباني. حتى وسم الدولار الأميركي اليوم، ($)، مأخوذٌ من البيزو الإسباني القديم، إذ إن الدولار الأميركي الأول، منذ أول عملة أميركية عام 1792، لم توجد فيه مثل تلك الإشارة، حتى ظهرت أول مرة عام 1869. وما برحت عشرات الدول تستخدم تلك الإشارة رمزاً لعملاتها، وخصوصاً في أميركا اللاتينية، فالدولار الأميركي لا يحتكرها.
دخل الجنيه الإسترليني بقوة على خط منافسة الدولار الإسباني بموازاة دخول بريطانيا على خط منافسة إسبانيا في السيادة العالمية. وبعد تبني بريطانيا المقياس الذهبي، وإنتاجها ليرة ذهبيةً، عيارها 22 قيراطاً ووزنها 7.32 غرامات، عام 1817، بدأ الذهب يحل محل الفضة، وبريطانيا تحلّ محل إسبانيا، والجنيه محل البيزو، وكانت بريطانيا قبلها مباشرةً تعتمد مقياساً مزدوجاً، ذهبياً – فضياً، لعملتها.
بعد أن استنفذ البنك المركزي البريطاني احتياطياته من الذهب في الحربين العالميتين الأولى والثانية، حلّ الدولار الأميركي محل الجنيه الإسترليني، لكنّ الأخير لم ينتهِ بصفته عملةً صعبةً، وإنما تراجعت منزلته بضع درجات، بمقدار تراجع منزلة بريطانيا في الاقتصاد الدولي.
أما عندما حل الجنيه محل البيزو، فإن الأخير لم يبقَ عملةً صعبةً لأن مكانة إسبانيا في الاقتصاد الدولي تدهورت بشدة، في حين لم تتدهور مكانة بريطانيا بالدرجة ذاتها دولياً بعد حلول الولايات المتحدة محلها عقب الحرب العالمية الثانية.
كذلك نافس الـ”غيلدار” الهولندي الدولار الإسباني في القرنين الـ 17 والـ 18 في السيادة المالية الدولية، ونافسه الفرنك الفرنسي والجنيه الإسترليني، لكن الدولار الإسباني بقي سيداً، حتى تغلب عليه الأخير. وبقي الـ”غيلدار” ردحاً من الزمن ثاني أهم عملة دولياً، كما اليورو بالنسبة إلى الدولار الأميركي اليوم. وفي النصف الأول من القرن الـ 20، نافس الفرنك الفرنسي والدويتش مارك الألماني الجنيه الإسترليني، حتى انتهت الحرب العالمية الأولى، فحلّ الدولار الأميركي محل الدويتش مارك.
سيطرة عملة من العملات انعكاس لميزان القوى اقتصادياً
العبرة مما سبق أن هيمنة عملة من العملات على الكرة الأرضية يرتبط بصورةٍ أو بأخرى بميزان القوى اقتصادياً ومالياً بين الجهات التي تصدرها. فإذا اضطرب ذلك الميزان، وراح اقتصاد بلدٍ ما يصغر حجماً مقارنةً بغيره من الاقتصادات، وبدأت أدوات سيطرته على المنظومة المالية الدولية تختلّ، ليتزعزع أساس قوته العسكرية، وبالتالي قدرته على فرض إرادته خارج حدوده، ويبدأ حجر الرحى يطحن هيمنة عملته رويداً رويداً لهشيم.
لكنّ مثل ذلك التحول في هرم منظومة العملات دولياً لا يحدث بصورةٍ انقلابية مفاجئة عادةً كحمم بركانٍ، بل يستغرق ردحاً طويلاً من الزمن، إلّا في حالات الحروب الكبرى، وما يعادلها، بحيث يمكن للطرف المهزوم أن يخسر تفوقه عملته في قطيعةٍ ماليةٍ دوليةٍ مع الماضي، كما خسر الدويتش مارك الألماني مكانته بعد الحرب العالمية الأولى.
على رغم ذلك، فإن الدويتش مارك استعاد مكانته بالتدريج في النصف الثاني من القرن الـ 20، لأن حامله، الاقتصاد الألماني، صعد حجماً ومرتبةً مقارنةً بغيره. وما برح ذلك الاقتصاد اليوم الرافعة الأهم لليورو، يليه الاقتصاد الفرنسي ثم الاقتصاد الإيطالي.
العبرة الثانية هي أن السيطرة المطلقة لعملةٍ من العملات لم تتحقق لأيٍ منها يوماً، وكانت تجاورها وتناطحها عملاتٍ أخرى دوماً تمثل مراكز قوى اقتصادية ومالية أخرى مناوئة أو منافسة. وإنّ ما يبدو كصولجان عملة صعبة أولى، يدين لها الزمان المالي الدولي بالسمع والطاعة، تمسك به وتفرضه في الواقع موازين قوى متبدلة، ولا تقوى تلك العملة على المحافظة على مركزها الأول إلّا بمقدار ما يقوى من يصدرونها على منع تحول موازين القوى ضدهم.
على هامش الصراع بشأن أولوية الدولار
حتى في مؤتمر بريتون وودز عام 1944، بعد أن بات واضحاً أن الولايات المتحدة الأميركية تحكم ميزان القوى دولياً، وأن هيمنة الجنيه الإسترليني إلى زوال، حاول ممثل بريطانيا، الاقتصادي المعروف جون مينارد كينز Keynes، أن يمرر فكرةَ اعتمادِ صيغة تبادل أو عملةٍ ما فوق قومية supra-national currency أساساً لمنظومة بريتون وودز، على أن تستند تلك العملة، المسماة Bancor، إلى احتياطيات العملة الصعبة لدى بنوك العالم المركزية (التي كان أكثر من نصفها من الجنيه الإسترليني، كما رأينا أعلاه). لكن أحد أبرز المفاوضين الأميركيين في المؤتمر، د. هاري دكستر وايت، وكان موظفاً كبيراً في وزارة الخزانة الأميركية، تصدى بقوة لكينز، مسقطاً اقتراحه لإنشاء عملةٍ دولية بديلة عن الدولار.
يُشار، على الهامش، إلى أن هاري ديكستر وايت، كان يهودياً، وكان يمسك بوزارة المالية الأميركية فعلياً. وكشف جواسيس سوفيات منشقون للولايات المتحدة الأميركية أنه كان مخترقاً للاستخبارات السوفياتية، وأنه هرّب إليها وثائق مهمة من وزارته بانتظام، أو هكذا اتُّهم. وكان من الاتهامات التي وجهت ضده أيضاً تهريب قالب المارك الألماني الذي تطبعه قوات الحلفاء المحتلة لألمانيا الغربية آنذاك، فطبعه السوفيات بكميات وافرة. وقيل وقتها إن الولايات المتحدة تغاضت عن الأمر حتى لا ينفرط عقد التحالف مع السوفيات، والأرجح أنها لم تمانع إغراق ألمانيا الخارجة للتو من الحرب بالتضخم، أو لم تمانع الحركة الصهيونية العالمية على الأقل إغراق ألمانيا بالتضخم بعد دمار الحرب.
وفي 13/8/1948، أي بعد أربعة أعوام وشهرٍ واحدٍ من انعقاد مؤتمر بريتون وودز، جلس د. وايت أمام “لجنة النشاطات غير الأميركية” في الكونغرس متهَماً بالعمالة للسوفيات. وما إن انتهى من الإدلاء بشهادته، التي نفى فيها كل التهم الموجهة إليه، حتى تعرّض لأزمة قلبية. وبعدها بيومين فقط، وبينما كان في منزله، ألمّت به أزمة قلبية ثانية أودت بحياته عن عمرٍ يبلغ 55 عاماً. وأظهرت التحاليل لاحقاً أن دمه كان يحتوي على كمياتٍ وافرةٍ من مركب digoxin، المستخدم لعلاج الأمراض القلبية، بحسب صحيفة “شيكاغو تريبيون” في 29/11/1949، في صفحتها الأولى، والتي حاولت أن توحي في أن د. وايت مات انتحاراً.
حدث ذلك في عز المرحلة المكارثية McCarthyism في الولايات المتحدة، بين نهاية الأربعينيات وبداية الخمسينيات، نسبةً إلى عضو مجلس الشيوخ الأميركي جوزيف مكارثي، الذي شن حملة لـ”تطهير الشيوعيين والاشتراكيين وجواسيس السوفيات” من المؤسسات الأميركية كافةً، آخذاً في طريقه كثيرين ممن ثبتت براءتهم من التهم الموجهة إليهم لاحقاً، فربما انتحر د. وايت فعلاً.
كما أنها كانت مرحلة جي إدغار هوفر Hoover، فرعون وكالة المباحث الفيدرالية، FBI، المتجبر، منذ تأسيسها رسمياً عام 1935 حتى وفاته عام 1972، أي 37 عاماً. واشتُهر هوفر باتباع سياسة القبضة الحديدية، وبامتلاك نفوذٍ سياسيٍ كبير، وبإساءة استخدام سلطاته. ولم تظهر ملفاته إلا بعد وفاته، إذ لم يجرؤ أحدٌ على أن يقترب منه بسبب امتلاكه ملفات سرية ابتزّ بها كبار السياسيين. كما أنه وضع قوائم سوداء على مستوىً قومي جرى اضطهاد الموجودة أسماؤهم فيها. وتبيّن أيضاً أنه عمل على تدمير حياة المعارضين السياسيين بصورةٍ منهجية، بينما مات بعضهم في “ظروفٍ غامضة”، وأنه زرع أجهزة تنصت، وراقب الهواتف والمراسلات، وارتكب عمليات سطو، واخترق حرمة المنازل وأماكن العمل من دون تفويضٍ قضائي. لذلك، ربما يكون د. وايت قضى اغتيالاً.
في الحالتين، رُبّ قائل: وما علاقة ذلك بالانتقال إلى بديلٍ عن الدولار دولياً؟ والردّ هو: إذا كانت تلك طريقة التعامل مع من دافع بحزمٍ عن هيمنة الدولار الأميركي في وجه كينز، بسبب شكٍّ في ولائه، إذ تعرض على الأقل لعملية “إحراق سمعة” على الملأ أمام “لجنة النشاطات غير الأميركية” في الكونغرس، من دون محاكمة، فكيف ستكون طريقة التعاطي أميركياً مع من يسعون لإطاحة الدولار؟
بعيداً عن تقويض كل ادعاءات النظام الأميركي عن نفسه بشأن “الحرية” و”الشفافية” وغيرهما، فإن السطور أعلاه تهدف أيضاً إلى إظهار حقيقة يكرّسها سجل ذلك النظام بوضوح: عندما يتعلق الأمر بالدفاع عن سلطته ومصالحه، فإنه لا يتورع عن شيء، ولا سيما خارجياً.
هيمنة الدولار الأميركي تعني هيمنة رأس المال المالي الأميركي
أمّا بعد، فإن الاتحاد السوفياتي السابق شارك في مؤتمر بريتون وودز عام 1944، لكنه رفض التوقيع على وثيقته النهائية التي جعلت الدولار الأميركي نائباً عن الذهب في التعاملات الدولية، مؤكداً أن المؤسسات التي أنشأها المؤتمر، مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، ليست إلا “فروعاً لوول ستريت”، نسبةً إلى ذلك الشارع في مدينة نيويورك الذي تقع فيه كبرى البورصات والمصارف والمؤسسات المالية، أي القلب النابض لرأس المال المالي الأميركي، وبالتالي الدولي. ولم تنضم روسيا إلى صندوق النقد والبنك الدوليين إلا عام 1992، في ظل رئاسة بوريس يلتسين، وها هي أموالها في الاثنين مجمدة الآن.
لم يكن وصف السوفيات لمؤسستي صندوق النقد الدولي والبنك الدولي بأنهما فروعٌ لوول ستريت “دعاية أيديولوجية” بالمناسبة، إذ إن الاحتياطي الفيدرالي، معادل المصرف المركزي الأميركي، يتباين عن كل البنوك المركزية في العالم في أنه يمثل القطاع المصرفي الخاص حرفياً.
يتألف الاحتياطي الفيدرالي من 12 مصرفاً إقليمياً تتوزع في الولايات المتحدة جغرافياً، ويدير كل واحد من تلك المصارف الـ 12 مجلس مدراء من 9 أشخاص، ترشح 3 منهم المصارف الخاصة، وتنتخب 3 آخرين فيه، أي أن 6 من 9 مدراء يأتون من المصارف الخاصة، ثم يرشح مجلس المدراء رئيساً له على أن يقر تعيينه مجلس حكام الاحتياطي الفيدرالي.
لكن مجلس الحكام نفسه تنحدر أغلبية أعضائه الـ 7 من القطاع المالي والمصرفي الخاص. على سبيل المثال، يَرئِس الاحتياطيَّ الفيدرالي منذ عام 2018 د. جيروم باول، وهو مصرفي ومستثمر كبير وأكاديمي لامع. دخل د. باول حقل الخدمة العامة موقتاً عام 1992 بصفة موظفٍ كبيرٍ في وزارة المالية في عهد جورج بوش الأب، ليعود إلى عالم المال والأعمال بعد 20 عاماً. استقطبه الرئيس باراك أوباما بعدها ليصبح عضواً في مجلس حكام الاحتياطي الفيدرالي عام 2012. وقس على ذلك…
والذي لا يأتي من القطاع الخاص الكبير يذهب إليه بعد انتهاء خدمته كجائزة على “حسن سلوكه”، إن عرف كيف يُرضي القطاع الخاص الكبير. يبقى الباب الدوار إذاً بين القطاعين العام والخاص الكبير من أهم ما يربط بينهما في الولايات المتحدة على مستوى كبار الموظفين والمسؤولين، ونتحدث هنا بالتحديد عن العلاقة بين القطاع المالي والمصرفي من جهة، ووزارة الخزانة والمصرف المركزي من جهةٍ أخرى، الأمر الذي يعني بالضرورة تضارباً في المصالح ونقصاً في الشفافية وباباً من أبواب الفساد المحتملة.
باختصار، يتحكم القطاع المصرفي والمالي الأميركي الخاص في وزارة الخزانة والاحتياطي الفيدرالي. وتتحكم الولايات المتحدة الأميركية بدورها في صندوق النقد الدولي والبنك الدولي عبر حصتها التصويتية الوازنة فيهما طبعاً. لكنّ من يمثل الولايات المتحدة الأميركية فيهما هو الاحتياطي الفيدرالي، أو وزارة الخزانة، أو كبار موظفيهما، أي رأس المال المالي الأميركي.
لذلك، عندما يجري الحديث عن مؤسسة “إجماع واشنطن” مثلاً، والتي تضم وزارة الخزانة الأميركية وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي، فإننا نتحدث عن نخبة واحدة في الجوهر مع امتداداتها الدولية، مع العلم بأن وزارة الخزانة الأميركية، لا مصرف الاحتياطي الفيدرالي، هي من ينفذ قرارات طباعة النقود الورقية والمعدنية الأميركية (ومن هنا قصة تسريب د. وايت لقالب طباعة الدويتش مارك الألماني إلى السوفيات بعد الحرب العالمية الثانية).
د. مايكل باتيس برفسور أميركي معروف مُعادٍ للقوى الصاعدة، وكتب دراسة في موقع مؤسسة “كارنيغي” في 12/4/2022 يسفّه فيها ما يَعُدّه مزاعم تحول العالم بعيداً عن الدولار، محاولاً دحضها أكاديمياً وإحباطها معنوياً. وهذه الخلفية عنه مهمة للمقتطف الذي سنأخذه منه استناداً إلى ما كتبه في تلك الدراسة. يقول د. باتيس: “هذا يعني، بين أمورٍ أخرى، أنه ليست الولايات المتحدة ككل هي التي تستفيد من الهيمنة العالمية للدولار الأميركي، بل بعض المكونات داخلها فحسب. يشمل المستفيدون مجموعتين رئيستين قويتين سياسياً: وول ستريت ومؤسسات الشؤون الخارجية والدفاع. على النقيض من ذلك، فإن العمال والمزارعين والمنتجين والشركات الصغيرة الأميركية هم من يدفعون ما يرقى إلى تكلفة اقتصادية كبيرة”.
بغضّ النظر عن مدى استفادة عامة الأميركيين، خارج وول ستريت ومؤسسات الشؤون الخارجية والعسكرية، من الهيمنة العالمية للدولار الأميركي، لا شك في أن تسليط الضوء على “وول ستريت” وأدوات تنفيذ السياسة الأميركية في الخارج، من مدنيين وعسكريين، باعتبارها المستفيد الأكبر من تلك الهيمنة، هي شهادةٌ وازنة من شخصية لا يمكن اعتبار صاحبها يسارياً أو مناهضاً للإمبريالية.
دعوات روسية وصينية ودولية إلى إصلاح المنظومة المالية الدولية بالحسنى
على رغم ذلك، فإن الروس والصينيين بنوا كل استراتيجيتهم على الانخراط في المنظومة الأميركية و”إصلاحها” من داخلها. بدأ ذلك منذ عام 2009، عشية الأزمة المالية الدولية، عندما أصدرت روسيا ورقة في 16/3/2009 تطالب فيها قمة مجموعة الـ 20، التي انعقدت في شهر نيسان/أبريل من ذلك العام، بإجراء دراسات لتوسعة نطاق العملات المستخدمة احتياطياً دولياً، وتعزيز نمو مراكز مالية رئيسة في الأقاليم. كما دعت تلك الدراسة إلى اعتماد “حقوق السحب الخاصة” SDR’s التي يصدرها صندوق النقد الدولي، والتي لا يوجد لها معادل ورقي، والتي تُستخدم ضمن نطاقات محددة، عملة احتياطٍ دولية ما فوق قومية Supra-reserve currency.
تبع ذلك بأسبوع إعلانٌ من حاكم مصرف الشعب الصيني، أي المصرف المركزي في الصين، يدعو إلى إبدال الدولار الأميركي بسلة من العملات، داعياً إلى أن تكون “حقوق السحب الخاصة”، التي يصدرها صندوق النقد الدولي، عملة الاحتياط دولياً. ويذكر أن “حقوق السحب الخاصة” تستند إلى خمس عملات أساساً: الدولار الأميركي بنسبة 43.38%، اليورو بنسبة 29.31%، اليوان الصيني بنسبة 12.28%، الين الياباني بنسبة 7.59%، والجنيه الإسترليني بنسبة 7.44%.
رفض المقترحَ الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما، ووزير الخزانة وحاكم الاحتياطي الفيدرالي في عهده، جملة وتفصيلاً.
توالت دعوات بعد ذلك من مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (أونكتاد) من أجل اعتماد “حقوق السحب الخاصة” عملة احتياطٍ دولية، ومن ديمتري مدفيديف في قمة مجموعة الثماني G8، في تموز/يوليو 2009، ومن غيرهما، من أجل إبدال الدولار الأميركي بسلةٍ من العملات، لكنّ ذلك يمسّ سطوة الولايات المتحدة الأميركية وقدرتها على الإنفاق والعيش في مستوى أعلى كثيراً مما تسمح به مواردها. لذلك، فإن تلك الدعوات، بالحسنى، لم يكن متوقَّعاً أن تُنتج شيئاً. وللحديث تتمّة…
المصدر: الميادين