هل وصلت العلاقات الصينية الأميركية إلى طريق مسدود؟
|| صحافة ||
تشهد العلاقات الصينية الأميركية مزيداً من التوتر والتصعيد وصل إلى حد انعدام التواصل بين البلدين، وخصوصاً على الصعيدين العسكري والأمني، وهو ما جعل الرئيس الأميركي جو بايدن خلال قمة السبع التي عقدت في هيروشيما قبل أيام يدعو بكين إلى تفعيل الخط الساخن بين البلدين، نزعاً لفتيل أي مواجهة محتملة بينهما.
كذلك، سعى وزير الدفاع الأميركي لتوجيه دعوة للقاء نظيره الصيني على هامش منتدى “شانغريلا” للحوار الأمني الذي عقد في سنغافورة قبل أيام، لكن طلبه قوبل بالرفض أيضاً.
وعلى الرغم من ذلك، حاول وزير الدفاع الأميركي “كسر الجليد” بينه وبين نظيره الصيني، فبادر إلى التوجه إلى طاولته ومصافحته خلال افتتاح القمة، لكن هذه المصافحة لن تكون كافية لإعادة العلاقات بين دولتين بينهما الكثير من المشكلات، وتسعى كل منهما لإزاحة الأخرى عبر ما سمي باللغة الدبلوماسية “تنافساً”، فيما هو في الواقع ليس سوى صراع.
الرفض الصيني هذا عائد إلى أسباب عدة، منها العقوبات الأميركية التي فرضت على وزير الدفاع الصيني عام 2018 وعدد من المسؤولين والشركات الصينية، والتي تجاوزت 1200 شخص وكيان. لذا، اشترطت بكين لإجراء اللقاء أن تقوم الولايات المتحدة برفع العقوبات عن وزير الدفاع الصيني، انسجاماً مع المواثيق والأعراف الدولية.
النفاق الأميركي وصل إلى حد فرض عقوبات على وزير الدفاع الصيني والسعي لعقد اجتماع معه، وهو ما يضعنا أمام تساؤل عن جدوى تلك العقوبات ومدى فاعليتها؛ فالمسؤول الصيني يسافر حيث يشاء، ويلتقي من يشاء، وهو ما يثبت عدم جدوى تلك العقوبات ويحتم على واشنطن البحث عن طرق صحيحة لإقامة حوار متكافئ بين البلدين.
يبدو أن السعي الأميركي للقاء بين الوزيرين جاء على خلفية حدثين أمنيين خطرين كادا يشعلان حرباً في منطق بحر الصين الجنوبي، إذ قامت إحدى السفن الصينية بالإبحار المتعرج نحو إحدى البوارج الأميركية في المنطقة، كما قامت مقاتلة صينية بالاقتراب “بشكل غير مبرر” من إحدى الطائرات الأميركية في المنطقة، على حد زعم واشنطن.
مثل تلك الأعمال قد يؤدي إلى اشتعال المواجهة بين البلدين في أي لحظة، في ظل غياب التواصل والتنسيق الأمني بينهما. كما أن الرفض الصيني جاء على خلفية عدد من الرسائل السياسية السلبية التي صدرت عن واشنطن مؤخراً، وآخرها ما صدر عن اجتماع قمة الدول السبع في هيروشيما؛ إذ وجهت الدول المجتمعة مجموعة من المطالب لبكين، وفي مقدمتها عدم تهديد الأمن والاستقرار في تايوان، وعدم “اضطهاد المسلمين الإيغور”، على حد زعمها، وتعزيز “الديمقراطية” في هونغ كونغ، وسوى ذلك من المطالب التي تعتبرها بكين تدخلاً في شؤونها الداخلية، وهو ما ترفضه بشدة، وترفض حتى الحوار بشأنه.
لذا، احتجت بكين على البيان الختامي، وأشارت وزارة الخارجية الصينية إلى أن مجموعة السبع “تواصل التلاعب بالقضايا المتعلقة بالصين، وتسعى لتشويه سمعة بكين ومهاجمتها والتدخل الصارخ في سياساتها الداخلية”، وأضافت: “على دول مجموعة السبع أن تتوقف عن صب الزيت على النار، وأن تتخذ إجراءات حقيقية للحد من التصعيد في المنطقة”.
وقد جرى الحديث عن إمكانية افتتاح مكتب للناتو في اليابان، ودعوة طوكيو إلى حضور القمة المقبلة للناتو في لتوانيا، وهو ما أثار حفيظة بكين وعزّز مخاوفها مما يسمى “الناتو الآسيوي”، إضافة إلى المناورات العسكرية الأميركية المشتركة مع دول المنطقة، التي باتت توضح سعي واشنطن لنسج طوق من التحالفات العسكرية في منطقة بحر الصين الجنوبي لتطويق بكين ومحاصرتها.
كذلك، أعلنت مجموعة الدول السبع، وبتحريض من الولايات المتحدة، سعيها لتقليل الاعتماد على الصين، رغم حاجة العديد من الدول، وخصوصاً الدول الأوروبية، للبضائع والأسواق الصينية.
وكانت العلاقات بين البلدين قد شهدت نوعاً من التوتر على خلفية قيام الولايات المتحدة بإسقاط المنطاد الصيني، وهو ما اعتبرته بكين تصعيداً غير مبرر. وفي حينها، جرى تأجيل الزيارة المقررة لوزير الخارجية الأميركي بلينكن إلى الصين على خلفية قضية المنطاد.
واليوم، يجري الحديث عن مطالبة بكين باستعادة حطام المنطاد، وهو ما يعد بمنزلة اعتذار من الولايات المتحدة التي ما زالت ترفض ذلك. المطالب الأميركية من بكين كثيرة ويمكن إجمالها بثلاثة أمور (الحرب في أوكرانيا والبرنامج النووي لكوريا الشمالية والعلاقات الثنائية بين البلدين والقضايا المختلف عليها).
على صعيد الحرب في أوكرانيا، تسعى الولايات المتحدة لجعل بكين تضغط على موسكو للانسحاب من الأراضي الأوكرانية، وإعلان إدانتها الغزو الروسي بشكل صريح، وهو ما رفضته بكين منذ البداية.
أما بالنسبة إلى كوريا الشمالية، فهي الدولة الأكثر غموضاً بالنسبة إلى الغرب، إذ تفتقد الدول الغربية التواصل مع بيونغ يانغ إلا عبر بكين، وخصوصاً أن التجارب الصاروخية الأخيرة تثير قلق كوريا الجنوبية واليابان. أما القضايا المختلف عليها بين البلدين، فهي كثيرة ومتنوعة، سياسية واقتصادية وأمنية، ويبدو أن الكثير منها يصعب حله ما لم تُبنَ الثقة بين الطرفين.
خيارات بكين لمواجهة الاستفزازات الأميركية
في ظل التدخل الأميركي في شؤون المنطقة، ووجود قواعد عسكرية أميركية في كل من اليابان وكوريا الجنوبية، والتعاون العسكري الأميركي مع تايوان والفلبين، والتحالفات الأميركية مع كل من أستراليا والهند وبريطانيا وغيرها من الدول، ونتيجة للتفوق الأميركي على الصين في مجال القوة البحرية، يبدو أن منطقة بحر الصين الجنوبي، وكذلك منطقة المحيطين الهندي والهادئ، باتتا عرضة للإغلاق في أي مواجهة مقبلة بين الصين والولايات المتحدة، وهو ما جعل بكين تفكر في الامتداد براً في الطرف المقابل لذلك نحو كل من موسكو وأفغانستان والباكستان، وصولاً إلى إيران التي تربطها شراكة استراتيجية معها.
لذا، وسعت علاقاتها مع أفغانستان، وأعلنت سعيها لضم أفغانستان إلى مبادرة “الحزام والطريق”. وقد تحدث وزير الدفاع الصيني في كلمته في مؤتمر شانغريلا عن أن بكين تسعى إلى إعادة الاستقرار إلى أفغانستان.
وكذلك، تسعى بكين إلى ملء الفراغ الاستراتيجي في منطقة آسيا الوسطى، التي تشكل امتداداً مهماً لها، في ظل انشغال موسكو في حربها في أوكرانيا، وبالتالي كان لزاماً عليها ملء الفراغ في “الحديقة الخلفية لروسيا”.
وترى الصين ضرورة عدم تجاهل التحديات الأمنية في منطقتي آسيا والمحيطين الهندي والهادئ، وضرورة تخلي الولايات المتحدة عن عقلية الحرب الباردة. تلك العقلية التي كرست في حينه سباق التسلح هي ذاتها التي تنذر اليوم بسباق تسلح نووي في المنطقة، في ظل سعي كل من كوريا الجنوبية واليابان لامتلاك السلاح النووي، وخصوصاً بعد تزويد الولايات المتحدة أوكرانيا بالغواصات النووية.
ولطالما أكدت بكين أنها تسعى إلى الحوار، وليس المواجهة، لكنها تستعد لتلك المواجهة، ولا تخفي استعدادها لاستخدام القوة فيما لو فشلت في استعادة تايوان بالطرق الأخرى، لكنها، وفي الوقت نفسه، تسعى بما أوتيت من قوة لتأجيل أي مواجه عسكرية قد تضطر إليها، انطلاقاً من أن عامل الوقت لا يزال يشكل “مكسباً صلباً” بالنسبة إلى بكين، بمعنى أنه كلما تم تأجيل المواجهة، قلت خسائرها المحتملة.
وترى بكين أن التكتلات والتحالفات التي تسعى الولايات المتحدة لنسجها حول الصين، لن تساهم إلا في زعزعة الأمن والاستقرار في المنطقة، وخصوصاً أن المنطقة لم تشهد هذا النوع من سباق التسلح إلا بعد تدخل الولايات المتحدة فيها.
كما تسعى بكين لحل الخلافات الحدودية القائمة بينها وبين دول المنطقة، وقد تم حل جميع المشكلات الحدودية البرية مع دول الجوار، باستثناء منطقة وحيدة بينها وبين الهند. وتبدو بكين ملتزمة بحل المشكلات الحدودية البحرية، وبشكل سلمي، مع دول المنطقة، لتفويت الفرصة على الولايات المتحدة.
ويبدو أن بناء نموذج تنموي في أفغانستان بات هدفاً لبكين، ليكون شاهداً أمام العالم على الفرق بين التدخل الأميركي في شؤون أفغانستان الذي خلف الفوضى والدمار والإرهاب، والنموذج الصيني القائم على الشراكة والتعاون والمصلحة المشتركة.
وتبقى قضية تايوان شأناً صينياً داخلياً، وهي القضية التي لا يمكن المساومة عليها، فهي لم تعد قضية الحكومة الصينية أو الحزب الشيوعي الصيني أو الرئيس شي جين بينغ فقط، بل باتت أيضاً قضية الأمة الصينية التي لا يمكن التنازل عنها.
من هنا، فإن بكين تحذر “القوى الكبرى” من مغبة التدخل في شؤون تايوان وتشجيع القوى الانفصالية فيها وتزويدها بأنواع مختلفة من الأسلحة، وخصوصاً الطائرات المسيرة التي باتت تشكل تهديداً على الوجود الصيني في المنطقة.
وانطلاقاً من مسؤوليتها إزاء دول العالم، فإن بكين تدرك أن أي مواجهة بينها وبين الولايات المتحدة سيكون لها نتائج كارثية على المنطقة والعالم كله، وخصوصاً أن دول العالم وشعوبها لم تعد قادرة على تحمل تبعات حرب أخرى بعد الحرب في أوكرانيا التي تسببت بها الولايات المتحدة، وهي ترى أن العالم يتسع للمنافسة بينها وبين الولايات المتحدة أو أي دولة أخرى تمتلك الرؤية الاستراتيجية للعبور بشعبها نحو المستقبل.