ميدان الحياة فيه ” نظام التدافع ” كما يقول الله: {وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ}
النبي “صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَـيْهِ وَعَلَى آلِه” تحرك، لم يكن بالإمكان أن يكتفي بالدعاء، فيقول: [اللهم عليك بهم، اللهم دمرهم وزلزل الأرض تحت أقدامهم واخسف بهم الأرض، اللهم أهلكهم ولا ننشغل بهم أبداً، واكفنا هم حتى لا ننزعج بهم على الإطلاق ولا نحتاج إلى أن ندخل معهم في أي مشكلة]. |لا| اليوم أليس الكثير من المنتسبين للإسلام، من المتدينين، يرون أنه بالإمكان الاكتفاء بالدعاء، لا يمكن الاكتفاء بالدعاء، الدعاء يفيد عندما يكون من موقع المسؤولية وفي إطار المسؤولية، تقول: {رَبَّـنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً} هذا دعاء يرتبط بالمسؤولية؛ لأنه ليس دعاء من يريد أن لا يعمل، إنه دعاء من يعمل ويستمد من الله، أن يمده الصبر، لكي يعمل المزيد، هنا الفارق، {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا}[البقرة الآية: 250]، دعاء من يريد أن يكون في الميدان، وليس دعاء الذي لا يريد أن يتحرك في الميدان، ثم يأتي فقط ليدعو على العدو بالهلاك، والزوال، والفناء، والنهاية الحتمية العاجلة المبكرة، دون أي اصطدام بالعدو، ولا مواجهة أي مشاكل ولا عناء. |لا| {ثَبِّتْ أَقْدَامَنَا} دعاء من يريد أن ينزل إلى الميدان، {وَانصُرْنَا} دعاء من يريد أن يتحرك، نصرة من موقع الحدث، من موقع المسؤولية، نصرة من يتحرك في الموقف (من له موقف).
النبي “صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَـيْهِ وَعَلَى آلِه” لم يكن مثلاً: لا من خلال منزلته الرفيعة يمكن أن يكتفي بالدعاء، ولا من خلال ما هو عليه من مبادئ عظيمة، وقيم راقية، وأخلاقيات عالية (أكمل البشر أخلاقاً، وأرقى الناس قيماً )، رجل القيم، رجل المبادئ، رجل الأخلاق، رجل الخير، رجل الرحمة، قال الله عنه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء الآية: 107]، رجل الفضائل، كل ما هو عليه من الفضائل، وهو على أرقى مستوى منها، وفي المحل الأعلى والمنزل الأعلى منها، من القيم، من الأخلاق الرفيعة والعالية والعظيمة، {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم الآية: 4]، من الحكمة، رجلٌ نستطيع القول بكل اطمئنان أنه لم يصل من كل بني آدم إلى مرتبته في الحكمة بشر.
أيها الإخوة، لا أخلاقياته العالية، ولا حكمته العظيمة وحسن تصرفه، ولا مكانته الإيمانية على النحو الذي يمكن معه التفادي للمشكلة: ألا يدخل في صراع، ألا يكون له مشكلة مع الآخرين، ألا يكون له خصوم، ألا يكون له أعداء.. |لا| مثلاً البعض يقولون (أو يتصورون)، كثيرٌ من الناس غير الواقعيين، يعني للأسف: لا نظرتهم نظرة واقعية، ولا نظرتهم نظرة تستند إلى مبادئ، ولا إلى قيم، ولا إلى دين، ولا إلى هدى، ولا إلى كتابٍ منير، ليس لها مستند أبداً، [كلام فاضي، كلام فارغ] كلام تبريري، كلام المتنصلين والمتهربين من المسؤولية، وحقيقة الأمر: أمرٌ آخر.
هؤلاء الفئة من الناس يتصورون أنه بالإمكان أن نمتلك من الحكمة ما ندفع به ونتفادى به كل الصراعات، وكل المشاكل، وكل التحديات، وكل الأخطار، وكل الخصومات، يعني نمتلك من الحكمة مقداراً، إذا امتلكناه والتزمنا به، ما يكون لنا مشكلة مع أي أحد في الدنيا، ولا خصومة مع أي أحد في الدنيا، ولا أحد يتعرض لنا بسوءٍ أبدا، ولا أحد يطالنا بمكروهٍ نهائياً، فقط إجراءات حكيمة معينة، تصرفات وسياسات معينة، فإذا بك تصبح آمناً مطمئناً، لن يكون لك مشكلة مع أي أحد على الإطلاق، ولن يتآمر عليك أحد، ولن يتكلم معك أحد، ولن يسيء إليك أحد، ولن… ما شاء الله يعني تعيشُ واقع الجنة في الدنيا! {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلَا تَأْثِيماً * إِلَّا قِيلاً سَلَاماً سَلَاماً} [الواقعة الآية: 25-26]، هذا واقع الجنة، هذا واقع الجنة، هذا الواقع ليس واقع هذه الأرض، ليس واقع هذا العالم.
فلنفهم، لا مثاليتك ولا أخلاقك العالية والرفيعة، ولا حكمتك وإدراكك، ولا… كل هذه العناوين لا يمكن أن تفيدك في هذا العالم، في هذه الدنيا، على هذا الكوكب الذي هو الأرض، لتتفادى أي مشاكل، أي صراعات، أي عداوات، أي أخطار… |لا| المسألة ليست كذلك، بل إن من القيم، من الأخلاق، من المبادئ العظيمة ما سيدخلك- أصلاً- سيدخلك في كثير من العداوات، من المشاكل، من الصراعات.
ميدان الحياة هذه: هو ميدان مسؤولية، وهذه الأرض، هذا العالم فيه- أصلاً- الأشرار، وفيه الأخيار، وفيه النزاعات، وفيه الصراعات، وفيه العداوات، وفيه سنة إلهية تحكم الواقع البشري حتى لا يصل إلى النهاية، لا ينهار الواقع البشري، لا يغرق نهائياً تحت سطوة الظلم والطغيان والجبروت، وحتى لا يغيب العدل والحق من الساحة البشرية نهائياً، نظام: اسمه نظام التدافع، الله يقول في كتابه الكريم: {وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ} بماذا؟ هل بأحداث كونية وملائكة مخصصين لذلك ينزلون هم دائماً ليتولوا العملية بديلاً عن الآخرين، بديلاً عن الآخرين!. |لا| {بِبَعْضٍ} {وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ} [البقرة الآية: 251]، لوصلت الأمور من السوء إلى حد فساد الأرض وفساد الحياة بكلها، لكن هذا النظام الإلهي {دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ}، {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ} [الفرقان الآية: 20] {ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ} [محمد الآية: 4].
فإذًا هذه سنة إلهية، وهذا نظام إلهي لا محيص عنه، ولو حاول البعض أن يشطبه لا ينشطب، أن يلغيه لا يلغى، تأتي الأحداث تفرض فرضاً على الناس أن يتحركوا، حتى في كثيرٍ من الشعوب، وفي كثيرٍ من البلدان كان خيارهم الأول، وفي البداية، خيار عدم المواجهة، حصل هذا لدى كثير من الشعوب، لدى كثير من الأمم، لدى كثير من الأقوام أن يكون قرارهم [لا مواجهة، ولا صراع، والرضا بالواقع، والإذعان والتسليم للأمر الواقع]، وتستمر الأحداث، تأتي الكثير من المشاكل، تتفاقم الأخطار، تصل الظروف من نتيجة الأوجاع والآلام والمظالم إلى خلق قناعة تامة أنه لابد من التحرك، لابد من المواجهة، لابد من الموقف، ثم يتحركون، استقرئوا التاريخ في الماضي والحاضر، هذه هي النتيجة، يصلون في النهاية إلى قناعة تامة، لكن- أحياناً- بعد وجع شديد، بعد آلام كبيرة، بعد مآسٍ كثيرة، ويترتب، مثلاً: على التقصير والتأخير في اتخاذ القرار أعباء كبيرة، بمعنى: لو كان هناك قرار في مرحلة متقدمة؛ لكان بالإمكان تفادي كثيرٍ من الأمور، مثلاً: في الواقع الفلسطيني لو امتلك الجيل الماضي من شعب فلسطين، ومن حوله الأمة مساندة وداعمة، الإرادة اليوم التي لدى الحركات الفلسطينية المجاهدة، واتخذ القرار نفسه، وتحرك بالمقدار نفسه؛ لكان بالإمكان دفع خطر اليهود في مراحل لم يصل واقع اليهود (الصهاينة) في فلسطين إلى ما هو عليه اليوم، لم يكن لديهم ما يمتلكونه اليوم من: [قوة، وإمكانات، وقدرات، وتثبيت لوجودهم على الأرض، وترسيخ لقواعدهم على الأرض، ووو…الخ].
المسألة- أحياناً- تكون نتيجة للتأخر في اتخاذ قرارات كهذه ومواقف كهذه، بناءً على نظرة غبية، بناءً على فهم مغلوط يُحَمِّل الأمة الكثير والكثير من الأعباء، ثم يجعل كلفة الموقف فيما بعد كلفةً عالية، وكلفةً باهظة، وكلفة كبيرة جدًّا جدًّا؛ فتحتاج بعض الشعوب وبعض البلدان إلى مئات الآلاف في تضحياتها.
فإذًا، من أهم الدروس على الإطلاق، والتي نحتاج إليها في هذه المرحلة: كيف يتحقق الحق؟ كيف يدفع الشر؟ كيف بالإمكان إقامة العدل؟ إذا عندك في هذه الحياة مشروع عدل، مشروع حق، مشروع خير، هل سينزل إلى الساحة، ويلقى الاستجابة، وبكل رحابة صدر، ثم لا يواجه الأخطار ولا التحديات؟ |لا| يأتي نبي الله محمد “صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَـيْهِ وَعَلَى آلِه” خاتم النبيين رحمة للعالمين بمشروع حق في مواجهة خرافة، مشروع عدل في مواجهة ظلم، مشروع- كذلك- خير في مواجهة شر، وهكذا… ويتحرك بطريقة راقية وعظيمة داعياً إلى الله، يمتلك الحرص العظيم على هداية البشرية، يمتلك القدرة العالية في تقديم هذا المشروع إلى الناس بطريقة مقنعة جدًّا، يتحرك الكثير من الطغاة والمجرمين؛ فيقومون بمواجهته بكل الأساليب وبكل الوسائل وصولاً إلى المواجهة العسكرية، ويتحركون عسكرياً، ويسعون إلى قتله وإلى قتل كل أنصاره.
الله أكبر
المــوت لأمــريكــا
المــوت لإســـرائيل
اللــعنة على اليـهود
النصر للإسلام
السيد عبدالملك بدر الدين الحوثي
المحاضرة الرمضانية الحادية عشرة (غزوة بدر الدرس2) 1438هـ