من التحمل إلى المبادرة.. كيف تعاظم انتصار تموز 2006؟
لا تكشف الوقائع الميدانية والتصريحات السياسية وحدها التغيرات الكبيرة في معادلة الصراع مع الاحتلال، كذلك ما تتضمنه الدراسات الغربية والإسرائيلية. في النظرة المتفحصة لطبيعة الأهداف الإسرائيلية المشروحة في هذه الدراسات، نلاحظ انخفاضاً حاداً في سقف الأهداف الإسرائيلية من تبشير الجمهور الاستيطاني بالقضاء على المقاومة في لبنان بداية الحرب، وصولاً إلى محاولات تغيير معادلة الردع في الحد الأدنى اليوم. في مقابل ذلك، انتقل حزب الله في معادلة الردع نفسها من التحمل والصمود إلى امتلاك زمام المبادرة.
بعد حرب تموز 2006م، نشر الكاتب الأميركي أنتوني كوردزمان دراسة مطوّلة بعنوان “دروس الحرب بين إسرائيل وحزب الله”. وكان قد كتب هذه الدراسة استناداً إلى خبرته الأكاديمية الطويلة، وزيارة فريق البحث إلى “إسرائيل” أثناء الحرب، وإجراء عدد كبير من المقابلات مع مسؤولين وضباط وعسكريين في “جيش” الاحتلال.
عمل هذا الكاتب مستشاراً ومديراً لعدد من البرامج السياسية والأمنية، وهو أستاذ سابق لدراسات الأمن القومي في جامعة جورج تاون. اهتمّ بتأليف عدد من الدراسات المتعلقة بالحروب الأميركية والإسرائيلية، والبحث عن توصيات تفيد السياسات الأميركية والإسرائيلية، ومن ذلك ما أصدره عن الحرب على العراق عام 2003م، ودورس الحروب الحديثة، وتحليل استراتيجي مفصل لمنطقة المحيط الهندي، ودراسات متعلقة بالتوازنات العسكرية في الشرق الأوسط.
في دراسته المتعلقة بحرب تموز، يعرض 3 أهداف عملت عليها “إسرائيل”، وهي الأهداف التي استقرت عليها القيادة الإسرائيلية بعد حال من التخبط حول كيفية إدارة الحرب، ومتى يجب أن تنتهي، وماذا يجب أن تحقق.
ويناقش كوردزمان مستويات النجاح في تحقيقها وآفاق تطويرها في المستقبل:
- تدمير قوة حزب الله العسكرية، وتحديداً قبل وصول إيران إلى عتبة القوة النووية. (لنتذكر أن هذا الهدف وضع عام 2006م). هذا التدمير يتضمن في الدرجة الأولى تدمير ترسانة الصواريخ متوسطة وبعيدة المدى، والكشف عن الأسلحة الأكثر خطورة لدى حزب الله وتدميرها أيضاً.
- إعادة المصداقية إلى قوة الردع الإسرائيلية، تحديداً بعد تحرير الجنوب في لبنان عام 2000م، والانسحاب أحادي الجانب من غزة عام 2005م، والتورط في دوّامة انتفاضة الأقصى ابتداء من عام 2000م. الهدف المطلوب هو التخلص من صورة “إسرائيل الضعيفة”.
- إضعاف حزب الله داخل الدولة اللبنانية، وإن أمكن أن يكون الإضعاف سياسياً، فيكون ذلك انتصاراً كبيراً.
مرّ الآن على دراسة كوردزمان 16 عاماً، وهو الزمن الكافي لتقييم استنتاجاته حينها، وهو وقت كافٍ أيضاً لقراءة مسار الأهداف الإسرائيلية من وضع أهداف مبالغة ومفرطة في طموحها إلى أهداف متواضعة.
ترسانة حزب الله تتعاظم.. وإيران قادرة نووياً
في 16 آب/أغسطس بعد انتهاء الحرب، قال رئيس أركان “الجيش” الإسرائيلي إن 90% من منصات الصواريخ بعيدة المدى التي يمتلكها حزب الله دمرت. يصف كوردزمان هذا التقدير بالمفرط، نظراً إلى أن المقاومة اللبنانية كانت تضع منصات مزيفة وتحمل بصمات حرارية كأفخاخ، وطبعاً لأن هذه المنصات ببساطة استمرت في العمل إلى اليوم الأخير من الحرب. يقول الكاتب: “لم يزعم أحد في إسرائيل أن الاستخبارات الإسرائيلية لديها جرد دقيق لمقتنيات حزب الله قبل الحرب وبعدها لأنواع محددة من السلاح، ومن ذلك طبعاً مضادات الدبابات”.
فشلت “إسرائيل” في ثنائية “الكشف والتدمير”، أي أنها لم تتمكن من تدمير الترسانة العسكرية للحزب، ولم تتمكن من الكشف أو على الأقل وضع تقدير تقريبي لمستوى هذه الترسانة. يقول خبراء الاستخبارات الإسرائيلية: “ليس أمامنا سوى التخمين”. تعاظم العمى الاستخباراتي الإسرائيلي منذ لحظة تموز إلى يومنا هذا، وتحولت عملية “الوقوف على إجر ونص” إلى نمط يعيشه الإسرائيلي، ليس في انتظار أي رد أو تهديد من المقاومة فحسب، إنما أيضاً كهاجس بحثٍ عن معلومة، تحديداً حجم الترسانة.
تقول الدراسة إنَّ “إسرائيل فشلت عبر هذه الحرب في نزع سلاح حزب الله، ولكن قد يستطيع مزيج من القوة الدولية والجيش اللبناني نزعه”. لم تصدق نبوءة كورذزمان، ولم تجد توصياته قدماً لها في الواقع المعيش، فالجيش اللبناني الذي كان جزءاً من معادلة الجيش والشعب والمقاومة في طرد الإرهاب من لبنان، يدرك أهمية هذه العلاقة في ميادين مختلفة، من ردع الاحتلال إلى محاربة الإرهاب.
لم تيأس “إسرائيل” من محاولات تضخيم شعار “نزع سلاح المقاومة”. وعندما لم تعمل فكرة ثنائية القوة الدولية والجيش ضد سلاح المقاومة، تم نقل الشعار إلى الساحات والتظاهرات والندوات عبر فرق مدربة في تنظيم الحشود من منظمات “غير حكومية” فشلت بدورها في استفزاز الحزب الذي يسجل له الاحتواء وضبط النفس وتفويت كل الفرص على الأطراف الدولية وعلى “إسرائيل” في إشعال فتنة داخلية.
إذا كانت “إسرائيل” قد فكرت عام 2006م في تدمير القوة العسكرية لحزب الله، وتحديداً قبل أن تتحول إيران إلى قوة نووية، فهي اليوم في نقطة متخلفة على خط الزمن عن هذا الطموح؛ فالقوة العسكرية لحزب الله تعاظمت، وإيران باتت قادرة أكثر في إطار مشروعها النووي السلمي، وتفاوضها على هذا الملف يتم عبر مسارات دولية فقدت “إسرائيل” أي تأثير في مجرياتها.
صورة “إسرائيل الضعيفة”؟
لم تبحث “إسرائيل” في حرب تموز عن أهداف ميدانية عملية فحسب، إنما بحثت كذلك عن أهداف تتعلق بالصورة واستمرار سلطة الوهم؛ فبعد تحرير الجنوب عام 2000م والانسحاب أحادي الجانب من غزة عام 2005م، أرادت إعادتنا إلى مربع زمني سابق، وهي صورة “إسرائيل” التي لا تخسر الحرب: 1948م، 1967م، واجتياح لبنان 1982م، وأرادت لكل ذلك أن يتحقق بـ”تمرين خاطف” عام 2006م.
“إسرائيل” التي فقدت جزءاً كبيراً من صورتها القتالية، وجدت نفسها في الميدان غير جاهزة للحروب البرية – الجوية، وكانت حرب تموز بمنزلة جهاز الكشف المبكر عن هذا الضعف، فبعد تكسير الصورة في مجزرة الدبابات وإعطاب الآليات وقتل الجنود، وجدت نفسها بعد ذلك عاجزة أيضاً عن اقتحام غزة، وعاجزة كذلك عن اقتحام مخيم جنين المكبّل تماماً ببنود أوسلو. كل ذلك يعني ببساطة مساراً طويلاً كان لحرب تموز فضل في تعزيزه.
إلى جانب العجز البري، تدخل على الخط صورة “العجز البحري”، فـ”إسرائيل” التي ارتاحت من عبء المواجهات البحرية بعد تحييد البحرية المصرية القوية من معادلة الصراع، وجدت نفسها في مواجهة مسيّرات أطلقها حزب الله تهدد نشاطها في حقل كاريش، ووجدت نفسها أيضاً مضطرة إلى الاستجابة لشروط اللعبة التي فرضها حزب الله والتكيف معها وعدم إهمالها. وكما انكشفت صورة العجز البري من لبنان، لننتظر ونرَ نتائج العجز البحري، وتحديداً في ميدان المنافسة على البحر الأحمر.
كانت “إسرائيل” مرتاحة نسبياً قبل بداية حرب تموز. وبحسب تعبير الشهيد قاسم سليماني، كانت ترتكز على وجود 150 ألف جندي أميركي في المنطقة، ولكن كيف لها أن تبحث عن صورة جديدة بشروط جديدة تتمثل في الانسحاب الأميركي التدريجي من المنطقة للتركيز على الباسيفيك وحدود روسيا؟
3 صور مكسورة عن حزب الله
3 صور حاولت “إسرائيل” تكريسها عن حزب الله في إطار تحقيق هدف الإضعاف السياسي:
- صورة أولى: الحرب حدثت بسبب خطف الجنديين فقط، وهو ما جلب المتاعب للبنان: أغلب الدراسات الاستراتيجية تتعاطى مع الهجوم الإسرائيلي بدوافع استراتيجية، ولا يمكن اختصاره في إطار رد الفعل.
- صورة ثانية: الانتصار في المواجهة سينعكس كغرور داخلي للحزب في لبنان: تدرك قيادة حزب الله أن الانجرار إلى أي استفزاز داخل لبنان هو مشروع إسرائيلي بالأساس، وليس أدل على مستوى ضبط النفس والتواضع لمصلحة الداخل من التعامل مع أحداث الطيونة.
- صورة ثالثة: “مقاومة أكثر فقر أكثر”: عندما تعرّض لبنان لأزمة الطاقة، كانت المقاومة هي أوسع نافذة للدعم والنجاة.
في حرب الصورة، خسرت “إسرائيل” على جبهتين؛ الأولى في الصور الثلاث المكسورة التي حاولت تشكيلها عن حزب الله، والثانية في مشهد الضربات الجوية الذي مارسته ضد لبنان عام 2006م، والذي لم يفشل في ترميم صورتها فحسب، إنما ساهم أيضاً في زيادة عدد المتطوعين في المقاومة، ووسّع حالة الشخصيات السياسية والأحزاب المستعدة للانفتاح على حزب الله في المنطقة العربية، ولم يكن آخرهم حمدين صباحي، القومي العربي المعروف، الذي ترشح إلى الانتخابات الرئاسية في مصر.
منذ لحظة تموز، حاولت “إسرائيل” نسج صورة محددة عن حزب الله، وسعت لاستبدالها بصورة “نهج الاعتدال العربي”. انتهت الحرب، وخاض الحزب بعدها مواجهة حرب كونية ضد سوريا، وخرج منها منتصراً إلى جانب الجيش العربي السوري، وخاضت فلسطين معركة سيف القدس ووحدة الساحات وبأس الأحرار، واشتعلت الضفة، وتصاعدت العمليات الفدائية. كل ذلك وصورة المقاومة تبرق أكثر، ولم يعد لفكرة “الاعتدال” إلا الصورة الخافتة، تماماً كما هي صورة الردع الإسرائيلي.
نصر تموز تعاظم، ببساطة لأن الأهداف الإسرائيلية التي نقرأها في الدراسات الغربية والإسرائيلية أصبحت أكثر تواضعاً وأقل مبالغة، من الأهداف الخائبة التي عرضها كوردزمان إلى تساؤل أورنا مزراحي ويورام شويتزر في مركز دراسات “الأمني القومي” الإسرائيلي: “كيف يمكن أن تتصرف إسرائيل لتقوية ردعها المتأكل على طول الحدود مع لبنان”؟.
المصدر: الميادين