لماذا تنكرت قريش للرسالة الإلهية؟
إذا أتينا لدراسة واقع مجتمع قريش، ما هو المانع له عن استقبال هذه الرسالة التي هي رسالة عظيمة، ورسالة هدى، ورسالة حق، مع أنهم كانوا يتمنون أن يأتي منهم رسول، وأن يأتي فيهم نبي، وأن يُبعث فيهم نذير، وكانوا أيضاً يتمنون ويزعمون لو أنَّ عندهم {ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ}، أنهم كما يزعمون لكانوا {عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ}، فلماذا كانت ردة الفعل من جانب الكثير منهم سلبية؟ {فَكَفَرُوا بِهِ}، {مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا (42) اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ}،
ما هي العوامل التي تؤثِّر على بعض المجتمعات فتحول بينها وبين القبول بالحق، وبين الإيمان بالحق، والاهتداء بهدى الله “سُبْحَـانَهُ وَتَعَالَى”؟
رسالة الله في أصلها رسالة جذَّابة وعظيمة، مبادئها مبادئ عظيمة، والحق فيها واضح، والقيم والأخلاق التي تدعو إليها هي منسجمة مع الفطرة البشرية، دين الله هو دين الفطرة، {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا}[الروم: من الآية30]، ما الذي يؤثِّر على بعض المجتمعات فتتخذ المواقف السلبية التي تصل أحياناً ليس فقط إلى مستوى التنكر والنفور من تلك المبادئ والقيم الإلهية، والابتعاد عن الرسالة الإلهية، والتنصل عن النهوض بهذا الشرف العظيم، إنما إلى مستوى المحاربة لهذه الرسالة الإلهية، والسعي إلى القضاء على كلِّ من يحمل هذه الرسالة ويدعو إليها.
هناك مجموعة من العوامل في مقدِّمتها ثلاثة عوامل كانت بارزة إلى حدٍ كبير:
العامل الأول في تلك البيئة هو: الارتباط بالملأ المستكبر، الذي له دوافعه في الكفر بهذه الرسالة، والتصدي لهذه الرسالة الإلهية، ولهذا عندما قال الله “سُبْحَـانَهُ وَتَعَالَى”: {مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا (42) اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ}، الذين استكبروا هم الملأ في المقدِّمة،
الملأ: البعض من القيادات السلطوية التي تتمتع بالمال والسلطة والنفوذ بين أوساط المجتمع، ورأت في الرسالة الإلهية أنها تؤثِّر على هذا النفوذ، لماذا تؤثِّر على هذا النفوذ؟ لأنه نفوذ استغلالي قائم على الظلم، على الطغيان، على الاستعباد، على الإذلال، على الممارسات الإجرامية؛ وبالتالي يتعارض بشكلٍ واضحٍ وصريح مع رسالة الله “سُبْحَـانَهُ وَتَعَالَى” التي تحرر الإنسان، والتي تحمي هذا الإنسان من الاستعباد والاستغلال، والتي تبني المجتمع المسلم ليكون مجتمعاً حراً عزيزاً كريماً، والتي تبني واقع هذا المجتمع على أساسٍ من العدل، الرسالة الإلهية بمبادئها العظيمة وقيمها وأخلاقها المهمة، يرى فيها السلطويون المستكبرون مشكلة؛ فيتحركون للتصدي لها، والمحاربة لها.
عندما نتأمل مثلاً في واقع النبي “صلوات الله عليه وعلى آله” ما قبل البعثة بالرسالة والصدع بها، هناك نقطة من أهم النقاط التي يجب أن نستوعبها جيداً، رسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله” كان موحِّداً لله، كان يدين بالتوحيد، كان ابراهيمياً؛ وبالتالي لم يكن يشترك مع تلك البيئة وذلك المجتمع في عبادة الأصنام، والملأ في ذلك المجتمع والمجتمع بشكلٍ عام يعرفون هذه الحقيقة: أنَّ رسول الله هو من الموحِّدين لله، وهو لا يدين بالشرك كما هو حال الآخرين.
رسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله” قبل البعثة بالرسالة، منذ نشأته، منذ طفولته، ثم النشأة في مراحل الشباب، وصولاً إلى البعثة بالرسالة الإلهية والصدع بها، كان أيضاً ملتزماً ومستقيماً على مكارم الأخلاق، وكان معروفاً بتميزه في ذلك، فكانت أخلاقه هي مكارم الأخلاق، وكان مستقيماً وطاهراً وزكياً، ومبتعداً عن الرذائل والمفاسد، معروفاً أيضاً بالعفة، معروفاً بالأمانة، معروفاً بالصدق، فهو كان موحِّداً لله “سُبْحَـانَهُ وَتَعَالَى” وكان أيضاً على المستوى الروحي له عبادته والتي كثيرٌ منها هي حالة التفكر، وكانت له مواسم معينة يعتزل فيها للعبادة لله “سُبْحَـانَهُ وَتَعَالَى” فهو معروف في أوساط المجتمع بكل ذلك، وكل ذلك لم يكن سبباً لمشكلةٍ له مع قومه، يعني: لم ينزعجوا منه ويحاربوه بسبب كل هذا: بسبب أنه من الموحِّدين لله، أو بسبب أنه يتفرغ للعبادة لله “سُبْحَـانَهُ وَتَعَالَى” أو بسبب أنه يلتزم بمكارم الأخلاق، ومعروفاً بمكارم الأخلاق، ويتخلق بمكارم الأخلاق، وأنه يختلف عن ذلك المجتمع فيما هو عليه ذلك المجتمع من ممارسات وانحرافات وفساد، ولا يشاركهم تلك الخرافات وتلك الممارسات والسلوكيات السلبية، يختلف عنهم في كل ذلك، لم يكن هذا- في نفسه- يسبب مشكلةً للنبي “صلوات الله عليه وعلى آله” مع قومه، ويدخله معهم في صراع شديد، لكن عندما بعث بالرسالة الإلهية حصلت المشكلة مع الملأ منهم، ومع الكثير من أتباع أولئك الملأ الذين ارتبطوا بهم وتأثَّروا بهم، لماذا؟
هذه مسألة تفيدنا- أيها الإخوة والأخوات- حتى الآن في نظرتنا إلى الإسلام، في نظرتنا إلى الرسالة الإلهية كيف هي؛ لأن البعض من المحرِّفين والمنحرفين يحاولون أن يقزِّموا الرسالة الإلهية، وأن يفرِّغوها من محتواها المهم، ومن لُبِّها الحقيقي كمشروع إلهي يحرر الإنسان، يبني الحياة على أساس منهج الله “سُبْحَـانَهُ وَتَعَالَى” يحاولون أن يبعدوا عن هذه الرسالة تلك الأسس المهمة والعظيمة والرئيسية التي يرون فيها مشكلة مع المستكبرين في كل زمن، ثم يحاولون أن يقدِّموا شكلاً آخر للرسالة الإلهية وللإسلام، وكأنها مجرد طقوس عبادية، وكأن الإسلام أيضاً مجموعة من الأخلاق الطيِّبة التي يلتزم بها الإنسان كسلوك، هذا جزء من الإسلام، جزء من الدين الإلهي، جزء من الرسالة الإلهية، لكنه ليس كل الإسلام، ليس كل الرسالة الإلهية، مع الجانب الروحي مع العبادات الروحية إذا فصل هذا وذاك عن جوهر هذه الرسالة كمنهج للحياة، إذا فصل عن جانب العدل في هذه الرسالة، عن المبادئ التي تحرر الإنسان من العبودية للطواغيت، عن المبادئ التي تحمي هذا الإنسان من استغلال المستكبرين والظالمين والمتسلطين؛ تصبح تلك الطقوس وتلك الأخلاقيات مفصولةً عن تأثيرها الفعلي في واقع هذه الحياة، غير مجدية في واقع هذه الحياة، ذات تأثير محدود وبسيط جدًّا في واقع هذه الحياة، ولذلك كان بالإمكان أن يتأقلم المشركون في مكة مع النبي “صلوات الله عليه وعلى آله” في حالة أن كان اهتمامه على ما كان عليه ما قبل البعثة بالرسالة الإلهية، ينحصر في طقوس عبادية معينة، ويستمر في برنامجه: يخلوا في غار حراء للتعبد والتفرغ والتفكر، ويتنسك لله “سُبْحَـانَهُ وَتَعَالَى” ويختلف معهم في مسألة الشرك والتوحيد، ويتميَّز عنهم في أخلاقه الكريمة، كانت مسألة يمكن أن يتحمَّلوها، ولكن البعثة بالرسالة الإلهية بمبادئها العظيمة، بجوهرها ولُبِّها الرئيسي كان بالنسبة لهم مزعجاً جدًّا، فلم يتحملوا ذلك أبداً.
الله أكبر
الموت لأمريكا
الموت لإسرائيل
اللعنة على اليهود
النصر للإسلام
السيد عبدالملك بدر الدين الحوثي
المحاضرة الثانية من محاضرات الهجرية النبوية 1441 هـ