ذكرى الهجرة النبوية المباركة ..  محطة لاستلهام الدروس والعبر

لقد ارتكز تاريخ أمتنا الإسلامية على الهجرة النبوية، وبالتالي برسول الله محمد “صلى الله عليه وآله” في حركته برسالة الله تعالى لإخراج المجتمع البشري من الظلمات إلى النور وتطهيره من رجس الجاهلية ومظالمها ومفاسدها، وما ترتّب على ذلك من تحوّلات ومتغيّرات انتقلت بالمسلمين إلى أعلى موقع بين الأمم آنذاك، ورسمت للأمة الإسلامية المعيار الصحيح لتقديم النموذج الحضاري الإنساني.

ونظرا لما تمثِّله الهجرة النبوية من أهميةٍ كبيرةٍ جدًّا في تاريخ المسلمين، فقد ارتبط التاريخ الإسلامي بالهجرة النبوية، لتكون الأساس التاريخي الذي يعتمد عليه المسلمون في تاريخهم، وهذه الأهمية تكمن فيما نتج عنها وترتب عليها من آثار ونتائج مهمة وكبيرة وإيجابية.

فهذه المناسبة تذكِّرنا بالهجرة النبوية، تذكرنا بهجرة النبي-صلوات الله عليه وآله-من مكة إلى المدينة، بكل ما لهذا الحدث من أهميةٍ كبيرةٍ بالنسبة للأمة الإسلامية، بلغت في أهميتها لدرجة أن تُعتمد للتاريخ الإسلامي لهذه الأمة، بكل ما لهذا من دروس ودلالات وما فيه من عبر تحتاج إليها أمتنا في هذه المرحلة الحسَّاسة من تاريخها بشكلٍ كبير للاستفادة منها فيما تواجهه من تحديات، وفيما عليها أن تنهض به من مسؤولية.

ومع ما حدث في واقع المسلمين بعد ذلك من التراجع الخطير، نتيجة للانحراف والتحريف الذي عصف بالأمة، وترك تأثيراته السلبية على واقعها بكله، إلا أن مفتاح الخلاص وسر النجاح يبقى حاضرًا من خلال:

الاقتداء الصادق برسول الله “صلى الله عليه وآله”.

التمسك بمنهجية الإسلام العظيم، ومحتوى الرسالة الإلهية المعجزة الباقية “القرآن الكريم”.

إدراك خصائص القوة والنجاح في “القرآن الكريم والرسول”.

الوعي بما تحظى به الأمة بناءً على ذلك التمسك (بالمنهج “القرآن”، وبالقيادة “الرسول” والأعلام من بعده) من معونة الله تعالى ونصره وتأييده.

ذكرى ارتباط بالرسالة والرسل

ذكرى الهجرة النبوية هجرة النبي صلوات الله عليه وآله من مكة إلى المدينة واستحضارنا السنوي لهذه الذكرى(الهجرة)هو استحضار وارتباط بالرسالة وبالرسول-صلوات الله عليه وآله-، وبالتالي ارتباط بالأنبياء وبمنهج الله بما في هذا المنهج من القيم والتعاليم والأخلاق والمبادئ العظيمة التي فيها سعادة لكل البشرية، وفيها الحلول لكل مشاكل البشرية.

لذا فهي محطة تاريخية في حياة الأمة مرتبطةُ بالرسول محمدٍ-صلوات الله عليه وآله-، وارتباط بمسيرته وحركته بالرسالة الإلهية، في كل ما يتضمنه ذلك من دروس وعبر تستفيد منها الأمة في كل عصر-وخاصة في عصرنا-في:-

مواجهة التحديات التي تواجهها الأمة بكل أشكالها، ولعل أبرزها هذه الهجمة الفكرية المنحطة، وما يرافقها من هجمات على الجانب الأخلاقي والتي تستهدف أبناء الأمة خاصة، والمجتمع البشري عامة.

تصحيح وضعها المزري، بالعودة إلى السيرة النبوية، والاقتداء بالنهج المحمدي الأصيل، والتحرك الجاد على ضوئه نحو استعادة مكانتها، وتصحيح مسارها حسب بوصلة المنهج الإلهي، والذي يعتبر (القرآن الكريم والرسول الأكرم) قطبي البوصلة الأساسيين.

بناء مسيرتها على أساسٍ صحيح، أساسه القرآن الكريم، والرسول (صلوات الله عليه وآله)، ومن سار على هذا المنهاج من أعلام الهدى.

وهذا ما تحتاج إليه أمتنا الإسلامية في هذه المرحلة الحسَّاسة من تاريخها.

 

ذكرى الهجرة محطة لاستلهام الدروس والعبر

يأتي في استذكارنا للهجرة النبوية كمحطة تاريخية عظيمة ومهمة ارتبط بها تاريخنا الإسلامي، وهي ليست مجرد فعالية تقام وانتهى الموضوع، |لا| فهناك الكثير من الدروس والعبر التي نحن بحاجةٍ إليها.

فالأمة الإسلامية-بشكلٍ عام-، ونحن-اليمنيين بشكل خاص-في حاجة ماسّة إلى الاستفادة من هذه المحطة التاريخية المهمة، والتي ترتبط -بالتالي-بسيرة رسول الله محمد-صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله-فهو قدوتنا، وهو أسوتنا، وهو هادينا، ونحن في أمسِّ الحاجة إلى:

الاستفادة من سيرته، ومن تحركه، واستخلاص أسباب النجاح في تغيير المجتمع، والعوامل التي تحرك على ضوئها لبناء الأمة بناء إيمانياً، والأساليب التي اتبعها في مواجهة قوى الشرك ومن تحالف معهم من اليهود.

الاهتداء بهديه، والسير على منهجه، في نشر الدعوة، في توحيد الصفوف، في الصبر عند المواجهة، في العزيمة، في الأخذ بأسباب النصر، في الاعتماد على الله، والتوكل عليه، واللجوء إليه.

الاقتداء به، فمعرفة سيرته (صلوات الله عليه وآله) من بطون الكتب لمجرد المعرفة لا تكفي، بل يجب أولاً أن نستقي سيرته من نبع آل بيته ومما رواه الأعلام منهم، ثم تحويل تلك المعارف النقية إلى سلوك عملي ينعكس تطبيقاً والتزاما في كل جوانب الحياة، وفي واقع الحياة، لما لذلك من نتائج كريمة وثمار طيبة تعود بالنفع وتثمر عزاً وكرامة، وحرية واستقلالا على مستوى الفرد، وعلى مستوى الأمة في دنياها، وفي الآخرة النجاة من النار، والفوز برضا الله سبحانه وتعالى.

الاستفادة من عطاء السيرة النبوية الواسع والغني: وهذا العطاء هو الذي نتزود منه المبادئ، والقيم، والأخلاق، والزكاء، والحكمة، لذا نحن إذا لم نستمد هذه القيم والمبادئ فلن نستمد النصر الإلهي، بدونها لن نستمد التمكين الإلهي ولا الرعاية الإلهية، بل سينعكس التخلي عنها كل أشكال الذل والقهر والاستضعاف في الدنيا، والعذاب-والعياذ بالله-والغضب والسخط من الله-سبحانه وتعالى-في الآخرة.

الاستفادة من السيرة النبوية في مواجهة التحديات والأخطار: ونحن في هذا العصر تعيش أمتنا الإسلامية واقعا مليئا بالمخاطر والتحديات الكبرى التي تضعنا في أسفل قائمة الأمم والشعوب، وهذا يستوجب علينا العودة إلى سيرة النبي الأكرم (صلوات الله عليه وآله) بهدف الدراسة التحليلية لمعرفة كل ما نحتاج إليه في مسيرة حياتنا، بحيث تنعكس كل تلك الدراسة التحليلية مناهج وموجهات وقواعد ننطلق منها، ونتحرك على أساسها لمواجهة ما يواجهنا من التحديات والأخطار، وهي كثيرة في هذا العصر، سواء التحديات الأمنية التي تتمثل في الاحتلال المباشر وغير المباشر، وفرض الكيان الصهيوني المؤقت كأمر واقع والسعي الجاد للتطبيع معه، وتخوين وتجريم كافة أشكال الجهاد والمقاومة، أو التحديات الفكرية وتتمثل في نشر العقائد الضالة والأفكار المضللة، والثقافات المنحرفة، أو التحدي الأخلاقي وهو أخطر تحدٍّ تواجهه الأمة الإسلامية، والذي برز للعلن بشكل رهيب سواء عبر نشر الثقافات المنحرفة في منصات التواصل الاجتماعي وشبكة الانترنت، والقنوات الفضائية، ولا ينتهي الأمر عند هذا الحد بل تعداه إلى تشريع دولي للشذوذ، وحماية أممية للشواذ، والعمل على فرض كافة أشكال الانحراف والشذوذ على المجتمع الإسلامي خاصة وعلى المجتمع الدولي بشكل عام.

العودة إلى مسيرة حياته ومسيرة دعوته وجهاده؛ بشكل يعكس التزاما بهذه المسيرة العظيمة، فالرسول (صلوات الله عليه وآله) وبعدد قليل من المؤمنين الصابرين استطاع أن يغير المجتمع العربي المشرك والكافر إلى مجتمع مؤمن موحّد، ومن مجتمع متنافر ومتفرق إلى مجتمع متآخٍ مبنيٍّ على الأخوة والتراحم.

أما من ناحية الأسلوب الدعوي فيجب أن نستحضر هنا أن الرسول (صلوات الله عليه وآله) غير توجه المجتمع من الشرك والإلحاد إلى الإيمان والتوحيد في زمن لا يتعدى 23 عاما، بل انطلق البعض منهم مجاهدا ومقاتلا في سبيل إعلاء كلمة الله واستشهد هو لم يسمع إلا بضع آيات من القرآن الكريم، أو بعض آية.

أما من ناحية الأسلوب الجهادي للرسول (صلوات الله عليه وآله) وجهاده، فيجب أن نستذكر عظمة قيادته العسكرية، وفاعلية الأساليب الجهادية، وكفاءة الخطط العسكرية بنوعيها الدفاعي والهجومي، بحيث استطاع (صلوات الله عليه وآله) بحنكته وتحت قيادته استطاع تطهير جزيرة العرب من الشرك، ونشر الدين الإسلامي الحنيف في ربوعها، وأن يحقق الانتصارات على قوى الشرك، وعلى المنافقين، وعلى اليهود، بل وعلى إمبراطوريات عظمى-آنذاك-مثل الروم والفرس، والانتصار على كل تلك القوى:

بإمكانات لا ترقى إلى مواجهة مشركي العرب البدو الرحل، فضلا عن مواجهة اليهود وما عرفوا به من الخبث والدهاء والغدر والخيانة، وصولا إلى مواجهة إمبراطوريتي الروم والفرس.

بنفر قليل من المؤمنين المجاهدين معه، والذي ابتدأ المشوار الرسالي والجهادي بدءاً بمؤمن واحد هو أخوه وابن عمه الصديق الأكبر الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، وبزوجته سيدة نساء الدنيا السيدة خديجة بنت خويلد-رضوان الله عليها-، ومن تلاهما من المؤمنين به وبرسالته على خيفة من قريش وغيرهم أن يفتنوهم عن الدين الإسلامي، وصولا إلى عقد بيعتين مع أهل يثرب، بعد أن دعا في أوساط عشيرته وفي قومه خاصة، وفي قريش ومحيطها، وانتهاءً بجيش عرمرم يصل قوامه إلى 30000 مقاتل.

بأقل قدر من الخسائر سواء الصعيد البشري، أم على الصعيد المادي، وهنا يجب أن نستذكر أن هذا النصر في هذه المسيرة الجهادية المحمدية لم يكن هذا النصر الإلهي مبنيا على عشرات الآلاف من القتلى (سواء من جهة الشهداء في الجيش الإسلامي أم من جهة القتلى في قوى الشرك وغيرهم)، بل كانت الخسائر في كلا الطرفين (مسلمين-كفار) لا يتجاوز 1400 قتيل من الطرفين على مدى المسيرة الجهادية المحمدية وهذا رقم يعكس تفوقا وقدرة تصل إلى حد الإعجاز.

وبكل هذه الجهود الحكيمـة والقيادة المستمدة من التوجيهات الإليهة، والمبنية على الالتزام والتحرك الجاد استطاع الرسول صلوات الله عليه وآله تكوين النواة الأولى للأمة الإسلامية المتحررة من سيطرة كل طواغيت الاستكبار.

۞۞۞

الاستفادة من السنن الإلهية

1-سنة الرعاية الإلهية

الرسالة الإلهية مشروعٌ مرتبطٌ بالله سبحانه وتعالى، بتدبيره، برعايته، بتأييده وبنصره، فالله سبحانه وتعالى كان يعلم ماذا يمكرون، وفي نفس الوقت كان في تدبيره جلَّ شأنه يبطل كل مكرهم، ويحوله لصالح النبي صلوات الله عليه وعلى آله.

وبعد تزايد وتيرة التكذيب ومضايقة المسلمين، والصد والاتهامات، كان موقف المسلمين هو الصبر وتقديم التضحيات، وفي أحسن الأحوال توجه نفر منهم إلى الحبشة هربا بدينهم من سطوة مشركي قريش، أما من لم يهاجر فقد اتجه منحنى التكذيب والإيذاء لهم بشكل تصاعدي وخطير، إذ قرر المشركون التوجه نحو الاستهداف العسكري المباشر

عندئذ نزل التدخل الإلهي والرعاية الإلهية، فقد أخبر الله-جلَّ شأنه- نبيه صلوات الله عليه وعلى آله بواسطة الوحي بمؤامرة الأعداء، وأنهم قد عزموا على قتله، وقد أعدوا خطةً لتنفيذ ذلك، وبات الوقت ملحاً لخروجه صلوات الله عليه وعلى آله وهجرته قال تعالى(وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ).

ومن سنن الرعاية الإلهية

السنن الإلهية لا تتمثل بالوحي فقط، ولا تنحصر على التأييد بالملائكة فحسب، فلله الأمر من قبل ومن بعد، وهو المدبّر الحكيم، ولعل أبرز مظاهر الرعاية والتدخل الإلهي ما تمثل في بعض العوامل المساعدة والإيجابية، التي أفادت في حماية حركة الإسلام في مرحلته المكية، من ذلك:

أ-دور “أبو طالب” وبني هاشم في الحماية لحركة الإسلام

“أبو طالب” عم النبي-صلوات الله عليه وعلى آله-، وهو من كفله منذ الطفولة، ومن ربّاه، وكان الحامي له في كل المراحل التي مضى بها منذ طفولته إلى أن توفي أبو طالب.

فأبو طالب قام بدورٍ مهم وإيجابي وكبير، وقد سطَّر التاريخ لنا كيف كانت مواقفه الثابتة التي لم يتزحزح عنها في الدفاع عن الرسول صلوات الله عليه وعلى آله، وفي حماية الرسول صلوات الله عليه وعلى آله، وكان له ثقله ونفوذه وتأثيره، ووقف معه بنو هاشم (عشيرة النبي صلوات الله عليه وعلى آله) في ذلك.

إن هذا الدور الإيجابي والكبير والمهم لأبي طالب، ومعه بنو هاشم؛ كان مهما جدا وسببا لاستمرار حركة الإسلام لأن النبي صلوات الله عليه وعلى آله-في بدء حركته بالرسالة لم يكن قد كوَّن أمةً تحمل هذه الرسالة وتناصرها، وكان لا بدَّ له من أن يقف إلى جانبه من يساعده في الحماية له، في الدفاع عنه، في مواجهة الخطر الذي يستهدفه.

ب-الفداء العلوي

توج الإمام علي عليه السلام الدور الذي ابتدأه عبد المطلب وأبو طالب وبنو هاشم في حماية الحركة الرسالية في بدايتها، وبعد الأمر الإلهي بالهجرة كان لا بدَّ من خطة للهجرة نفسها، فالرسول صلوات الله عليه وعلى آله قد أعدَّ خطته للتمويه على المتربصين به لقتله، وخطّط للخروج بدون أن يشعروا، ففي تلك الليلة (ليلة الخروج من مكة) بات الفدائي الأول للإسلام والمسلمين الإمام عليٌّ عليه السلام على فراش النبي صلوات الله عليه وعلى آله، ضمن خطة رتبها النبي صلوات الله عليه وعلى آله للخروج، ثم خرج دون أن يشعر أولئك؛ لأن المكان الذي كان ينام فيه كان واضحاً أمامهم، وكان الإمام عليٌّ عليه السلام باقياً في فراش النبي، وهم يظنون أن النبي صلوات الله عليه وعلى آله ما زال متواجداً، حينها خرج النبي بدون أن يشعروا بألطاف الله، وبرعايةٍ من الله سبحانه وتعالى، واتجه اتجاهاً معاكساً للطريق إلى المدينة، خرج باتجاه آخر، غير الاتجاه الذي يمكن أن يخرج الإنسان من خلاله إلى المدينة، ضمن خطته التي أعدَّها للخروج المنظَّم وبأسلوب صحيح من مكة.

2-سنة المعية الإلهية

يعد قول الله تعالى على لسان نبيه ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا﴾ القاعدة الأساسية التي انطلق منها من أول يومٍ في حركته بالرسالة الإلهية، فهو كان ينطلق بثقة بالله سبحانه وتعالى، واعتماد وتوكل على الله سبحانه وتعالى، فلم يكن يمتلك الإمكانات المادية، ولا يمتلك قدرة بشرية كبيرة، ورغم ذلك كانت المعية الإلهية بشواهدها الكثيرة والتي رافقت النبي صلوات الله عليه وآله منذ غادر مكة ونزوله بالغار وعلى طول سفره من مكة إلى المدينة كانت الآيات والمعجزات تتجلى وقد سطرها التاريخ في متون السيرة النبوية.

والذي نستفيده من هذه المعية الإلهية أنها من الدلائل المهمة جداً على عظمة الرسالة الإلهية، وعلى عظمة المنهج الإلهي، وعظمة الإسلام كمشروع عظيم وناجح، وذلك أن كل من يتحرك به ممن لا يمتلكون حتى الإمكانات المادية، فإذا بهم ينجحون، هو ينطلق من هذا المنطلق ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا﴾.

3-سنة المدد الإلهي

وتتجلى أبرز معالم هذا المدد الإلهي في تلك اللحظة الحرجة والحسَّاسة والخطيرة جداً، وهو في الغار، والمشركون قد أشرفوا على باب الغار، حينها نزل المدد الإلهي الذي تمثل في :

إنزال السكينة ﴿فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ﴾ هذه السكينة شكلت المدد المعنوي الذي يساعده في التماسك الكبير في تلك اللحظة الحسَّاسة والحرجة.

التأييد بالجنود الربانية:﴿وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا﴾ فقد أنزل الله جنوداً من عنده لحمايته صلوات الله عليه وعلى آله.

﴿وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى﴾، فرجعوا  خائبين لم يهتدوا إليه، ولم يصلوا إليه، والتفاصيل وردت في القصة المشهورة التي ذكرها أصحاب السِّير والمؤرِّخون.

 

 

 

۞۞۞

4-سنة الاستبدال

وخير مثال على ذلك -المجتمع المكي-فقد كانت تلك البيئة بيئة معدَّة من الله “سبحانه وتعالى” لانطلاقة الرسالة، لكن ذلك المجتمع لم يتهيأ لأن يحظى بشرف حمل هذا المشروع الإلهي والنهوض به؛ فأتت سنَّة الله “سبحانه وتعالى “في الاستبدال، استبدال هذا المجتمع بمجتمع آخر-المجتمع المدني-لكي يحظى بهذا الشرف الكبير، ويفوز بهذه المنزلة والمهمة العظيمة والمقدَّسة.

فما هي أسباب ذلك الاستبدال؟

1-الموقف الإيجابي للمجتمع المدني

عندما أتى الأمر من الله “سبحانه وتعالى” بالهجرة من مكة، وأتم النبي دوره في مكة، وأتى قول الله “سبحانه وتعالى”: ﴿فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ﴾، تهيأت ظروف أخرى ومجتمع آخر ومرحلة جديدة للنهوض بهذه الرسالة، والتحرك بهذه الرسالة في الواقع البشري، فكانت مرحلة مهمة.

فقد كان لهذا المجتمع -مجتمع الأنصار-في يثرب (الأوس والخزرج) بوادر إيجابية تجاه الدعوة والرسالة الإسلامية، حيث وَفَدَ وفدٌ منهم إلى مكة، وعندما سمعوا بدعوة النبي “صلوات الله عليه وعلى آله” تأثَّروا، وأسلموا، وعادوا إلى قومهم، ثم في الموسم القادم أتى وفد أكبر، وهذا الوفد-أيضاً-دخل في الإسلام، وبعث معهم الرسول “صلوات الله عليه وعلى آله” سفيراً له، أو رسولاً من عنده إلى المدينة ليقوم بدور التهيئة.

أبرز السمات الإيجابية للمجتمع المدني (مجتمع الأنصار)

جمع الله “سبحانه وتعالى” هذه المميزات الراقية والعظيمة في آيةٍ مباركة، يقول الله “سبحانه وتعالى”:﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾.

2-الموقف السلبي للمجتمع المكي

رغم كل العوامل المهيأة لانطلاق الدعوة من مكة بدءاً من وجود الفرع الإبراهيمي وامتداده في ولده إسماعيل، وصولا إلى النبي الأكرم صلوات الله عليه وآله، ورغم المكانة المقدسة لمكة بوجود البيت الحرام، وما نتج عن ذلك من تحرر واستقلال من نفوذ القوى الكبرى، والاستقرار الاقتصادي والأمني، ورغم التعطش العربي لوجود نبي ورسالة من أوساطهم.

إلا أن الموقف السلبي بدءاً التكذيب والمضايقات، والصد ونشر الشائعات، وتلفيق التهم الباطلة، وصولا إلى إعلان الحرب والاستهداف، هذا الموقف كان هو الموقف الأبرز للمجتمع المكي، وقد سجله القرآن الكريم يقول الله “جلَّ شأنه” حاكياً عن موقفهم:﴿فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا*اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا﴾.

 

سبب الهجرة من مكة المكرمة

فقدان مجتمع مكة لصلاحية أن يكون هو الحاضن للرسالة الإلهية

النبي -صلوات الله عليه وعلى آله-هاجر من مكة المكرمة، بالرغم من قداستها، وأهميتها، هاجر إلى المدينة (يثرب)، وفي هذا دروس وعبر مهمة جداً؛ لأن هذه الهجرة أتت بسبب فقدان مجتمع مكة لصلاحية أن يكون هو الحاضن للرسالة الإلهية، والحامل لرايتها، فقد صلاحية هذا الدور المهم والعظيم، وهذا الشرف الكبير، في مقابل أنَّ مجتمع يثرب (الأنصار) كان قد تهيأ لهذا الشرف الكبير، ولهذه الفضيلة العظيمة.

فتركها بالرغم من قدسيتها عندما فقدت الصلاحية لحمل هذا المشروع العظيم؛ نتيجةً لتلك العوائق ومنها:

 أنه مجتمع مادي وطمَّاع، يركِّز على الماديات.

الارتباط بالولاء والاتّباع لأصحاب السلطة والثروة “الملأ المستكبرون”.

ولذلك نحن في هذا الزمن عندما نتطلع إلى هذه المناسبة، ونأخذ العبرة من مجتمع مكة الذي خسر أكثرية أبنائه، ثم نأخذ العبرة من مجتمع يثرب، من الأوس والخزرج، من الأنصار الذين سمَّاهم الله بالأنصار، وما تأهلوا به لنيل هذا الشرف الكبير من مواصفات عظيمة، نستفيد نحن في هذا الزمن سواءً كشعبٍ يمني، أو كأمةٍ مسلمة، درسٌ كبيرٌ للجميع، درسٌ كبيرٌ لنا كمسلمين، كأمةٍ مسلمةٍ بشكلٍ عام، ونحن في مواجهة تحديات، وأمةٌ لها مشاكل، مشاكل كثيرة في واقعها، تحتاج إلى الاستفادة من سيرة نبيها وتاريخها الطويل، تستفيد الدروس والعبر التي تساعدها على حلِّ مشاكلها، على تصحيح وضعيتها وتصحيح مسارها، وعلى أن تبني واقعها على أساسٍ صحيح، وهذا ما ينبغي أن نركِّز عليه.

ختاماً

لقد كان وسيظل عنوان الهجرة النبوية في نتائجها الكبرى هو “وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا” وهو العنوان الذي تحتاجه الأمة في مواجهة كل التحديات، فالأمة ستعلو وتصمد في مواجهة أعدائها بقدر تمسكها بكلمة الله وثباتها على نهجه الحق.

كما كان الدرس الآخر من الهجرة النبوية في “مجتمع الأنصار” الذي حظي بشرفٍ عظيم في احتضان الرسالة الإلهية وكانت مؤهلاته الكبرى لذلك الشرف، كما ورد في الآية المباركة ﴿ وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾.

وبناء على أن من حمل هذه المؤهلات الإيمانية من المجتمع المدني “مجتمع الأنصار” نجح بكل كفاءة واقتدار في رفع راية الإسلام عالية، وشكل البيئة الآمنة والحامية للدولة الإسلامية الفتية، فإنه يمكن للشعب اليمني-اليوم-الثبات، والارتقاء الإيماني، لأنه هو الشعب الذي نال وسام الشرف الكبير بقول رسوله الله “صلى الله عليه وآله” عنه ((الإيمان يمانٍ والحكمة يمانية))،

كما يمكن لأمتنا الإسلامية بالاستفادة من دروس الهجرة ونتائجها الكبرى أن تواجه كل مساعي الأعداء من الكافرين “أمريكا وإسرائيل”، وأن تواجه المنافقين الذين رفعوا عنوان التطبيع مع إسرائيل من أجل ذلك وانتهكوا به حرمات ومقدسات المسلمين، كما فعلوا بحق المسجد الأقصى وتجاه شعب فلسطين حيث انتهكوا حرمة مكة المكرمة وبيت الله الحرام وشعائر الحج في عرفات.

إَضافة إلى أنه يوضح لأبناء الأمة الإسلامية أهمية العمل الجاد في التصدي لمساعي الأعداء تلك التي لا يبقى للأمة معها حرية ولا كرامة ولا استقلال ولا دين ولا دنيا، فالتصدي التزام إيماني وأساسي لعزة الأمة ولدينها ودنياها وحريتها وكرامتها والله المستعان وكفى بالله وليًّا وكفى بالله نصيراً.

فالثبات الثبات على الموقف الحق، ومواصلة المشوار في ذلك الموقف بثقة بالله تعالى، وبإخلاص، وبصبر ووعي هو سبيل للنصر والعزة والفلاح، أما الانحراف نحو التطبيع والتخاذل فعاقبته الخسران .. والله المستعان.

نسأل الله “سبحانه وتعالى” أن يجعل عامنا هذا عام انتصار وعزة وتمكين للمؤمنين، وعام خزي وذل وهوان وانكسار لكل الطغاة والمطبعين معهم.

ونسأله أن يوفِّقنا وإيَّاكم لما يرضيه عنا، وأن يرحم شهداءنا الأبرار، وأن يشفي جرحانا، وأن يفرِّج عن أسرانا، وأن ينصرنا بنصره، إنه سميع الدعاء.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

 

قد يعجبك ايضا
WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com