منهجية أنبياء الله في الدعاء (يُسَارِعُونَ فِي الخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً)

 

 

نرى فيما يتعلق بالدعاء فيما حكاه الله سبحانه وتعالى عن أنبيائه في القرآن الكريم كيف كانوا ملتجئين إلى ربهم، كيف كان الدعاء جزء أساسي من علاقتهم العبادية بالله سبحانه وتعالى فيما حكاه عن نبيه نوح, فيما حكاه عن نبيه إبراهيم, فيما حكاه عن أنبياء آخرين, وفي مقامات متعددة, فيما كانوا يعانونه في صراعهم مع أقوامهم, فيما كان يواجههم في واقع حياتهم, وفي حالات أخرى متنوعة.

نجد ما حكاه الله سبحانه وتعالى عن نبيِّه أيوب عليه السلام في قصته المعروفة, ما عاناه من الألم الشديد والمرض الشديد نتيجة وساوس الشيطان في قصته المعروفة التي وردت في القرآن الكريم, بقي وقتاً يعاني معاناة شديدة, ووصل واقعه الجسدي والنفسي إلى مستوى مؤلم جداً، فضرع إلى الله وأقبل إلى الله بالدعاء, وقص الله حكايته ﴿وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ﴾ [الأنبياء:83-83] فهنا يقول سبحانه وتعالى: ﴿رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ﴾ رحمته هذه بنبيه أيوب عليه السلام هي أمل وهي ذكرى لكل العابدين المنيبين إلى الله سبحانه وتعالى, أمل لهم في رحمة الله فليرجوه وليدعوه وليرجعوا إليه, فهو كاشف الضر ودافع البلاء وكاشف الكرب والممتنّ بكل نعمة.

يحكي عن نبي آخر من أنبيائه (عليهم السلام) عانى معاناة شديدة وأخرجه وأنقذه مما هو فيه وأغاثه مما كان فيه من معاناة هو نبيه يونس عليه السلام ذا النون، قال تعالى:﴿ وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي المُؤْمِنِينَ﴾[الأنبياء:87-88].

نبي الله يونس عليه السلام في قصته المشهورة بعدما بذل جهداً كبيراً كبيراً وهو يعمل على إنذار قومه وهدايتهم فلم يستجيبوا وظنَّ وتوقَّع أنه قد أدَّى ما عليه واستعجل فذهب وتركهم قبل أن ينزل عليه الإذن من الله سبحانه وتعالى وهو كان يتوقع أنه قد أدى ما عليه، وأنه قد بذل جهده وأنه لن يتحمل المسؤولية بعد، فكان أن وقع له ما وقع فيما هو معروف في سفره في البحر.

وعندما ابتلعه الحوت، وهو في داخل الحوت، في أعماق الظلمات، ظلمات داخل الحوت نفسه، ظلمات البحر، في أضيق حال، وفي أشد عناء، وفي أسوأ كرب، وفي أقسى وضع، وضع شديد جداً، توجه من هناك من ذلك الواقع الذي يعيشه من المعاناة التي هو فيها يُمجِّد الله سبحانه وتعالى ويُسبِّحه مما وقع له ليقول: أنا الذي ظلمت نفسي، أنا السبب فيما وقعت فيه؛ لكني أرجو فضلك أنت، أنشد رحمتك، أستغيث بك. فيسبِّح الله ويمجِّده من أن يكون الله سبحانه وتعالى ظلمه فيما وصل إليه؛ بل هو الظالم لنفسه، المسيء إلى نفسه، المُتسبِّب بما وقع لنفسه.

وفي نفس الوقت ينشد من الله الرحمة والخلاص فيتضرع إليه ذلك التضرع﴿ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾[الأنبياء:87] فماذا كانت النتيجة؟ رحمة الله الواسعة، رأفة الله الكبيرة استنقذته مما هو فيه﴿ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الغَمِّ﴾[الأنبياء:88] وكان غمّاً ما بعده غمّ وهو في ذلك الحال وفي ذلك الوضع.

ثم يُقدِّم الله لنا من هذا الدرس المهم فيفتح لنا آمالنا في الله، يفتح لنا أُفقاً واسعاً لا حدود له في رجائنا لله وفي أملنا في الله سبحانه وتعالى فيقول:﴿ وَكَذَلِكَ نُنجِي المُؤْمِنِينَ ﴾.

يحكي لنا قصة نبيه زكريا عليه السلام فيما كان فيه من معاناة ووحشة وشعور بالغربة بين قومه وبين أقاربه الذين كان يعاني منهم الجفاء والتعامل السيئ, ولا يأتمنهم فيما وراءه وفي خلافته وفي إرثه فتضرَّع إلى الله سبحانه وتعالى بدعائه المعروف: ﴿رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنتَ خَيْرُ الوَارِثِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ﴾ [الأنبياء:89-90] بعدما وصل إلى سنّ متقدّم, وصل إلى مرحلة متقدّمة في السنّ كما في بعض الروايات تسعون عاماً, تجاوز مرحلة الإنجاب, وكذلك زوجته كانت عاقراً، فرزقه الله سبحانه وتعالى بولد مرضي تقي زكي صالح من أنبيائه هو نبيه يحيى عليه السلام .

الأنبياء هذا واقعهم: التجاء إلى الله، تضرُّع إلى الله، تمسُّك بالله، آمالهم متوجهة إليه، رجاؤهم متوجه إليه، وليس إلى أحد من خلقه، وبروحية عظيمة ومتميزة.

ثم يقول عنهم:﴿ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ﴾[الأنبياء:90] هكذا هم الأنبياء وهم القدوة، هم القدوة، والله سبحانه وتعالى حكى لنا ما حكى عنهم في كتابه الكريم؛ لأنهم القدوة لسائر البشر ونِعْمَ القدوة، هكذا كانوا يسارعون في الخيرات، فهم في موقع العمل والطاعة والعبادة في حالة مبادرة ومسارعة إلى كل ما فيه رضا الله سبحانه وتعالى.

﴿ يُسَارِعُونَ فِي الخَيْرَاتِ﴾[الأنبياء:90] لا متنصِّلين عن مسؤولياتهم، لا متثاقلين فيما فيه طاعة الله، بإيمانهم العظيم، بحبهم الكبير لله, بخشيتهم الكبيرة من الله, بإدراكهم لقيمة العمل ونتائج العمل يسارعون ويبادرون.

 

ثم هم في واقعهم مع الله سبحانه وتعالى في دعائهم على هذا النحو﴿ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً﴾[الأنبياء:90] يدعون الله وهم متطلِّعون إلى رحمته، يعيشون حالة الخوف منه، فيسألونه الرحمة والمغفرة والسلامة من عذابه، يعيشون حالة الرغبة إلى الله، وفيما عند الله, متطلِّعون إلى فضله, إلى كرمه, إلى عطائه, بهذه الروحية ﴿وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ﴾ [الأنبياء:90].

وهذا المنطلق الصحيح الذي يجب أن يبني الإنسان واقعه عليه فيما يتعلق بالدعاء، أنت ترجو من الله الإجابة، أنت تريد أن يُستجاب لك دعاؤك اعرف كيف يجب أن تكون وما عليك أن تعمل، هذه روحية الأنبياء وهكذا كانوا﴿ يُسَارِعُونَ فِي الخَيْرَاتِ ﴾وحين يدعون الله يدعونه برغبة، راجين ما عنده، متطلعين إلى ما لديه من الفضل والمن والعطاء والجود والكرم، ثم هم يعيشون حالة الخوف منه وهم في واقعهم خاشعين لله، متضرعين، متذللين﴿ وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ ﴾.

من محاضرة السيد القائد/ عبد الملك بدر الدين الحوثي / حفظه الله.

بعنوان الدعاء/ 10 رمضان 1433هـ

قد يعجبك ايضا