حركة الرسول والنقلة النوعية.. كيف تحققت؟

 

الرسول “صَلَواتُ اللهِ عَلَـيْهِ وَعَلى آلِه” تحرك عندما بعثه الله رسولًا على هذا الأساس، وأحدث بهذا التحرك الذي هو من خلال آيات الله، يتلوها، يهدي بها، يصلح بها كثيرًا من أفكار الناس، من ثقافاتهم، من أعمالهم، من مواقفهم، من…الخ. ويعلمهم الكتاب والحكمة، قبل ذلك أيضًا يزكيهم، أحدث نقلة كبيرة في الواقع العربي أولًا، وهو كان واقعًا أمِّيًّا، واقعًا بدائيًا، واقعًا متخلِّفًا إلى حدٍ كبير، النقلة هذه التي أحدثها الرسول بهذا التحرك كيف تحققت؟

هناك دروس مهمة جدًّا نحتاج إليها في هذا الزمن، وسيأتي قول الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ}، النقلة التي تحققت بحركة الرسول “صَلَواتُ اللهِ عَلَـيْهِ وَعَلى آلِه” لتغير الواقع لأمة من حالة ضلالٍ مبين، {وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}، أمة ضائعة، ليس لها هدف تتحرك على أساسه في هذه الحياة، هدف عظيم، هدف مهم، هدف جامع، هدف صحيح، تؤدي دورها ومسؤوليتها وحضورها في الساحة العالمية على أساسه، وليس لها ارتباط بكتاب سماوي، بهدى من الله ترتبط به، وضائعة، ونتيجةً لهذا الضياع عاشت وضعًا اقتصاديًا مزريًا، وعاشت مشاكل كبيرة في واقعها الاجتماعي، وعاشت مشاكل سياسية لا حد لها ولا حصر، وكانت أمةً ممزقة، متناحرة، متحاربة، وعلى أبسط الأشياء يمكن أن تكون هناك حرب ضروس وشديدة وتستمر لعقود من الزمن، على مستوى مشكلة ناتجة عن سباق بين الخيول، وأحيانًا بين الجمال، ويحصل حرب لا أكبر منها، مشكلة كبيرة جدًّا فيما بينهم لأتفه الأسباب، حالات النهب، والسلب، والظلم، والفساد، والمنكر، والإجرام، والفواحش، حالة التوحش وفقدان المشاعر الإنسانية الفطرية، من نحو وأد البنات (قتل البنات بالدفن لهن أحياء)، والنظرة السلبية جدًّا تجاه المرأة، من مثل أكل الميتة، قبل ذلك انحراف عجيب عقائدي؛ في مسألة الألوهية والعقيدة، فكانوا يشركون بالله أصنامًا من الجمادات أُغوُوا بذلك من مضلين خطيرين، تبعية غبية لضالين، ولمفسدين، ولطغاة، ولظالمين، ولجبابرة، واقع سلبي، وواقع متخلِّف، حدثت تنقله وتغيير لهذا الواقع.

هذا التغيير اعتمد- أولًا- على رؤية هي القرآن الكريم، هي هدى الله، هي توجيهات الله ووحيه، يقود هذه العملية في التغيير شخص معين هو رسول الله محمد “صَلَواتُ اللهِ وَسَلَامُه عَلَـيْهِ وَعَلى آلِه”، الذي اصطفاه الله رسولًا، وهو خاتم النبيين، وهو سيد المرسلين، والرسول “صَلَواتُ اللهِ عَلَـيْهِ وَعَلى آلِه” رسول للبشرية، للعالمين، للناس كافة، منذ مبعثه إلى قيام الساعة؛ لأننا في الحقبة الأخيرة من حياة البشر، والمهمة بنفسها مهمة تمتد عبر الزمن وفق ارتباط معين، وفق طريقة معينة نبني عليها هذه العلاقة بالرسول والقرآن.

طبعًا، في النظرة التي هي قائمة لدى الكثير من الناس في زمننا هذا، ونحن كعرب، وكأمة، وكبشر بشكلٍ عام، المجتمع البشري من حولنا، الأمم بكلها، الناس جميعًا يواجهون الكثير من المشاكل والأزمات، ويعانون بشكل كبير، هناك في هذا العصر قوى متسلِّطة ومتمكِّنة ومسيطرة في الساحة، على رأسها أمريكا، تتحرك وفق رؤية معينة لها أهداف، لها أفكار، لها ثقافات، لها اتجاهات، لها سياسات تحكم بها واقع الناس، وتتحرك من خلالها في واقع الناس، ولكن نشاهد أنها لم تثمر، ولم تفلح أي فلاح في الواقع البشري، لم ينتج عن سياساتها إلَّا المعاناة للبشرية، إلَّا الهوان، إلَّا الخراب، إلَّا الفساد، إلَّا الدمار، إلَّا العذاب، إلَّا الظلم، إلَّا الظلام، إلَّا الضلال، إلَّا الباطل، الحالة هي حالة ضلال، هي تقود حالة ضلال مبين، هي تزيد من مشاكل البشرية، وتفاقم من مشاكل البشرية، مما يدل بشكلٍ واضح على أنَّ صلاح الناس، على أنَّ الحل بالنسبة للواقع البشري الذي هو أرقى حل يمكن أن يكون في واقع البشرية، وطبعًا لا تخرج المسألة عن طبيعة الحياة في واقعها العام، يعني: مهما كان هناك من رؤية عظيمة تبقى ساحة هذه الحياة هي ساحة اختبار، يبقى فيها معاناة، يبقى فيها مشاكل، يبقى فيها تحديات، ولكن الحال يختلف كثيرًا جدًّا عن ما إذا كانت الأمة تتحرك وفق هدى الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، كم ستتخلص من مشاكل، كم ستتخلص من أزمات، كم ستدفع عن نفسها من محن، من كوارث، من مصائب، من نكبات، وفيما إذا أعرضت عن هدى الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” حينها لو امتلكت ما امتلكت على المستوى المادي، أو على مستوى القدرات والإمكانات، لا يغني عنها شيئًا، ولا يصل بها ذلك إلى الخير والفلاح والسعادة، بل تعيش الحياة الضنك.

الرسول “صَلَواتُ اللهِ عَلَـيْهِ وَعَلى آلِه” تحرَّك بتلك الطريقة؛ فأحدث نقلة في الواقع العربي، نتج عنها بناء أمة توحَّدت بعد أن كانت ممزقة ومختلفة، والتقت على أعظم رؤية وتحت سقف العبودية لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وتحت قيادة النبي “صَلَواتُ اللهِ عَلَـيْهِ وَعَلى آلِه”، فحلَّ مشكلة الاختلاف، الاختلافات والصراعات ذات الطابع العرقي، العنصري، القبلي… كل أشكال العصبية عولجت من خلال هذا الهدى، وتحوَّلت إلى أمة واحدة تحت قيادة الرسول “صَلَواتُ اللهِ عَلَـيْهِ وَعَلى آلِه”، حلَّ مشكلة الاختلاف، اليوم مشكلة الاختلاف مشكلة صعبة في واقعنا القائم، عالج كثيرًا من المشكلات الاجتماعية، كثيرًا من المشكلات الاقتصادية، عالج المشكلة السياسية بشكلٍ تام، أصلح واقع الحياة على نحوٍ عظيم، وأحدث نقلة وفارقًا كبيرًا: من حالة الضلال المبين، إلى أمة باتت في إطار هذا المشروع، هناك عمل لإصلاحها وفق هذا المشروع، هناك اتجاه بها في واقع الحياة على أساس هذا المشروع؛ فكانت عملية ناجحة، وتجربة عظيمة جدًّا، نجاحها نجاح كبير.

وهناك ملاحظات يجب أن نستوعبها جيدًا:

كيف تحرك النبي بهذا المشروع الإلهي؟

أولًا: كيف تحرك النبي “صَلَواتُ اللهِ عَلَـيْهِ وَعَلى آلِه” في الواقع بهذا المشروع الإلهي العظيم؟ هل- مثلًا- حدثت عملية توافق في الواقع العربي على اتباع هذا المشروع، والقبول به، والإتِّباع له؟ مثلًا: هل عقد النبي “صلى الله عليه وآله وسلم” مؤتمرًا يجتمع فيه زعماء العرب- زعماء قبائلهم، وزعماء اتجاهاتهم الفكرية والثقافية المختلفة طبعًا- وطرح في ذلك المؤتمر هذا الموضوع، فاتفقوا عليه، وخرجوا على أساسه، وانتهت المسألة، واحتلت المشكلة بمؤتمر حوار وطني شامل مثلًا، أو ما هي الطريقة؟

في الواقع البشري عندما تبرز اتجاهات متباينة، وتنشأ- في كثيرٍ منها- أهواء، أطماع، ضلال، باطل، يحدث- بالتالي- مواقف متصلِّبة، اتجاهات متعارضة ومتباينة، وإصرار على اتجاهات معينة، مثلًا: حركة الرسول بهذا الهدى لم تكن مرهونة بوفاق عام؛ لأن هذا لا يحصل أصلًا، وفاق عام في الساحة العربية بكلها، أو في الساحة العالمية بكلها. لا، الرسول بدأ حركته بهذا الهدى وكانت أول نواة تلتف حول هذا المشروع الإلهي نواةً محدودة، رسول الله “صَلَواتُ اللهِ عَلَـيْهِ وَعَلى آلِه” آمن به في البداية زوجته خديجة الصدّيقة، وكذلك آمن به علي بن أبي طالب، أول نواة رسول الله، اتَّبعه وآمن به عليٌّ “عليه السلام”، وخديجة “عليها السلام”، هذه أول نواة، ثم بدأت تتسع هذه الدائرة التي تلتف حول هذا المشروع شيئًا فشيئًا، في نهاية المطاف شملت الجزيرة العربية، وسادت في الجزيرة العربية هذه الرؤية، وساد فيها هذا المشروع الذي التفَّت حوله في البداية نواة مكونة من ثلاثة: رسول الله، وفتى هو علي بن أبي طالب، وامرأة هي خديجة، أول نواة من المجتمع التفت حول هذا المشروع، توسعت الدائرة.

ثم هذا المشروع هل لاقى ترحابًا في الساحة؟ رسالة الله، وتحرك به رسول الله “صَلَواتُ اللهِ عَلَـيْهِ وَعَلى آلِه”، الذي كان على أرقى مستوى يمكن أن يصل إليه بشر في كماله الأخلاقي والإنساني، وفيما هو عليه من حكمة عالية، وأداء عظيم، شخصية يفترض أن تكون مقنعة، وهدى ومشروع إلهي عظيم يفترض أن يكون مقبولًا، هل اتجه للتحرك به في الساحة فلقي بكل بساطة ترحيبًا من الجميع، وقابلية من الجميع، وعندما يصل إلى منطقة كلهم اتجهوا وآمنوا ورحبوا، وأسهلوا، وقابلية بدون أي معارضة، بدون أي مشاكل، بدون أي تحديات ولا صعوبات. لا، أولًا واجه هذا المشروع الإلهي والذي يقوده ويتحرك على أساسه رسول الله “صَلَواتُ اللهِ عَلَـيْهِ وَعَلى آلِه” أشد المعارضة في الساحة، تحركت زعامات، وجاهات، واتجاهات متنوعة لمعارضة هذا المشروع الإلهي، الواقع العربي الحركة الوثنية- آنذاك- تحركت بشدة، وباستياء شديد وسلبية كبيرة وعداء شديد جدًّا، واتجاه آخر هم اليهود، اتجهوا من هناك بعدائية شديدة جدًّا وأشد عداوة من غيرهم، ثم في الأخير اتجاه النصارى- آنذاك- متمثلًا في الروم، كذلك اتجاه المجوس… اتجاهات كثيرة تحركت لتعادي هذا المشروع الإلهي، ولتعمل ضد هذا المشروع الإلهي بكل الأساليب والوسائل لإحباطه، وللقضاء عليه، ولإفشاله، وبذلت جهود كبيرة جدًّا ضد هذا المشروع الإلهي، منها جهود عسكرية، تحركات عسكرية، بهدف القتل والقضاء على رسول الله ومن التف معه حول هذا المشروع.

السيد عبدالملك بدر الدين الحوثي

الدرس الثالث من  محاضرات (الرسالة والرسول) 1440هـ

قد يعجبك ايضا