“طوفان الأقصى”.. خيارات الحرب الطويلة
|| صحافة ||
من الضروري والواجب، في خضم معركة “طوفان الأقصى”، والتي تحولت بانتصارها المدوي وكسرها للعدو إلى لحظة ثورية فوراة بالاحتمالات والسيناريوهات، أن يتوقف الشخص قليلًا ليستوعب ما تحقق فعلًا، وعلى الأرض، من مكاسب، وما ننتظره في مرحلة تالية، آن لها أن تكتب بكل تلك التضحيات الغالية عنوانًا جديدًا للمنطقة وشعوبها، وقفة تأمل لا وقفة حساب، لحظة لفهم ما استطاعت البندقية العربية تحقيقه فعلًا، وما تستطيع أن تحققه في مرحلة تالية.
اليوم، تقف المقاومة الفلسطيني وقد وجهت بشكل شبه إعجازي، ضربة مطرقة ثقيلة هائلة فوق رأس العدو الصهيوني، لا هو قادر على نفي وقوعها، ولا هو قادر على الحركة بنصف رأس، كان مفهومًا ــ مسبقًا ــ أن ضربة جريئة تصل للعدو بهذا الحجم النيراني ومساحاته، سيكون لها مرحلة تالية، مرحلة الرد، وأن الغرب قد حشد مقدمًا وبكرم زائد كل ما يمكن أن يكون خطوط إمداد وقتال جديد بالكامل، عبر جسور الإمداد بالسلاح والذخيرة، وتوجيه أساطيله إلى حيث يحاول وقف “فتح جبهة” ثانية وثالثة على الكيان المذعور.
المرحلة الأولى من الحرب قد تكون انتهت، بهجوم جريء وشامل وغير مسبوق من المقاومة الفلسطينية، التي ابتلعت في ساعات فرقة غزة، وحررت لأيام عدد من مستوطنات الغلاف، ولا تزال تمطر سماء المدن الفلسطينية المحتلة بوابل لا يتوقف من الصواريخ، والنتيجة المباشرة، هي أن الرعب والرهبة التي عاش بعضنا ـــ على الأقل نفسيًا ـــ ضغطها، قد انتهت، وأن الأمة العربية والإسلامية وجدت ذراعًا قادرًا تستند عليه أحلامها، وقد خرجت جماهير عربية وإسلامية من كل الدول تبارك وتدعم وتؤكد هذه الصلة وهذا الانتصار.
وضع الجماهير في المعادلة، بما يعكس الخطاب الفلسطيني حول “القدس” كرمزية بالغة الدلالة والعمق، والتي تمس بشكل شخصي ومجرد بكل إنسان عربي أو مسلم، كان لها أن ترسم خطوات لم يحسبها العدو الأميركي ولا العدو الصهيوني، اليوم، ورغم ارتباط مصر والسعودية والأردن بالتطبيع والتعامل المباشر مع كيان العدو، فإن جديدًا طرأ على الخطابات وعلى لهجات الحكام، حتى هؤلاء الأكثر خيانة واستهانة بالقضايا العربية، لا يمكن أن يتابعوا مع الخطط الأميركية إلى نهايتها، وهم يرون شعوبهم قد بدأت تشحن ويزيد الغضب فيها، وتدفعهم بالتالي إلى مواقف أكثر ابتعادًا عن تأييد المذابح المروعة التي تجري في فلسطين، وهذا ثاني مكاسب ما حصل في 7 تشرين الأول، وليس آخره.
اليوم رفضت مصر إجلاء من يحملون جوازات سفر أميركية من القطاع إلا بعد إدخال مواد الإغاثة الإنسانية العاجلة إلى القطاع المحاصر، هنا لا يغير السيسي ولا غيره سياستهم، لكنهم لا يجرؤون على الوقوف علانية ضد شعوبهم، التي فاض كيلها بما يجري، وإحساسهم بالعجز العميق والمشاركة في الحرب “الصليبية” الجديدة على غزة المحاصرة.
الأمر الثالث أن طول فترة الحرب، مع الارتباك الصهيوني في إدارتها، قد ولد شعورًا لدى الأميركي أن تل أبيب لا تملك خطة كاملة للتعامل مع الأيام المقبلة، ومع ما تحمله فرص التصعيد من حرب كبرى في الإقليم، فإنها ستجبر في وقت ما على فرملة نتنياهو، أو على الأقل الوصول لتهدئة، فلديها في العالم العربي حلفاء كثر، لا تريد فقدهم الواحد تلو الآخر.
لا يبدو من تقارير الكيان وما ينشره سوى أنه أقر “خطة ما” تعتمد على تسوية المنطقة الشمالية على الأقل من غزة بالأرض، ومحاولة دخولها عبر فرقه المدرعة، مدعومة بتفوق جوي ساحق، هذا هو الحل الوحيد الذي يتيح لها أن تروج غدًا أنها انتقمت وأنها انتصرت، وهو على ما يبدو جنونًا آخر أكثر منه تفكير عقلاني سليم، وهو ما عكسته تقارير عن خلافات في مجلس حكومة العدو عن “الخطة البرية”، خوفًا من عواقب يعلمون يقينًا أنها لن تكون في صفهم، خاصة مع المستوى الإبداعي الراقي الذي قدمته فصائل المقاومة في عملية عسكرية كبيرة، كانت مخططة ومنفذة على أكمل ما يكون.
طول مدة المعارك يتيح فقط لأطراف الرفض والغضب في العالمين العربي والإسلامي استمرار الضغط على الشارع، والذي سيولد بدوره الانفجار، في ظل ظروف سياسية واقتصادية خانقة، وقد بدأت من عامين على الأقل في الوصول إلى كل مواطن، وصفعته بنصيبه المؤلم منها، وهي تركت غصة في الحلوق من أداء الحكومات، أخص مصر بالذكر، التي قد تكون على شفا الإفلاس في العام الجديد 2024، على الأكثر.
ليس غريبًا على أبطال غزة، أن يسجلوا بعد أسبوع قتال، ارتفاع خسائر العدو إلى 1500، غادروا إلى الجحيم، وألوف أخرين ينتظرون، وهو ضعف خسائرهم في حرب 1967 كلها، على 3 جبهات قتال، في نفس عدد أيام المعارك، جابهوا 3 جيوش عربية ضخمة العدد وكاملة العتاد، وتتمتع بدعم على المستوى القطري أو القومي لا يتوقف ولا ينفد، المدينة المحاصرة العزيزة، وبإمكانات تحت الصفر من الدعم وحرية المناورة وهامش الحركة، تكتب من جديد أن المقاومة ستولد النصر، بعد المدى أم اقترب.
هذا كله لا يضع في الاعتبار مواقف أخرى في محور المقاومة، مواقف نعرفها بالتجربة الصادقة وبالخبرة الإيجابية وبالرهان الصحيح على حزب الله، رأس حربتنا في مواجهة هذا الكيان الهش، وسوريا قلعة الصمود والممانعة، واليمن، التي تتحرك حاملات الطائرات الأميركية نحوه، وكأنه سيخشى أو يرتعب، ثم رسالة طهران، مساء يوم السبت إلى الكيان عبر الأمم المتحدة، والتي قالت فيها نصًا: “لا أحد بإمكانه إبقاء الوضع على ما هو عليه في المنطقة إذا استمرت جرائم إسرائيل”، بالطبع أميركا تحاول الضغط على أعصاب النحب التابعة لها والمنسحقة أمامها جلالًا وخوفًا، أما فيما يتعلق بالمقاومة، فأميركا ـــ ذاتها ـــ خسرت معاركها في فييتنام والعراق وأفغانستان والصومال، ضد أطراف آمنت بحقها في الانتصار، أطراف أيقنت أن الحق معها، فقاتلت وانتصرت، وعادت السفن الجبارة مشحونة بالجثث إلى القارة البعيدة.
اليوم هو يوم التفاؤل والأمل واليقين بنصر من الله قادم، التبشير بأن الرعب والخوف والهروب من المدن بات مظلة فوق عدونا، اليوم هو المعركة الأولى للعالم العربي ضد الكيان الصهيوني، والتي نملك فيها أطرافًا قوية وقادرة ومؤمنة، واقفة في الصفوف الأولى تنتظر إشارة القيادة للتحرك ـــ أو للتحريرـــ بينما انهار العدو داخليًا تمامًا، لا يملك في حقيقة الأمر سوى التفوق الجوي، والدعم الغربي، والأخير متوقف على العوائد التي يجنيها الغرب من وراء مشروعه، وإذا وجد الغرب في لحظة حساب أن التكلفة أكبر من العائد فإنه لن يستمر، تمامًا كما يحاول نفض يده من أوكرانيا.
المصدر: موقع العهد