القرآن يشخص منشأ المشكلة مع بني إسرائيل
القرآن الكريم تحدَّث أولاً في تشخيصه لمنشأ المشكلة في آيةٍ قرآنيةٍ مهمة، نتحدث على ضوئها، ثم ندخل إلى بقية التفاصيل، يقول الله “جلَّ شأنه” عن اليهود، وعن بني إسرائيل: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ}[آل عمران: الآية 112]، في الآية المباركة يبين الله “سُبْحَـانَهُ وَتَعَالَى” أنه قد ضرب عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ {أَيْنَ مَا ثُقِفُوا}، و(أَيْنَ مَا ثُقِفُوا) تشمل كل مكان وكل زمان، وهذه نقطة يجب أن نلتفت إليها، أين ما وجِدوا في كل زمن من يوم أن ضربت عليهم الذلة، وفي أي مكان منذ أن ضرب الله عليهم الذلة، ولأنهم قد ضربت عليهم الذلة؛ فهذا سيجعلهم في وضعية يكونون فيها مهزومين، مقهورين، مغلوبين، لا يستطيعون أن يكونوا في حالةٍ يبنون لهم فيها كياناً حاضراً في الساحة، وأن يقارعوا الآخرين، وأن يغلبوا الآخرين، وأن يهزموا الآخرين، أن تكون الذلة مضروبةً عليهم، يعني: أن يكونوا هم في وضعيةٍ يكونون فيها في حال قهرٍ، وفي حال خنوع، وفي حالة استسلام، لا أن يكونوا هم من يغلبون الآخرين، أو يقهرون الآخرين، أو يواجهون الآخرين، أو يسيطرون على الآخرين، فـ{ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ} يدخل تحتها وضعية يكونون فيها في هذه الحالة، وهذا نصٌ مهمٌ جدًّا، ويأتي بعده: {أَيْنَ مَا ثُقِفُوا}، ليشمل كل زمانٍ ومكان منذ أن ضُربت عليهم تلك الذلة.
ثم يأتي هذا الاستثناء، وهو مهمٌ لنا نحن المسلمين: {إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ}، هذا الاستثناء مهمٌ جدًّا؛ لأننا في زمن تحقق فيه هذا الاستثناء: {إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ}، لا يمكن أن يخرجوا عن تلك الوضعية التي يكونون فيها في حالة شتات، في حالةٍ يكونون فيها مقهورين، مغلوبين، مستذلين، لا يستطيعون أن يغلبوا أحداً، ولا أن يهزموا أحداً، هذه الحالة من الاستثناء تبين أنه لا يمكن أن يخرجوا عن تلك الوضعية، وأن يهزموا أحداً، أو يغلبوا أحداً، أو يسيطروا على أحد، إلَّا وفق هذا الاستثناء: {إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ}.
ما هو الحبل من الله؟ المفسرون بكل تأكيد يقولون: أنه التسليط الإلهي، إذا سُلِّطوا من قبل الله “سُبْحَـانَهُ وَتَعَالَى” على أحد، فيمكن أن يخرجوا عن هذا الاستثناء بقدر ما يسلَّطون، بهذا المقدار الذي يتيحه الله “سُبْحَـانَهُ وَتَعَالَى” ليضرب بهم أحداً هنا أو هناك.
{وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ}، يعني: مع بعض: حبلٍ من الله من جانب، هو عبارة عن التسليط الإلهي، {وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ}: ما يمكن أن يحصلوا عليه من جانب الناس، لا يستطيعون أن يتحركوا بمفردهم من دون حماية من أحد، من دون مساندة من أحد، من دون دعمٍ من أحد، ولا يكفيهم أن يكونوا مدعومين من طرفٍ ما، وبحماية ورعاية من طرفٍ ما، من دون أن يحصل أيضاً التسليط الإلهي الذي يتيح لهم النجاح.
ونحن نجد في هذا الزمن، في هذا العصر، أنه حصل هذا: حبل من الله وحبل من الناس، الحبل من الناس: الدعم والرعاية والمساندة التي حظوا بها من جانب بريطانيا أيام احتلالها لفلسطين، ومن بعد وعد بلفور، وما قدمته لهم بريطانيا من رعاية وتمكين ومساندة، ومساندة على مستوى أوسع آنذاك، يعني: من العالم الغربي بشكلٍ عام، ثم من بعد بريطانيا قامت أمريكا بالدور بشكلٍ كبير، ولا يزال إلى جانبها الغرب إلى حدٍ ما كذلك.
ولكن المسألة الأخطر علينا نحن المسلمين هي قوله: {إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ}؛ لأنها تنبئ أنَّ الوضعية التي تمكَّن فيها هؤلاء من أن يتحركوا لضرب الأمة، واستهداف الأمة، وأن يبنوا لهم كياناً في قلب منطقة هي داخل هذه الأمة، هي وضعية خطيرة، هي وضعية تقصير، هي وضعية عصيان، هي وضعية تفريط، هي تدل على خللٍ كبيرٍ في واقع الأمة، لدرجة أنَّ يسلط الله عليها هذا العدو، لدرجة أنَّ يتمكن أولئك الذين ضرب الله عليهم الذلة من إذلال أبناء الأمة إلى حدٍ كبير، ألم يتمكنوا من إذلال الجيوش العربية؟ ألم يتمكنوا من إذلال أمة بأكملها آنذاك، ولا يزالون يذلون الكثير من أبناء الأمة إلى حد اليوم، ما عدا من يخرج عن هذه الوضعية السيئة.
وهذه- بحد ذاتها- كافية في أن يلتفت المسلمون بجدية إلى بحث أسباب السخط الإلهي، الذي كانت من نتائجه هذا التسليط، أن يتاح لأشر عباد الله، لأسوأ خلق الله، أن يبنوا لهم كياناً، وأن يواجهوا هذه الأمة، وأن يذلوها على مدى عقود من الزمن، وأن يهددوها، وأن يقف الكثير من زعماء هذه الأمة في موقف الذلة أمامهم.
وصل الحال- فعلاً- إلى أن معظم زعماء هذه الأمة من ملوك وأمراء أذلاء أمام من قد ضربت عليهم الذلة، وأمام من قد ضربت عليهم المسكنة، والحال السائد لدى معظم الجهات الرسمية في العالم العربي هو هذه الذلة، وهم يعيشون حالة من اليأس والشعور بالضعف، والشعور بالذلة والضعة أمام العدو الإسرائيلي، بل يروِّجون أنه من المستحيل مواجهته، من المستحيل طرده، من المستحيل التخلص منه، وأنه أصبح حالة قائمة واقعية لا مناص منها، إلَّا بالتعامل معها، والقبول بها، هكذا يروِّجون، أليست هذه حالة ذلة رهيبة جدًّا؟
ونحن نقول: إنَّ هذه الآية المباركة هي كافية في أن يلتفت المسلمون بجدية إلى تصحيح وضعهم؛ لأنه وضعٌ خطير، وضعٌ يكون فيه سخطٌ من الله “سُبْحَـانَهُ وَتَعَالَى”، ويكون من نتائجه هذا التسليط الإلهي، وضعٌ خطير، يستوجب التفاتة جادة لتصحيح هذا الوضع؛ لأن ثمرة الإسلام في هديه، في تعليماته، في توجيهاته، في برنامجه، هو يبني هذه الأمة؛ لكي تكون أمةً عظيمةً، قويةً، عصيةً على أعدائها، منيعةً، ولكي يكون وضعها الداخلي واقعاً صحيحاً، وقائماً على أساس المبادئ والقيم الإلهية، قائماً على العدل، على الخير، ثم تؤدِّي دورها في العالم على أساس ذلك، تتحرك في الساحة العالمية على هذا الأساس، ولكن ما وصلت إليه الأمة، ولتراكمات عبر الزمن، أوصلتها إلى وضعية من التفكك، وغياب المشروع، والضعف؛ يطمع أعداءها فيها، ويعطي فرصةً لأولئك الذين قد ضرب الله عليهم الذلة أن يتحركوا فيها، معنى ذلك: أنَّ الأمة فرَّطت وقصَّرت في جوانب مهمة من دينها، جوانب رئيسية من إسلامها، كانت كفيلةً ببناء واقعها ليكون واقعاً مختلفاً، لا يمثل فرصة مطمعة لأعدائها، وكذلك تحظى فيه بالتأييد الإلهي، والنصر من الله “سُبْحَـانَهُ وَتَعَالَى”، فتكون في موقع أن تحظى بالتأييد الإلهي والنصر من الله، لا في موقع أن يسلِّط الله عليها شر خلقه. فهذا درسٌ مهمٌ جدًّا، يعطينا نظرةً عن منشأ المشكلة التي وقعت فيها هذه الأمة، والتي يجب عليها أن تسعى للخروج منها.
السيد عبدالملك بدر الدين الحوثي
كلمة السيد في يوم القدس العالمي 1441 هـ