حزب البعث الإشتراكي يقدم رؤيته حول القضية الجنوبية “نص الرؤية”

مدخل:

ليس المقصود بهذه الورقة ادانة احد او الدخول في سجال معه، ولكن الهدف هو قراءة التجربة بموضوعية في محاولة للوصول الى حلول لاكبر معضلة تواجهها البلاد الآن، ومن شأن المعالجات أن تقرر مستقبلها لزمن طويل قادم، ولذلك فان الرؤية يجب ان تلتزم الصدق والحق، وهما مطلبان عسيران في وضع يعمه الهيجان، وتفور فيه النفوس بالغضب من الجراح التي تعانيها. ولكن النقد هو دائما اول الطريق نحو النظرة الصائبة والموقف الاقرب الى الصحة.

ان حزبنا مع اعتزازه الكبير بتجربة اللقاء المشترك وبالوشائج النضالية التي تربطه باطرافه يرى لزاما عليه تناول القضايا على قاعدة المصلحة الوطنية العليا والمساهمة في تقويم التجارب الوطنية على اساسها. وفيما يتعلق بالقضية الجنوبية ، فان الوقائع على الارض لا يمكن التنصل منها او نكرانها، فجميع الادوار قد اصبحت جزءا من سجلات التاريخ. ولكن هناك جوانب تتعلق بالحزب الاشتراكي اولتها هذه الورقة اهتماما خاصا، لما يشكله الحزب بالنسبة لنا وبالنسبة لليمن كاحد مصادر الاشعاع والتنوير وكصانع كبير من صتاع التقدم.

وعلى أي حال وكما يقول رودولف كارناب "لا يوجد في العالم إلا ظواهر تظهر بشكل مباشر أو غير مباشر للتجربة، وعليه فإن الاقتراح العلمي لا يمكن أن يقبل إلا إذا شرع بعلاقة دقيقة مع ملاحظات ممكنة."  ولكن المعرفة من جهة أخرى تستعمل أحيانا التعميمات والنظريات ولا تمتلك أشياء واقعية معادلة لها في العالم التجريبي. وإلى ذلك فإن الأحكام القيمية والمعيارية ليس لها قيمة معرفية، فالاستنتاجات النظرية تحتاج دائماً إلى مجابهتها بالتجربة.

ويوجد خطأ كامن لدى الذين يرغبون في تصور النظام السياسي بشكل منعزل عن طبيعة القوى الاجتماعية وهو ما يقود إلى فشل النظرية والتطبيق معاً، فمهما بلغ المرء من عبقرية فلن يستطيع إلا قراءة المسارات والاتجاهات العامة للتطور التاريخي وبقدر قليل من التوفيق. وسيظل عاجزاً تماماً عن التحديد الملموس للأحداث المستقبلية. ففي مسار تطور الأحداث هناك دائماً عدد لا نهائي من الممكنات. فقد يؤدي نجاح أو فشل عملية اغتيال ضد رجل دولة إلى تغيير التاريخ. فلا صحة أبداً إذن للاعتقاد بإمكانية عقل أو إدراك تطور المجتمع من خلال صيرورة ضرورية تتجسد في التاريخ.

ومع ذلك كله، وافتراض صحته، فإنه لابد من التأكيد على أن التجربة الإنسانية كلها قائمة في الماضي، ذلك أن الحاضر لا يستمر إلا لحظة تكفي بالكاد للانتباه له. وحتى المعرفة التجريبية تتحول إلى ماض ما أن يتم إنجازها. ومن هذا الخزان المعرفي يستمد الإنسان عناصر تساعده على استشراف المستقبل. ولذلك فإن هناك إمكانية لا بأس بها لعقل وإدراك تطور المجتمع والأحداث، إذا كانت العناصر التي صنعت نتيجة ما في الماضي ماثلة الآن ولها امتداداتها في المستقبل. إنها بمعنى من المعاني معرفة تجريبية.

أولا : حول عملية تحقيق الوحدة.

لا تزال هناك تساؤلات كثيرة عن الكيفية التي تم بها توليد – العملية الوحدوية – أثناء هزيمة الفلسفة السياسية الكلاسيكية للنظام في جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، بحيث تم إنجازها وفق شروط أشبه ما تكون بالمغامرة. وهي التي كان يفترض أن تكون مشروعاً عقلانياً ومعقولاً بدلاً من الطابع المغامر الذي اكتسته. فالفلسفة السياسية التي كانت سائدة حتى انكسارالاتحاد السوفييتي ومعه المعسكر الشرقي كانت قادرة على تحليل النظم المحيطة بها بصورة ناجحة. ومن الواضح أن التغيير لم يحدث في تلك النظم المحيطة، وإنما في النظام في الجنوب كنتيجة مباشرة لأحداث يناير المروعة ، ثم سقوط تجربة الاتحاد السوفييتي وتفكك حلف وارسو. فهل كان التغيير من العمق والشدة بحيث أدى إلى تغيير القناعات التي ولدتها التحليلات الأقدم؟ أم أن – (المغامرة) الوحدوية – كانت قفزة إلى الأمام، أو بالأحرى هروباً إلى الأمام كما وصفها الرئيس علي عبد الله صالح غير مرة؟ وفي هذا المجال يبدو الخيارالفلسطيني ومغامرته في أوسلو – التي كانت عملية هروب حقيقية إلى الأمام – في ظل المواقف العربية المعادية، مالكا لمبررات أكثر صدقية من الخيار الجنوبي اليمني نظرا للفارق الكبير بين دولة ثابتة الاركان ومنظمة تحرير تتقاذفها المواقف والاحداث. ووجه الشبه بين الحالتين أن التحليلات الكثيرة التي شخصت النظام الصهيوني قد تم القفز عليها مرة واحدة بنفس القدر الذي تم فيه القفز هنا على التحليلات السابقة لطبيعة النظام في الجمهورية العربية اليمنية.

إن هذا الانفصال بين الفكر والتطبيق ربما كان راجعاً إلى أن المفكرين يتناولون الشأن السياسي وفقاً لأسس معيارية، بينما يمارس السياسيون السياسة بشكل تجريبي، وغالباً ما ينزلقون إلى الذرائعية (البراجماتية). ويزداد هذا الافتراق بين النظرية أو الفكر وبين التطبيق في الأنظمة السياسية التي لا ترتكز على الانفتاح على الآخر. وسيكون من المفيد أن تقوم قيادات الحزب الاشتراكي بشرح وافٍ وضاف، في وقت ما، للظروف التي صاحبت الاندفاع إلى تحقيق الوحدة الاندماجية – دون أن يأخذوا بالاعتبار تحليلاتهم السابقة والتي كانت لا تزال صحيحة عشية الوحدة – حول طبيعة النظام في الشمال.

ثانيا: اوجه القصور التي شابت العملية الوحدوية:

من الناحية السياسية:  من الواضح اليوم ان اكبر قصور شاب العملية الوحدوية، المؤيدة جماهيريا، هو عدم استباقها من قبل النظامين المتعاقدين بمصالحات داخلية، تحل خلافات الماضي العميقة والدموية في كل منهما، وتأسو جراحها، كمقدمة منطقية تسبق وحدة الشطرين. وقد كان للقوى المناهضة للنظامين دوركبير في ايلولة الوحدة الى الحرب، كما كان لها يد طولى في الحرب عام 1994.

انطلق الحزب الاشتراكي من فرضية انه الممثل الوحيد والحصري للشعب في الجنوب بالفعل، والممثل الحصري للشعب في الشمال بالقوة، حسب المقولات الارسطية. وهوطموح توتاليتاري لا مكان له في الفكر والممارسة الديمقراطيين، وقد كان دمج حزب الوحدة الشعبية (حوشي) في الحزب الاشتراكي اكبر المعالم المنذرة في الطريق الخطر الذي سلكه الحزب، لأن ذلك كان سلوكا لا وحدويا آحاديا والغائيا واقصائيا للمناضلين، على نحو تراتبي متعسف، ادى فيما بعد الى تفجير داخلي للثنائية (شمال/جنوب) داخل الحزب الاشتراكي نفسه كما هو مشاهد حاليا.

الامر الثاني: كان الاندفاع نحو وحدة اندماجية، مع وجود بدائل افضل واكثر تأنيا، تفسح الوقت للنظامين لبناء الوحدة على اسس اكثر قوة ومتانة، عن طريق بناء العملية الديمقراطية في كل شطر على حدة، وبحيث تكون العملية الوحدوية تتويجا للبناء الديمقراطي الذي ينتج قوى سياسية تمثل شعبي الشطرين تمثيلا حقيقيا.

من الناحية الاقتصادية: اخفاق الشطر الجنوبي في القيام بحل قضايا التاميم التي زالت مبرراتها مع اختيار طريق الاقتصاد الراسمالي، ومن ثم تمكين الجنوبيين، الذي لم تتيسر لهم امكانيات التملك من الحصول على نصيب عادل من ثروة بلادهم، ليقفوا على قدم المساواة بقدر الامكان مع اقرانهم في الشمال.

ثالثا: المرحلة الانتقالية:

تميزت المرحلة الانتقالية بتقاسم فج وغير ديمقراطي بين السلطتين المندمجتين اقصت كل القوى السياسية والاجتماعية الاخرى عن ادارة الدولة. ونشبت الخلافات بينهما في اطار التنافس غير الصحي. قد بقيت الامور عند هذا الحد الى حين بدء عمليات الاغتيال السياسي والتي نجم عنها تحول كامل في المناخ السياسي، لتبلغ الامور حافة الهاوية مع ظهور نتائج انتخابات 1993. ورفض الجانب الجنوبي ان يبنى عليها مقتضاها بسبب الجو المشحون بالخلافات والشكوك والمخاوف.

وقد ابدت قيادتا الطرفين استعدادا لتجاوز الخلافات، واستجابتا للضغط الشعبي وذهبتا الى عمان وصدرت عنهما وثيقة العهد والاتفاق، التي لم يقدر لها ان ترى النور على ارض الواقع، فقد كانت هناك قوى اقليمية لها امتدادت داخلية يهمها افشال العملية الوحدوية، وقد ظهر دورها واضحا للعيان خلال حرب 1994 والتحركات السابقة لها مباشرة.

وللتاريخ، يتضح من وثيقة كتبها الشهيد جار الله عمر بعنوان "وطن أولا وطن" أن سؤال "ما العمل؟" لم يكن مطروحاً بصورة واضحة في قيادة الحزب الاشتراكي، وفيما عدا الدعوة إلى تقوية صفوف الحزب وزيادة تماسكه وإعادة المفصولين منه إلى صفوفه، ويتضح من المقترحات أن الحزب لم يكن مستعداً أبداً لما سيكون.

رابعا: الحراك الجنوبي:

كانت للحرب وما تلاها من تصرفات آثار الصدمة الكاملة لدى الشعب في الجنوب، وقد ولد الحراك الجنوبي من رحم المعاناة الرهيبة، وهي معاناة ضاعفها التسريح والتهميش لشعب كل الراشدين فيه اوالغالبية الساحقة منهم موظفون لدى الدولة، لقد كان من نتائج الموقف السياسي للجمهورية اليمنية من حرب الخليج المتعلقة باحتلال العراق للكويت نتائج كارثية ماليا واقتصاديا بامتناع دول الخليج عن ضخ العون المالي لليمن، وطرد العمال اليمنيين من دول مجلس التعاون الخليجي، بحيث انخفض سعر الريال اليمني بنسبة تقارب 80% من قيمته قبل الحرب، وهو ما أناخ بثقله الكامل على الجنوبيين المعتمدين كليا على رواتبهم التي أصبحت لاتساوي قيمتها الشرائية الا عشرين بالمائة من قيمتها الاصلية. وقد صبر الجنوبيون اكثر من ثلاث سنوات قبل ان يظهر الحراك الجنوب كحامل للقضية الجنوبية، وكتعبير عن معاناة الجنوبيين، في وقت اصاب المتنفذين في السلطة واعوانهم سعار الفيد والغنيمة لكل مقدرات الجنوب امام القلوب الكسيرة والاعين الجائعة.

لقد اصبح الحراك الجنوبي صرخة وموقف أولئك البشر الذين ظلوا الى العام 2007 غير مرئييين. فقد بنى الحكام سلطتهم وقوتهم "على قمع السكان، الأهالي، الذين تحولوا فجأة إلى شيئ غير منظور، بل والاجانب في وطنهم احيانا.

وقد تصاعد خطاب الحراك الى حد انكار يمنية الجنوب، وهذا وامثاله متوقع ومفهوم. ومع ذلك فقد تميز الحراك بالعقلانية على الرغم من عنف السلطة فلم ينجر الى الخيار المسلح. كما تميز بالرشد في اختياره التصالح والتسامح مدخلا لكفاحه السلمي. ولكن ذلك لايعني ان الحراك لم تشبه مواقف اصحاب الرؤوس الحامية، ولكن الفارغة في ذات الوقت، الذين حاولوا حرف مساره وجره الى العمل المسلح، وهم في الاصل يتحملون الفسط الاكبر من المسؤرلية عما آلت اليه الامور. بينما يستجيب لهم البعض في استجابة انفعالية لعنف السلطة المفرط، والانتهاكات الجسيمة المستمرة لحقوق الانسان.

خامسا: على طريق التغيير:

اليوم ونحن امام مائدة الحوار المستديرة نذكر بان تطبيق النقاط العشرين التي تقدم بها الحزب الاشتراكي واعتمدتها اللجنة الفنية للحوار الوطني وقبلتها الاحزاب السياسية فيما يشبه الاجماع، من شانها ان توفر ارضية صالحة للوصول الى حلول مرضية للجميع.

ان تطبيق النقاط العشرين يتطلب دولة حازمة قادرة، فلا يمكن تصور ان تقوم حكومة دولة ليس فيها قضاء نزيه وعاجزة عن استرداد ممتلكاتها المؤجرة كما في حالة منشآت حجيف، على سبيل المثال، باسترجاع ممتلكات صرفت لوجاهات ومتنفذين او بسط عليها من قبلهم دون وجه حق، اوفي ضمان الامن والكرامة والحقوق للمواطنين.

النقاط العشرون تظل ناقصة وقاصرة، فيما يتعلق بالمستقبل، اذا لم يرافقها الحكم الرشيد، والقضاء النزيه المستقل، وكفالة الحريات الفردية والجماعية الاساسية وفقا للعهود الدولية للحقوق والحريات الصادرة عن الامم المتحدة والتي يفترض انها جزء من قوانين البلاد بحكم توقيعها عليها قابلة بها متعهدة بالالتزام بها. وسيتناول حزبنا هذه القضايا في رؤية خاصة بالدستور.

قد يعجبك ايضا
WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com