العاروري: أدى المهمة بنجاح، ونال الشهادة بشرف!
مصطفى عامر
في منتصف الثمانينيات كان الشيخ أحمد ياسين آخر المعتقلين، وقف ضابطٌ صهيونيٌّ أمامه بصلف: لقد قضينا على حركة حماس!
عليكم أن تتذكروا أن عدد “الفتية الذين آمنوا” مع أحمد ياسين، وقتها، كانوا أكثر أو أقل بقليل من الفتية الذين ذهبوا بإيمانهم من ديكيوس الروماني إلى جبل، خلّد الله حكايتهم فيما بعد بسورةٍ كاملة، فيما لا يتذكّر ديكيوس اليوم أحد!
في منتصف الثمانينيات كان بمقدور العدو احتجاز حركة حماس، بكلها، في زنزانةٍ واحدة! كان بمقدور جنديٌٍ صهيونيٍّ إرسال حركة حماس، بكلّ أفرادها، إلى الآخرة!
كان بإمكانه القيام بهذا الأمر دون أن يُفرغ، حتى! خزنة مسدسّه!
نعم! لقد كان عدد منتسبيّ حماس أقل من عدد الرصاصات في خزنة مسدس!
فهل انتهت الحكاية؟
مشكلة العدو التي ستُرديه أنه لم يفهم عدوّه بعد، ولن يفهم عدوّه قط! ففي ١٦ شباط ٩٢م تم اغتيال القائد عباس موسوي الأمين العام لحزب الله، كان العدو الصهيوني يشعر بالزهو: لقد ضربنا حزب الله في مقتل! أمّا الحقيقة التي لم يفهمها العدو في حينه أنّ لحظة استشهاد القائد الموسوي كانت- بالنسبة لحزب الله- لحظة الانطلاقة الجديدة، الانطلاقة التي ستخرج الكيان القذر من لبنان كلها، في ٢٠٠٠، خالي الوفاض حتّى من الكرامة!
تبقى مشكلة العدو التي سترديه أنه لا يفهم!
كان علي عبدالله صالح في واحدةٍ من ليالي ١٠ سبتمبر ٢٠٠٤م مزهوًّا، كان الخبر الأول في التليفزيون الرسمي وقتها: لقد تم القضاء على “المتمردين” بالقضاء على قائدهم! شعر علي محسن وقتها أنه يقف على سقف العالم! فيما بعد سيخرج على محسن من صنعاء متنكّرًا بشرشف!
بدا الأمر كما لو أنه سقط من سقف العالم لتوّه، أمّا الحقيقة- ببساطة- أن سقف العالم بدأ بالاهتزاز في ١٠ سبتمبر ٢٠٠٤م!
فيما بعد، وفي أواخر التسعينيات، خرج الشيخ أحمد ياسين من محبسه، رغم أنف العدو، كانت حماس في استقباله، وكان منتسبيها يستعصون على العد!
لنتذكر أنّ الشيخ قضى معظم أيامه، منذ تأسيس حماس، في المعتقل! هكذا، وعلى هذا النحو، فإن مهمّة القائد التي لا يفهمها العدو إنّما تتمثل في إطلاق الشرارة، وإذا ذهب إلى الله شهيدًا فإنّ دمه لا يعدو كونه وقود الإنطلاقة الجديدة!
كلّ الحكاية أن الله، في وقتٍ ما، يمنح الشهادة لأوليائه وسامًا، مكافأة نهاية الخدمة: لقد حملتم الأمانة كما ينبغي، وقال الله إنكم تستحقّون الشهادة وسامًا بما صبرتم، ودماؤكم، خلاياكم، وما فيكم من عنفوان سيمكث في الأرض، الواحد منكم سيزهر ألفًا، والألوف ملايين!
فدماؤكم- تقدّست دماؤكم- هي الفاتحة ومسك الختام! هي للعارفين إشارة النصر عزيزا، وآية الفتح قريبا!
تعوسج قبل العاروري القسّام فأثمر كتائبًا، والشقاقي سرايا، وأبو علي مصطفى مواكب شرف، والرنتيسي ملايين الرنتيسي!
من الناحية العسكريّة فاغتيالهم لم يكن إنجازًا، ليس ثمّة ما هو أسهل من اغتيال ياسين أو الرنتيسي أو العاروري، قبل سنتين قال السنوار في مؤتمرٍ صحفي: جهزوا طائراتكم، ذخّروها، واقصفوا.. أمامكم ساعةٌ كاملةٌ فاقصفوا، سأذهب إلى البيت راجلًا فأروني رجولتكم.. ولن يهتزّ لي- وأيم اللهِ- جفنٌ!
فهل كان متهوّرًا؟
لا بالطبع؟
هل كان يرغب بمنح العدو نصرًا؟
بالتأكيد لا!
لكنّه كان يعرف حينها أن دوره بإعلان اسمه للملأ قد أوشك على الانتهاء، وتبقت له- فحسب- مهمّةٌ أخيرة:
أن يمنح الحركة بدمه المسفوك وقودًا جديدًا، يفتح الطريق للدماء الجديدة، يأخذ وسامه بفخر، ويذهب إلى الله مرفوع الرأس!
في وقتٍ لاحق، وحينما أدرك السنوار أن لديه بعض المهام الأخرى ليؤديها قبل مهمته الأخيرة فقد اختفى عن العيون، وبعد ثلاثة أشهرٍ من الكدّ لم يعثر العدو على شيءٍ يخصّ السنوار.. باستثناء حذائه!
إذن، ذهب العاروي اليوم إلى مكتبه لأداء مهمّته الأخيرة، ولو كان يعرف أن لديه بعض المهام غيرها لتخفّى!
هكذا هي حياة النسور!
إذا حان وقت مهمّتها الأخيرة فإنها- بفخرٍ- تصعد إلى أعلى جبل، تفتح ذراعيها للمدى، وتنشر كرامتها وعنفوانها في أرجاء الدنيا!
أمّا العدو فلم يفعل شيئًا جديدًا، المهزومون على مرّ التاريخ يرتكبون قبل لحظة نهايتهم حماقة، حتى الخراف.. تبقى لها- بعد الذبح- رعشة ما قبل الموت!
كلّ ما في الأمر، إذن، أنّ سكين غزّة إذ قطعت من العدو الوريد أدّت نصف المهمة، أمّا النصف الآخر فقد قام به العدو ذاته.. إنها حماقة ما قبل النهاية إذن!
الحماقة التي كان ينتظرها العاروري بلهفة!
وشاء الله أن يكون دم العاروري وقودًا ضروريًّا لمعركة الفتح الكبير!
ويا له من شرف!