كربلاءُ العصر
||صحافة||
“أتذكر أمي من عُقدها وأقراطها اللي عليها بقايا دمها”، هكذا قالت (تالين) وهي واحدة من الأطفال الذين فقدوا ذويهم، إذ فقدت والدتها وأختها وأخيها الوحيد في القصف الإسرائيلي على قطاع غزة داخل منزل أحد معارفهم الذين لجأوا إليه ظناً منهم أنه سيكون “الملاذ الآمن”.
و(تالين) من بين الآلاف في قطاع غزة الذين فقدوا أفراداً من ذويهم أَو فقدوا عائلاتهم بأكملها، وسُجلت نحو 149 عائلة فقدت كُـلّ منها أكثر من 10 أفراد وفق وزارة الصحة الفلسطينية في غزة.
وخلّف القصف آثاره المدمّـرة التي جعلت الحزن والألم يعتصران قلوب الجميع، وخَاصَّة الأطفال بفقدهم إما ذويهم أَو منازلهم، في حال تمكّن الأطفال أنفسهم من النجاة.
وفي حديث تالين إلى إحدى الوسائل الإعلامية قالت ذات الاثني عشر ربيعاً: “فقدتُ أمي وإخوتي وما بقي عندي غير أبي وأختي الكبيرة، والذكرى التي تربطني بأمي الآن هي هاتفها المحمول وعقدها وأقراطها التي عليها بقايا دمها”.
“حينما سألني عن عائلته، لم أستطع الإجَابَة، أخذت نفساً عميقاً، وحاولت بدلاً من ذلك تجنب السؤال بطريقةٍ طفوليةٍ بتغيير الموضوع”.
معين أبو رزق هو الشخص الوحيد الباقي على قيد الحياة من أقارب الطفل عمر، ابن أخيه البالغ من العمر أربع سنوات، والذي يرقد في حالةٍ حرجةٍ في مستشفى شهداء الأقصى في دير البلح وسط قطاع غزة.
اضطر الأطباء إلى بتر يد عمر اليسرى، وترك جرحٍ كبيرٍ مفتوحٍ في ساقه اليمنى، وجروح أصغر في صدره ووجهه، وخلعٍ في فكه عقب غارة جوية إسرائيلية، يقول معين إنها قتلت 35 فرداً من أفراد عائلته، منهم والدته وأبوه وجدته.
وقال معين: “يجب إخباره بالمعلومات بطريقةٍ ما، حتى لا يصاب بصدمةٍ أَو يدخل في حالةٍ لا أستطيع السيطرة عليها”.
مشهد مأساوي:
لا شيء ينجو من القصف الإسرائيلي الغاشم، هكذا يبدو المشهد المأساوي في قطاع غزة، في ظل إصرار إسرائيلي على تدمير واستهداف البشر والحجر في القطاع الذي يُعاني منذ السابع من أُكتوبر الماضي.
نحو نصف سكان غزة البالغ عددهم 2.3 مليون نسمة هم من الأطفال، يعيشون تحت القصف المُستمرّ، حَيثُ استشهد قرابة 5 آلاف طفل منذ بدء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، بما يعادل 40 % من الضحايا، في حين أصبح الآلاف يتامى نتيجةً لوفاة والديهم جراء القصف ورغم عدم حصر أعداد الأطفال الفلسطينيين الذين أصبحوا أيتام، فَــإنَّ مصيراً صعباً ينتظرهم بالنظر إلى ضعف الإمْكَانات في القطاع.
في خطابه الأخير أشار السيد القائد السيد عبد الملك الحوثي، إلى الوضع المأساوي في غزة، وقال: إن “العدوّ الصهيوني يعلن المستشفيات أهدافاً عسكرية ويقتل ويستهدف الجرحى والكوادر بكل إجرام ووحشية ويقدم ذلك إنجازاً عسكريًّا ويتباهى بذلك”.
وحمل خطاب السيد القائد الكثير من الرسائل الهامة، منوِّهًا إلى أن العدوّ ينتهك كُـلّ المواثيق الدولية والقوانين الإنسانية عن طريق ارتكابه مجازر وانتهاكات في حق الأسرى الفلسطينيين بتقطيع أطرافهم أَو تقديمهم كوجبات للكلاب وأساليب تعذيب لا يتخيلها العقل أَو البشر.
وتابع قائلاً: “الولايات المتحدة دعمت الاحتلال في الإقليم عبر تهديد كُـلّ الأطراف لتهيئة الفرصة له لارتكاب جرائمه.. يجب أن نتذكر مشاركة الولايات المتحدة في كُـلّ الانتهاكات والمجازر الإسرائيلية في قطاع غزة”.
وقال خلال الخطاب الذي وصفه الكثير من المتابعين والخبراء بالخطاب الاستراتيجي والتاريخي: إن الأمريكي وإسرائيل كلاهما ذراع للصهيونية العالمية التي تستهدف العالم الإسلامي، مطالباً “المسلمين للتحلي بالمسؤولية وأن يكون لهم صوت وأن يقدموا كُـلّ أشكال الدعم، وخَاصَّة أن بعض الدول الأُورُوبية شطبت الأخلاق من قاموسها السياسي وتخلت عن القيم الإنسانية”.
ويذكر رئيس تحرير صحيفة القدس العربي الكاتب عبد الباري عطوان، جانباً من الوضع الإنساني الصعب للغاية في قطاع غزة، مؤكّـداً أن بعض المواطنين وصل بهم الحال إلى أكل أوراق الشجر من شدة الجوع؛ جراء الحصار المفروض عليهم من قبل العدوّ الإسرائيلي.
استهداف المستشفيات:
“حصار تام.. لا كهرباء، لا مياه، لا غذاء، لا وقود، لا دواء، نحن نحارب حيوانات بشرية، وسنتصرف على هذا الأَسَاس”. هذا ما قاله وزير الدفاع الإسرائيلي يواف غالانت في وقتٍ سابق.
كان يوجد في قطاع غزة قبل العدوان الصهيوني الأخير أكثر من 35 مستشفى وعدد من المراكز الصحية، لكن الوضع الآن تغير، غالبية القطاع الصحي بغزة واجه خطر التوقف منذ الأيّام الأولى من العدوان، ومع استمرار القصف خرجت معظم المستشفيات عن الخدمة.
ولكل مستشفى حكاية مع الوجع والمعاناة التي لا مثيل لها في التاريخ المعاصر.
واحدة من أكثر المآسي التي عاشها القطاع الصحي في غزة تمثلت في الاستهداف الصهيوني المتوحش لمستشفى المعمداني، فالغارة الصهيونية لم تترك جريحاً أَو مسعفاً أَو حتى طبيباً، الجميع قتلوا وأُصيبوا، والأعداد كانت مهولة ووصلت إلى أكثر من خمسمِئة شهيد، والفاجعة في هذا المكان تحولت إلى مُجَـرّد ذكرى.
مجمع الشفاء الطبي.. اسم تردّد كَثيراً منذ بدء العدوان الصهيوني على قطاع غزة، فالمبرّرات التي ساقها العدوّ الصهيوني هي أن المجمع الأكبر في غزة يعد ثكنة عسكرية لحركة حماس، ونتيجةً لذلك عاش المجمع تفاصيلاً كثيرة مع الأحزان والأوجاع سواءً للكادر الطبي أَو المرضى بداخله أَو النازحين في محيطه.
سيارات الإسعاف قُصِفت أكثر من مرة عند مدخله، واحدة منها حين كانت تستعد لنقل الجرحى إلى معبر رفح، وزعم الكيان الغاشم أنها كانت تستخدم من جانب خلية إرهابية تابعة لحماس، وأدى القصف إلى مقتل ثلاثة عشر شخصاً وإصابة ستة وعشرين آخرين.
التوغل البري للعدو الصهيوني في شمال غزة كان مركزاً للوصول إلى مجمع الشفاء، وعندما وصل إلى هناك تم تدمير معظم الأقسام عن طريق القصف بالدبابات دون مراعاة لأكثر من ألفي مريض موجودين فيه، ونتيجةً للحصار الصهيوني تكدست الجثث داخل المستشفى وأمامه، وتم دفن ما يقارب مئتي جثة في قبر جماعي، وحين اقتحم العدوّ المستشفى تم العبث وتدمير أقسامه، وانتشرت مئات الجثث في محيط المستشفى والكلاب الضالة تقوم بنهشها في واحدة من أسوأ المشاهد الإنسانية على الإطلاق.
استهداف المستشفيات:
التقارير الدولية والأممية تصف الوضع الصحي في غزة بالكارثي، فالمدنيون لا يجدون العلاج الكافي، والعديد من العمليات الجراحية تتم بدون تخدير، وأمام هول المأساة يفتقر الأطفال والنساء والمدنيون للرعاية الطبية.
الأمراض تنتشر في الملاجئ والمدارس، والسكان يعانون من الإسهال الشديد والتعب، وانتشار العدوى عن طريق الماء والغذاء، في حين تشير تقارير تابعة للأمم المتحدة إلى إصابة عدد من المواطنين بمرض الجدري والجرب، والتهابات في الكبد وغيرها من الأمراض.
رسائل الصامدين من كوادر القطاع الصحي في غزة كثيرة ومتعددة، فهي تؤكّـد لحكومات الدول على ضرورة البناء الجيد للنظام الصحي، والبناء الجيد كذلك لطواقم الإسعاف، والعمل على التطوير والتحديث والجهوزية العالية لمواجهة أي طارئ ومستجد، فالميدان الجهادي يتطلب قطاعاً صحياً جيِّدًا وجهوزية عالية على أرقى مستوى.
الصمود الأُسطوري للقطاع الصحي في قطاع غزة له دلالة كذلك على أنه لا حياة للشعوب والأمم دون الاهتمام بالمؤسّسات الصحية، فعلى الرغم من القصف الهستيري للعدوان الصهيوني على القطاع إلا أن الكوادر الطبية أوصلت رسالة للعالم بأهميّة قطاعات الصحة وقت الكوارث والأزمات، وهي رسالة للجهات المعنية بضرورة الاهتمام بالقطاع الصحي والإسعافي في بلادنا؛ كونه من أهم القطاعات لإنقاذ الحياة ومن أهم المقومات والطرق لنجاح استمرار الأعمال الميدانية والعسكرية، والتقصير أَو التفريط في هذا الجانب يعد أحد جوانب الإخفاق ومعوقات النجاح في الميدان العسكري.
قطع الكهرباء وتوقف محطات تحلية المياه:
ولم يكتف العدوان الإسرائيلي في استهداف المدنيين والمنظومة الصحية في القطاع بعد رفضه دخول المساعدات الإنسانية والتي يعتمد عليها أكثر من 80 % من السكان في القطاع، حَيثُ قامت السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية بقطع الكهرباء على القطاع، في وقت أعلن يسرائيل كاتس، وزير الطاقة والبنية التحتية في إسرائيل، مساء 7 تشرين الثاني/نوفمبر الماضي قرار إسرائيل قطع إمدَادات الكهرباء عن قطاع غزة، كما أمر وزير الدفاع يوآف غالانت بعدم إدخَال أية شاحنة تحمل الوقود إلى القطاع.
وفي حين اعتبر هذا إجراء عقاب جماعي، إلا أنه في الواقع إجراء لتحقيق الإبادة الجماعية ضمن السياسة التي تنتهجها إسرائيل في القطاع.
يكشف تتبع انقطاع تيار الكهرباء أبعاد غياب الكهرباء وحضورها، وأثرهما في الممارسات والظواهر الاجتماعية، ومدى أهميّة الكهرباء لحياة الأفراد اليومية، نظراً إلى تأثيرها القوي في الحياة اليومية لمختلف شرائح المجتمع والقطاعات.
وتعد الممارسات السابقة جزءاً من سياسة العقاب الجماعي الذي تمارسه إسرائيل بحق الفلسطينيين في غزة، إلا أن في هذا العدوان الإبادي برز دور مغاير للكهرباء، فهذه أول مرة تقطع فيها إسرائيل جميع إمدَادات الكهرباء عن القطاع، وتمنع تماماً دخول الوقود الذي تعمل عليه محطة التوليد الرئيسية والمولدات الخَاصَّة، لأكثر من 45 يوماً، الأمر الذي أَدَّى إلى خروج عدد من المستشفيات عن الخدمة، وفقدان كثير من المرضى حياتهم، وقد نشر أطباء مشاهد عبر الإنترنت، في بداية العدوان، وهم يعملون على ضوء الشموع والهواتف.
ولأن محطات تحلية المياه تعتمد في عملها على الكهرباء، فقد أَدَّى توقف تدفق التيار الكهربائي إلى توقف محطات التحلية بشكل كامل في شمال القطاع ووسطه، وانخفاض عملها إلى النصف في الجنوب، مع بقاء محطة تحلية مياه واحدة من أصل ثلاث محطات تعمل بقدرة تشغيلية تبلغ 5 %.
وعلى الرغم من الهدنة المؤقتة، فَــإنَّه لم يحدث أي تحسن، تقريبًا، على وضع المياه، وخُصُوصاً في شمال القطاع، حَيثُ مكّنت عمليات إيصال الوقود إعادة تشغيل 79 بئراً و15 محطة لضخ المياه في جنوب قطاع غزة، وتوريد المياه عبر خطين من إسرائيل، أمّا في الشمال فما زال خط المياه القادم من إسرائيل ومحطة تحلية المياه متوقفَين عن العمل.
ويأتي هذا ليخدم سياسة التهجير القسري التي يمارسها الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي بحق المواطنين، ولتسهيل تحقيق التطهير العرقي في الشمال بمغادرة أهل غزة في المناطق الشمالية نحو الجنوب، وتساهم الكهرباء، بشكل أَسَاسي، في القضاء على مقومات الحياة في الشمال، وحرمان الغزيين من المياه وإمدَادات الوقود، بالإضافة إلى تدمير المستشفيات ومولدات الكهرباء فيها، وإخراجها عن الخدمة بكل الطرق الممكنة.
خطة للتطهير العرقي:
لم يكن استهداف الكيان الصهيوني بصورة مباشرة للبنية التحتية لشبكات نقل الكهرباء وتوزيعها في القطاع منذ اليوم الأول للعدوان، وتدمير 70 % منها، أمرًا اعتباطيًّا، كما أنه لا يندرج في إطار العقاب الجماعي لأهلنا في غزة، وإنما يأتي ضمن خطة التطهير العرقي والإبادة الجماعية التي تسعى إليها إسرائيل في عدوانها هذا، وإعادة إنتاج المساحات المكانية والفضائية في قطاع غزة.
أخيراً ومع انتهاء هذا العدوان الإسرائيلي الظالم على قطاع غزة ووقف إطلاق النار والسماح بدخول المساعدات الإنسانية إلى غزة، ستبقى نسبة كبيرة من السكان عالقة لعدّة سنوات في دوامة الفقر والحرمان.
ويعزى ذلك بشكل أَسَاسي إلى فداحة الخسائر في الأرواح وهول أعداد الجرحى، وفقدان رأس المال البشري والقدرات البشرية، وتدمير البنى التحتية الاجتماعية والاقتصادية في كامل القطاع لأجيال قادمة.
صحيفة المسيرة| محمد الكامل