شهر رمضان .. رحلة النفس نحو الإنجاز والتحول الإيجابي
في شهر رمضان المبارك، يتجدد الأمل في قلوب المسلمين وتتعالى الهمم لاستقبال هذا الضيف الكريم بكل ما يحمله من فرص للتغيير والتحول الإيجابي، ومعالجة القصور وإصلاح الخلل وتزكية النفس وتطهيرها مما قد علق بها من الشوائب. يُعد رمضان شهر البركات والمكاسب الروحية والمادية، حيث يتميز بخصائص فريدة تجعله موسماً للخير والعطاء الرباني ومن مكاسب هذا الشهر الفضيل :
المكسب الروحي: يُعتبر رمضان مدرسة نتعلم فيها الصبر والتحكم في النفس، ويُعزز من قيمة التقوى والشعور بالقرب من الله من خلال ما يترافق فيه من الصيام والقيام وقراءة القرآن التي تعلى من الوعي الروحي وتُقرب العبد من ربه.
المكسب الاجتماعي: يُسهم رمضان في تعزيز الروابط الاجتماعية من خلال العطاء والإحسان والتكافل من خلال إقامة موائد الإفطار الجماعي والزيارات العائلية، ومما يُشجع على الأعمال الخيرية ومساعدة المحتاجين، مما يُعزز من التكافل الاجتماعي.
المكسب الصحي: يُساعد الصيام على تنظيم العادات الغذائية ويُعطي الجهاز الهضمي فرصة للراحة، وقد أظهرت الدراسات فوائد الصيام في تحسين الصحة والوقاية من بعض الأمراض.
المكسب النفسي: يُوفر رمضان فرصة للتأمل والتفكير في الذات والحياة، ويُساعد على تخفيف التوتر والقلق من خلال الشعور بالسكينة والطمأنينة التي تأتي مع العبادات.
والكثير الكثير من المكاسب الإيجابية التي تعد من بركات هذا الشهر الفضيل.
معطيات الشهر الكريم
الإنسان بفطرته يرغب فيما يقيه من الكثير من المشاكل، أو من كل الكوارث والمصائب والشرور والمخاطر، الإنسان بفطرته رحيمٌ بنفسه، ويريد لنفسه الخير، {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ}[العاديات: الآية 8]، ويتمنى أن يمتلك ما يقيه من الشرور والمخاطر الكبيرة على نفسه وعلى حياته، والوقاية هي خلاصة ما يعنيه تعبير التقوى، أنه يشكِّل وقايةً لنا من كثيرٍ من الأشياء السيئة التي هي نتاجٌ طبيعيٌ للأعمال والتصرفات الخاطئة والسلبية والسيئة، بكل تأثيراتها السيئة علينا في واقع الحياة، ومن هنا كانت فريضة الصيام التي تعيد ضبط النفس وتقودها نحو معارج السمو وآفاق التقوى.
ومن هنا يتضح لنا أنَّ شهر رمضان، بكل ما فيه من صيام وقيام وأعمال صالحة، وما يتهيأ فيه من البركات والآثار الإيجابية والخيِّرة، لا يمثل عبئاً إضافياً إلى مشاكلنا في هذه الحياة؛ بل إنَّ له علاقة مهمة جدًّا بصلاح حياتنا هذه، فعلى مستوى مشاعرنا، نعيش مشاعر الطمأنينة، مشاعر السكينة، القرب من الله التخفيف إلى حد كبير من مشاعر القلق، من الشعور بالضيق في واقع النفوس، نعيش حالة الاطمئنان بذكر الله والمشاعر الإيجابية والإنسانية الراقية والمؤثرة إيجاباً في مشاعر الإنسان كما أن صيام شهر رمضان يعتبر وسيلة مساعدة للارتقاء في واقعنا النفسي والأخلاقي والعملي والسلوكي، ونكتسب منها قوة الإرادة، والصبر، والتحمل، والقوة النفسية في مواجهة أعباء وتحديات هذه الحياة، ونكتسب قوة التحمل للنهوض بمسؤولياتنا في هذه الحياة.
فشهر رمضان المبارك محطة مهمة جدًّا في عطائها التربوي، وعطائها الأخلاقي، وأثرها في واقع الحياة، وما يترتب عليها أيضاً من جانب الله من البركات والخيرات والعطاء الإلهي الواسع.
الشهر الكريم موسم تجارة رابحة مع الله
جانب آخر يتعلق بشهر رمضان المبارك: ما يمثله من قربة عظيمة إلى الله وما يترتب عليه من عطاء إلهي في الدنيا والآخرة، فهو موسم خيرٍ عظيم ، الأجر فيه كبير، الفضل فيه كبير، القيمة للأعمال الصالحة فيه قيمة عالية جدًّا، ويمكن أن يتحقق للإنسان خلال هذا الشهر المبارك من أثر الأعمال الصالحة، ومن نتائجها، وما يكتب عليها، ما لا يتحقق في غيره على مدى عمرٍ كامل وأكثر، أحياناً على مستوى أكثر من عمرٍ كامل؛ ولذلك يمكن أن يشكِّل هذا الشهر المبارك في أثره المبارك، وفيما يترتب على الأعمال فيه من نتائج وأجر مضاعف، أن يمثِّل رصيداً كبيراً جدًّا يضاف إلى أعمال الإنسان الصالحة ، فهو يمثِّل فرصة، لأننا بحاجة إلى الله بحاجة إلى العمل الصالح، بحاجة إلى ما يقرِّبنا من الله، بحاجة إلى ما يساعدنا أن نحظى من خلاله برضوان الله ونأتي يوم القيامة ولنا من الأعمال الصالحة ما يثقِّل موازيننا، ألَّا نأتي يوم القيامة خاسرين، مفلسين من الأعمال الصالحة.
إذاً كيف نستثمر هذا الشهر المبارك؟
عندما ندرك أنَّ هذا الشهر له هذه الأهمية، وهذه الفريضة لها هذه الآثار والنتائج الطيبة، فكيف نستثمر هذا الشهر المبارك؟
أولاً: ينبغي أن يحرص الإنسان أن يتوجه إلى الله بشكل صادق ويسعي للتخلص من المعاصي والذنوب، أن يبتدأ شهره هذا بالتوبة إلى الله، والاستغفار، وأن يعزم عن الإقلاع عن المعاصي، وعن الكبائر، وعن الذنوب، ويحرص على الاستقامة، ويتخلص من المظاهر السيئة، والأعمال السيئة؛ حتى يتقبل الله منه صيامه وعمله، الإنسان إذا تجاهل هذا الشهر واستمر على ذنوب ومعاصيه ومفاسده، فاستمراره على ذلك سيحبط عمله، لن يتقبل الله منه عمله ابتداءً، فإذا حدث شيءٌ من ذلك قد يحبط عمله، خصوصاً الكبائر، الكبائر تحبط الأعمال الصالحة، وتمثِّل خطورة كبيرة على الإنسان، وتفقد الإنسان الاستفادة من هذا الشهر المبارك.
الحرص أيضاً أنه خلال شهر رمضان المبارك يحترم حدود الله ويحذر من الحرام، يحذر من المعاصي، يحذر من الأعمال السيئة، يستقيم على طاعة الله ويحذر مما يسبب له الانزلاق، بعض المقدِّمات للأعمال الفاسدة والأعمال السيئة تهوي بالإنسان وتورطه، يحذر منها ، يحذر من خطوات الشيطان من أول خطوة، ويحرص على الاستقامة والصلاح في هذا الشهر المبارك؛ ليؤسس لذلك فيما بعده.
يحرص الإنسان على القيام بفرائض الله وواجباته العملية بكل أنواعها: الصلاة، الصيام، الأعمال الصالحة، الجهاد، الإنفاق… كل الأعمال التي تدخل في نطاق المسؤوليات المهمة والأعمال الأساسية التي فرضها الله علينا.
الاهتمام بشكل كبير جدًّا بذكر الله /باللسان، وبالوجدان والقلب والمشاعر: بحيث يكثر الإنسان من الاستغفار، من التسبيح، وهذا أمرٌ متاح أينما كان الإنسان: في الجبهة يستطيع أن يكثر من ذكر الله في المنزل، في حركته، في ذهابه، في إيابه، يستطيع أن يكثر من ذكر الله والذكر لله من أفضل العبادات والقرب التي تقرِّب الإنسان من الله
الاهتمام أيضاً بالقرآن الكريم: شهر رمضان كما قال الله عنه في كتابه الكريم: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ}[البقرة: من الآية 185]، فينبغي العناية بتلاوة القرآن الكريم بتأمل وتدبر، والحرص على الاستفادة من كتاب الله والاهتداء به، النظرة إليه ككتاب هداية، كيف نستفيد منه، كيف نصحح المفاهيم الخاطئة لدينا، كيف نرسخ المبادئ المهمة، كيف نتذكر بما يذكِّرنا به القرآن الكريم، كيف نتأثر بما يقدِّمه من الهدى المؤثر على المستوى النفسي والوجداني، ثم على المستوى العملي، ثم ما يترتب على ذلك في واقع الحياة، القرآن الكريم ينبغي أن يمثِّل واحدةً من أهم ما نركِّز عليه في شهر رمضان المبارك، وعلى هذا الأساس: تلاوة التأمل، والحرص على الاهتداء به، وليس مجرد الإكثار من التلاوة بدون تأمل، ولا اهتداء، ولا انتفاع بكتاب الله.
العناية بالدعاء: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}[البقرة: من الآية 186]، الدعاء مهمٌ جدًّا في كل حال، وفي شهر رمضان هو من أهم ما يركِّز عليه الإنسان، وشهر رمضان من المواسم العظيمة والمهمة للدعاء ولقبول الدعاء، ولا سيما بالأشياء المهمة في عاجل الدنيا وفي آجل الآخرة.
من الأشياء المهمة جدًّا العناية بالإحسان: الإحسان من أهم القرب إلى الله ومن أهم الأعمال، ومن أعظم الأعمال، الإحسان بالصدقات، الإخراج أيضاً للزكاة مسألة ضرورية جدًّا، العناية بالبر وفعل الخير تجاه الناس، تجاه الضعفاء، تجاه الفقراء، وبما يراعي تكريمهم، الإنسان على مستوى أرحامه، على مستوى جيرانه، على مستوى الناس من حوله، ثم على مستوى أوسع بقدر ما يستطيع، على المستوى الفردي، وعلى المستوى التعاوني الذي يأتي ضمن أعمال اجتماعية واسعة، أو جمعيات خيرية جيدة… أو نحو من ذلك.
العناية أيضاً والتركيز على التزكية للنفس: الإنسان يلتفت جيداً إلى واقع نفسه، يقيِّم نفسه بنفسه، يحاول أن يستذكر جوانب القصور لديه، الفرائض التي هو مقصرٌ فيها، الأعمال والمسؤوليات المهمة التي هو مُخِلٌ بها أو مقصرٌ فيها، الأخطاء والسلبيات والأعمال السيئة التي تصدر منه، ثم يحاول أن يستعين بالله ويلتجئ إلى الله أن يوفقه للخلاص منها، ويحرص على العودة إلى القرآن، والاستفادة من الصيام، والتوجه العملي للخلاص من تلك السلبيات، أو جوانب التقصير، ثم تكون النتيجة: التوجه العملي الجاد على ضوء هدى الله ؛ لأنه بهذا تتحقق للإنسان التقوى بشكلٍ تام، عندما يتجه عملياً على ضوء هدى الله في مسيرة حياته، في أعماله، في مواقفه، في تصرفاته، في توجهاته، ويرتبط بهدى الله بما يترك الأثر الكبير عليه في روحيته ونفسيته ومشاعره ووجدانه.
أخير حتى نستفيد من نعمة هذا الشهر وفضله ولكي نرتقي روحيا وإيمانيا ينبغي أن نحذر في هذا الشهر الكريم مما يساهم في ضياع وقتنا، فالبعض يضيع أوقات الشهر الفضيل على سهرات في جوٍ بعيد عن هدى الله، وعن الذكر لله، وعن القرآن الكريم، إما وراء المسلسلات التلفزيونية، أو وراء مواقع التواصل الاجتماعي، والانشغال بها، وتضييع الوقت عليها، أو سهرات في اجتماعات ليس لها أي قيمة إيجابية، ولا تربوية، ولا أخلاقية، ولا دينية، وليس فيها اهتمام لا بهدى الله، ولا بالقرآن الكريم، ولا بعملٍ صالح، يجب الحذر من ذلك، والحذر من قرناء السوء الذين يجرون الإنسان إلى الضياع في أعماله وفي اهتماماته.
مما ينبغي أيضاً التركيز عليه: الاستعانة بالله والتماس التوفيق منه للإنسان؛ لكي يتمكن من استثمار هذا الشهر المبارك، الإنسان يدعو الله أن يوفِّقه لاغتنام هذا الشهر للاستفادة منه، أن يوفِّقه فيه إلى الأعمال الصالحة.