يوم الفرقان.. دليل الأمة لمواجهة طواغيت العصر (أمريكا وإسرائيل)

يوم السابع عشر من شهر رمضان المبارك  شهد حدثاً تاريخياً مفصلياً واستثنائياً، ويوماً فارقاً في التاريخ، كان هو غزوة بدرٍ الكبرى هي حدثٌ عظيمٌ ومهمٌ وكبيرٌ ومؤثرٌ في مسيرة حياة البشرية، وفي مسيرة الإسلام العظيمة و تأسس من خلالها عهدٌ جديد، وأتت بها مرحلةٌ جديدة في واقع الأمة وقد سمى الله -سبحانه وتعالى- هذه الغزوة بـ(يوم الفرقان) {يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} [الأنفال: من الآية 41]، وهذه التسمية تعطينا فكرةً عن أهمية هذه الغزوة، وتقدِّم دلالةً مهمةً على ما مثَّلته هذه الغزوة من متغيرات ومن تحولات كبيرة في الواقع.

ومن المفارقات أن تأتي هذه المناسبة في هذا العام والأمة الإسلامية تواجه منعطفا خطيرا وحالة محزنة فمنذ سته أشهر واليهود الذين ضرب عليهم الذلة والمسكنة يمارسون أبشع وأنكى الجرائم بحق أبناء الإسلام في فلسطين، جرائم إبادة بكل ما تعني الكلمة من القتل حتى للأطفال الرضع وللمرضى والجرحى وللنساء والأطفال وفي مشهد من أسوأ ما المشاهد التي تبث عبر وسائل الإعلام المرئية عن استهداف الصهاينة للنازحين في الطرقات وفي تجمعات المواطنين الفلسطينيين وهم يبحثون عن ما يسد رمقهم بعد فرض اليهود حربا شاملة ومنها الحصار والتجويع والقتل المتعمد لكل ما يتحرك أمام أعينهم والتهجير القسري وتدمير كل المنازل تدميرا كليا غير آبهين بملياري مسلم وبأكثر من 52 دولة إسلامية لم تحرك ساكنا أمام ما يحدث اللهم إلا من بعض الحركات الإسلامية كحركات المقاومة العراقية وحزب الله اللبناني واليمن المجاهد..

لماذا كل هذه الإجرام؟ لماذا هذا الاستهداف؟ لماذا هذا الواقع الذي تعيش فيه أمتنا مطمعاً لغيرها، ويرى فيها الآخرون فريسةً سهلة يتنافسون عليها، ويتسابقون عليها، ويرون فيها مغنماً عظيماً وهائلاً ومغرياً يتقافزون عليه، مع ما عانت منه الأمة على مرِّ التاريخ من الاستبداد الداخلي والظلم الداخلي من خلال الدولة الأموية، الدولة العباسية… وما تلاها من حملات استعمارية التتار والصليبيون والاستعمار البريطاني والفرنسي والإيطالي الأمريكي والصهيوني دول كثيرة تعاقبت على هذه الأمة.

حالة مؤسفة، حالة مأساوية، حالة محزنة، أن نكون هكذا أمةً ضعيفة، مرةً يأتي الأمريكي، قبله البريطاني، ومن هناك الفرنسي… وفي كل فترة يأتي أحدٌ من هنا أو من هناك ليرثنا، ليرث السيطرة علينا، والتحكم بنا، والنهب لثرواتنا ومقدراتنا، هذه مأساة، هذه حالة غير لائقة بنا بحسب ديننا وتوجيهات الله لنا.

في هذا التقرير سنستعرض يوم الفرقان بما يمثله من دروس كبيرة  وعبر عظيمة لعل وعسى أن تستيقظ هذه الامة وتلتفت إلى إسلامها ورسالة نبيها وكتابها وما تضمنه من قيم ومضامين كفيلة بأن تكون هذه الأمة سيدة الأمم لا أرذلها وأذلها..

حاجة الأمة للاستفادة من مسيرة نبيها

 

أمتنا المظلومة بحاجة إلى أن نلتفت من جديد إلى الإسلام كما هو في مبادئه العظيمة التي تكفل لنا أن نبني واقعنا على أساسٍ مستقل، ومتحرر من التبعية لأعدائنا، من الخضوع لولاية الطاغوت؛ حتى ننعم بولاية الله -سبحانه وتعالى- التي يخرجنا الله بها من الظلمات إلى النور، والتي نحظى من خلالها بالعزة والكرامة، وننعم بها بالتحرر من عبئ الطاغوت في ظلمه، وطغيانه، وإجرامه، واستعباده، وقهره، وإذلاله للإنسان، واستغلاله للإنسان.

ولو تأملت هذه الأمة لمسيرة رسولها -صلوات الله عليه وعلى آله- لوجدتها مسيرة جهاد، ومسيرة تضحية، وأتت الآيات الكثيرة في القرآن الكريم التي تجعل من الجهاد في سبيل الله عنواناً رئيسياً، وفريضةً عظيمةً ومهمةً في الإسلام من أهم فرائض الإسلام، تحمي الأمة، تكسب بها الأمة المنعة والعزة والقوة، وتحرر الأمة من ولاية الطاغوت، ومن سيطرة الطاغوت، وتحمي الأمة من الذل والهوان والاستعباد والقهر.

إن الله سبحانه وتعالى لا يريد لنا أبداً أن نكون على هذا النحو: الأمة الضعيفة التي- دائماً- يأتي الآخرون جيلاً بعد جيل، مرحلةً بعد مرحلة ليطمعوا بها، ويتوارثها، ويسيطروا عليها، ومن يد إلى يد يستلموها، في كل فترة يأتي مستعمر يسيطر حتى يضعف، عندما يضعف يأتي المستعمر الآخر فيستلم الدور وذاك يسلم له تفضل هذه الأمة الإسلامية، ليس هذا فحسب، بل كل حقبة استعمارية يقوم أولئك المستعمرون برسم مسار هذه الأمة لمراحل قادمة، حتى على المستوى السياسي والجغرافي، خطط جديدة، ومسارات جديدة، وتقسيمات جديدة، مثلما فعلوا بتجزئتنا، كنا أمة كبيرة، فقاموا بتجزئتنا إلى دويلات، والآن تحتكم الأمة إليهم عند الاختلاف على الحدود، أنتم من قمتم بتقسيمنا والآن لدينا خلاف، عندما قمتم بتقسيمنا أين وضعتم الحد بين هذه المنطقة وتلك؟! ويضعون عليها من العملاء الذين يدينون بالولاء لهم، وينفذون مؤامراتهم ومخططاتهم، ويواصلون المشوار في التحكم بالأمة لمراحل زمنية طويلة.

الله -سبحانه وتعالى- هو العظيم، هو الرحيم، هو الحكيم، هو العزيز، وثمرة دينه هي عزة، هي حرية، هي كرامة، هي قوة، أن تتصل بتوجيهات الحكيم هي توجيهات حكيمة تكسبك الحكمة، الحكمة: تصرف صحيح، سياسة صحيحة، عمل صحيح، رؤية صحيحة، فكرة صحيحة، أن تتصل بالعزيز في توجيهاته وتحظى برعايته، تكسب العزة، ولهذا يقول الله: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: من الآية8]، الله يريد لنا أن نكون أعزاء، ولهذا يقول  في أيةٍ أخرى: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة: من الآية54]، {أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ} [الفتح: من الآية29]، الدين في جوهره، في مبادئه، في قيمه، في تشريعاته، دين الله الإسلام العظيم هو على النحو الذي إذا التزمنا به، وتمسكنا به، وتحركنا على أساسه، ونهضنا في واقع حياتنا على أساسه؛ يبنينا أمةً قويةً مستقلة، متحررةً من التبعية، وقويةً في مواجهة التحديات، وينظِّم حياتنا في كل المجالات، ومنها مجال الصراع، الصراع الذي هو  جزءٌ من واقع هذه الحياة لا مناص منه، هذه مسألة مهمة جدًّا أهملتها الأمة، تهربت منها الامة، فماذا كانت النتيجة؟ الضعف، الوهن، التدجين، الاستغلال، الاستنزاف… كوارث عانت منها الأمة.

لمحة سريعة عن ارهاصات معركة بدر الكبرى

شاء الله لهذه الأمة أن يعزها ويكرمها بنبي عظيم وكتاب كريم ليخرجها من ظلمات الجهل إلى نور الإسلام، إلى الحرية والكرامة وقد أرسل الله نبيه محمد (صلوات الله عليه وعلى آله) بعد أن أهله وأعده لهذه المهمة المتمثلة في تبليغ رسالته التي أول ما فيها ، وأعظم ما فيها أنها رسالة تنقذ الإنسان وتحرره من استعباد أخيه الإنسان ومن استغلال الإنسان له (الإنسان الآخر).

وشاء أن تكون مكة منطقة البعثة فتحرك الرسول (صلوات الله عليه وعلى آله) بهذه الرسالة بين أوساط عشيرته وقومه ولكن طواغيت مكة كغيرهم من الطواغيت عبر التاريخ رأوا في هذه الرسالة خطرا عليهم فتحركوا لمحاولة احتوائها بالترغيب والترهيب ومن وسائل الترغيب التي عرضوها على رسول  الله: الملك والسلطة والمال والتمكين له ولكنه رفض كل هذه الإغراءات فاتجه طواغيت مكة لممارسة وسائل الترهيب ومن ذلك نشر الدعايات الواسعة بأن الرسول (ساحر ـ مجنون ـ شاعر ـ أساطير الأولين) ثم المقاطعة والحصار ثم التعذيب لمن تبعه من المستضعفين وقد وصل بهم حقدهم لهذه الرسالة لدرجة قتل بعض المؤمنين بها ثم وسعوا في وسائل الضغط إلى التآمر على التخلص من الرسول (صلوات الله عليه وعلى آله ) وعندها أذن الله له بالهجرة إلى المدينة المنورة بعد ثلاثة عشر عاما قضاها في مكة وفي المدينة استطاع تأسيس مجتمعا إسلاميا وحظيت رسالته بقابلية عظيمة وحاضنة اجتماعية تمثلت في مجتمع الأنصار (الأوس والخزرج) الذين آووا ونصروا  وبعد سبعة أشهر من هجرة النبي -صلوات الله عليه وعلى آله- إلى المدينة، بدأت تلتحق به جموع المهاجرين، بدءاً من مكة، والبعض من مناطق أخرى، وبدأ الرسول -صلوات الله عليه وعلى آله- نشاطاته العسكرية المتمثلة بسرايا الاستطلاع والأنشطة التي تمثل حالةً من التجهيز والاستعداد، لماذا؟ بناءً على الوعي بواقع هذه الحياة، وبطبيعة الظروف القائمة في الواقع البشري، وبالفهم الصحيح لقوى الشر والطاغوت أنها قوى مستكبرة ومستبدة، وأنها بطبيعة ما هي عليه من: الطغيان، والإجرام، والطمع، والفساد، والعدوانية، والشر، لن تترك للأمة الإسلامية أن تنشأ كأمةٍ مستقلة ومتحررة، وتبني واقعها على أساسٍ من نهج الله وتعاليمه -سبحانه وتعالى

وقد حدث بالفعل أن الرسول بعد استقراره في المدينة لم تتجاهل قوى الطاغوت الحركة الجديدة للرسول، والظروف الجديدة التي تهيئ للمسلمين البناء في أنفسهم كأمةٍ مستقلة، قوى الطاغوت كانت تنظر إلى هذه الخطوة بنظرة الشر نظرةً عدوانية، ولهذا بدأت هي المساعي من جانبها للتحضير لاستئصال هذه الأمة، وضرب هذا الكيان الإسلامي العظيم، الذي بدأ رسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله- ببنائه.

فاتجهت قريشٌ من جانبها لبعض التحضيرات العدوانية والتحضير لمرحلة عسكرية حاسمة، وبدأت نشاطها بالتأثير على المحيط الذي يعيش فيه النبي -صلوات الله عليه وعلى آله- محيط المدينة، بالتنسيق مع اليهود، وبالتنسيق مع القبائل الأخرى، وقريش كانت تستند في تزعمها للحرب ضد الإسلام وضد رسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله- كانت تستند إلى جانبين مهمين وأساسيين تستغلهما:

الأول: تستند إلى مركزها وثقلها في المنطقة الذي توفر لها بسبب وجودها في مكة المكرمة، مكة والبيت الحرام والمشاعر المقدسة هناك كانت تحظى في الساحة العربية بالاحترام والتقدير من بعد زمن نبي الله إبراهيم وإسماعيل -عليهما السلام.

الثاني: ثروته ومكانتها الاقتصادية فقد كانت تعيش رخاءً اقتصادياً وإمكانيات اقتصادية متميزة عن بقية المناطق الأخرى، بفضل مكة المكرمة، بفضل البيت الحرام، بفضل دعوة نبي الله إبراهيم بالرزق لقاطني مكة ومجاوري البيت الحرام: {وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً} [البقرة: من الآية126].

ولذلك ما إن أتت السنة الثانية للهجرة حتى كان الوضع العام يتفاقم بالتوتر، وصولاً إلى انفجار الموقف عسكرياً، و اتجهت قريشٌ بجيشها الجرار للحرب التي تهدف من خلالها إلى استئصال شأفة المسلمين، والقضاء على الرسول -صلوات الله عليه وعلى آله- وكان ذلك في شهر رمضان المبارك من السنة الثانية للهجرة.

الرسول يستعد للمواجهة بعزيمة لا تلين

الرسول -صلوات الله عليه وعلى آله- تحرك كذلك تحركاً بالتصدي لهذه المحالات الرامية إلى القضاء على المسلمين، وتحرك في المدينة المنورة، وحاولوا أن يستنهض المسلمين بالتحرك للتصدي للأعداء، ومن بيئة كانت لا تزال تعاني من حالةٍ من الاستضعاف، ومن التردد لدى البعض، ومن وجود حالات سلبية في الساحة الإسلامية تعيش حالة الضعف، لا تتأثر بالإسلام بالدرجة الكافية التي تساعدها على الوقوف الموقف الصحيح الذي يتناسب مع توجيهات الله -سبحانه وتعالى- ومع طبيعة الظروف ومستوى التحدي والخطر.

ولكن الرسول -صلوات الله عليه وعلى آله- تحرك ولم يبالِ، ولم يكترث بأولئك الذين كانوا يتحركون على هذا النحو السلبي في تخذيل الناس، وفي إضعاف الموقف من الساحة الداخلية، رسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله- ببصيرته العالية، وفهمه الصحيح، وإيمانه العظيم، وعزمه الحديدي الذي لا يلين، كان يحرص على تنفيذ أوامر الله وتوجيهاته، ويجعل لها أولويةً مطلقة، ويتحرك على أساسها دون الاكتراث بكل أولئك المثبطين، والمخذلين، والمجادلين، والمناقشين، والمترددين، والمضطربين، وتحدث القرآن الكريم عن ذلك بقول الله -سبحانه وتعالى-: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5) يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ} [الأنفال: 5-6]، وكذلك يتحدث في آيةٍ أخرى: {إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَـؤُلاء دِينُهُمْ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ فَإِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: الآية49]، فالحالة هذه التي تحرك فيها رسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله- ومعه الصادقون والأوفياء من المؤمنين الذين انطلقوا بروحيةٍ عالية، واستعدادٍ كبير، واستبسال في سبيل الله -سبحانه وتعالى- ووصلوا إلى منطقة بدر، هذه المنطقة التي تبعد عن المدينة بما يقارب مائة وستين كيلو متراً، وصل إلى هناك والتقى بجيش المشركين هناك، وكان جيشاً كثير العدد، ويمتلك الإمكانيات العسكرية والقدرات العسكرية بحسب نوعها- آنذاك- ما لا يمتلكه المسلمون، ولكن رسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله- لم يكن يتحرك في موقفه العسكري بناءً على التكافؤ المادي، التكافؤ في العدد والعدة. لا، كان يعتمد على الله، ويثق بالله -سبحانه وتعالى- ويركِّز على الحالة المعنوية العالية، وعلى الصبر، والاستبسال، والاندفاع الكبير للمؤمنين الذين يعتمدون على الله -سبحانه وتعالى- ويحظون برعايته المعنوية، وبنصره وتأييده في الموقف.

يوم الفرقان.. الآثار والدلالات

كانت معركة بدر معركة مهمة جدًّا، تحقق فيها أول انتصار وأكبر انتصار آنذاك في تلك المرحلة، غيَّر موازين المعركة، وغيَّر الواقع بكله، وأسَّس لمستقبلٍ جديد، فلذلك كان يوماً فارقاً في التاريخ، كان ما بعده يختلف عن ما قبله، في تلك المعركة قتل عدد ما يقارب السبعين من المشركين من أعداء الإسلام، وكان فيهم قيادات أساسية، وشخصيات عسكرية مهمة وأبطال من أبطال الأعداء، فمثَّل هذا كسراً لشوكة الشرك، لشوكة الأعداء، وأثَّر تأثيراً كبيراً حتى في الأحداث المستقبلية ما بعد غزوة بدر وصولاً إلى فتح مكة في السنة الثامنة للهجرة، والذي كان- أيضاً- في شهر رمضان.

كان لهذا الانتصار التاريخي والعظيم أثرٌ كبيرٌ في الساحة، في واقع المسلمين: ارتفعت المعنويات، اطمأنت النفوس، استقوى أمر الأمة، ازدادت القناعة والتصميم على مواصلة المشوار تحت راية الإسلام، وتأثير كبير في الساحة والمحيط العربي آنذاك بالقبائل العربية الأخرى، ولدى الأطراف الأخرى، فكان حدثاً مهماً جدًّا، استحق أن يسميه الله -سبحانه وتعالى-: {يَوْمَ الْفُرْقَانِ} [الأنفال: من الآية41]؛ لأنه كان يوماً فارقاً في التاريخ، وأسَّس لمرحلةٍ جديدة، وحسم الوضع في معركة كانت معركةً مصيرية، كانت تلك المعركة لو استشهد فيها الرسول -صلوات الله عليه وعلى آله- وتمكن الأعداء من قتل المسلمين وحسم المعركة لصالحهم؛ لاستمر الطاغوت في سيطرته العامة على الواقع، وبتأثيره الكبير جدًّا في الساحة، ولانطفأ نور الإسلام، ولكن الله -سبحانه وتعالى- يأبى إلا أن يتم نوره، كان لذلك الانتصار أهمية كبيرة جدًّا في ارتفاع راية الإسلام، وفي استمرارية بناء هذه الأمة المسلمة المتحررة من ولاية الطاغوت؛ لأن الحالة القائمة في الواقع البشري: إما أن تكون تحت ولاية الطاغوت، وإما تحت ولاية الله -سبحانه وتعالى-؛ ولذلك يقول الله في القرآن الكريم: {اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} [البقرة: من الآية257]، ويقول -جلَّ شأنه-: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا} [البقرة: من الآية256]، وهكذا تأتي الآيات الأخرى التي تؤكِّد أنَّ ولاية الله -سبحانه وتعالى- ولاية يتحرر فيها الإنسان من الطاغوت ومن سيطرته، ويعتمد في حياته على هداية الله، على منهج الله، على توجيهات الله، على تعليمات الله؛ ليبني عليها مسيرة حياته، ويبني عليها مواقفه، وهذه المسألة هي المسألة الحسَّاسة جدًّا في كل زمن وفي كل عصر.

في مواجهة طواغيت العصر نحن بين خيارين: السلة والذلة

نحن في هذا العصر نواجه الطاغوت المتمثل بأمريكا وإسرائيل ومن يدور في فلكهم، ونحن بين خيارين:

إما أن نبني مسيرة حياتنا على أساسٍ مستقل ومتحرر من هذه الهيمنة، بالاعتماد على تعليمات الله، وتوجيهات الله، ومنهج الله، وبمقتضى انتمائنا لهذا الإسلام العظيم.

أو أن نصنع كما يريد الآخرون أن يتكيفوا مع الطاغوت، أن يتكيفوا، وأن يقولبوا واقعهم الديني بما يتلاءم مع الطاغوت، وهذا الحالة التي كان يسعى لها الطاغوت في حربه على رسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله- ولكنه فشل، رسول الله لم يتكيف، من قبله في حركة الرسالة السابقة أهل الكتاب كانوا قد تكيَّفوا، اليهود تكيَّفوا مع الطاغوت، وآمنوا بالجبت والطاغوت، {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاء أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً } [النساء: الآية51]، تكيَّفوا هم، وحرَّفوا الرسالة الإلهية، وانحرفوا عن كثيرٍ من مبادئها الرئيسية والأساسية، وتعاليمها المهمة، وأبقوا منها طقوساً وشكليات بالقدر الذي لا يحتكون به مع الطاغوت، وأصبحوا تحت ولاية الطاغوت.

المنافقون لا مانع عندهم أن يتكيَّفوا– من واقع انتمائهم الإسلامي- أن يتكيفوا مع الطاغوت، وكانوا على هذا النحو حتى في زمن رسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله- ونزل قول الله -سبحانه وتعالى-: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً } [النساء: الآية60]، هكذا (يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ): أن يقبلوا بحاكميته، بحاكمية الطاغوت عليهم، ويؤكِّد القرآن الكريم ذلك: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً} [النساء: الآية61]، فلا مانع لدى المنافقين والذين في قلوبهم مرض، والذين لم يعوا جوهر هذا الدين، أساس هذا الدين، المبادئ الرئيسية لهذا الإسلام، لا مانع عندهم من واقع انتمائهم لهذا الإسلام- الانتماء غير الواعي، غير السليم- أن يتكيفوا مع الطاغوت، وأن يبتعدوا عن ما أنزل الله في كثيرٍ من المبادئ، في كثيرٍ من التوجيهات، في كثيرٍ من التعليمات، وأن يتحركوا وفق ما يأمر به الطاغوت، وتحت ولاية الطاغوت.

جوهر الرسالة الإلهية: تحرر واستقلال

كانت مسيرة الرسول -صلوات الله عليه وعلى آله-  معبِّرة عن حقيقة الإسلام، وعن مبادئ الإسلام، وعن قيم الإسلام، مسيرةً تحرريةً، مسيرةً مستقلةً، مسيرةً تكفر بالطاغوت وتؤمن بالله -سبحانه وتعالى- مسيرةً تبني الأمة المسلمة على أساسٍ من الاستقلال، وليس على أساسٍ من التبعية لأعدائها، ليس على أساسٍ من التبعية للطاغوت، والتكيف مع الطاغوت، والتحرك تحت ولاية الطاغوت، اليوم كل الذين يتحركون تحت الراية الأمريكية، ويوالون أمريكا، ويسعون إلى التحرك بأمتنا تحت ولاية أمريكا، إنهم جميعاً تحت ولاية الطاغوت، إنهم يتولون الطاغوت، وهذا غير مقبول أبداً في نهج الإسلام العظيم، الله يقول: {الَّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاء الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً} [النساء: الآية76]، والطاغوت هو مشروعٌ شيطانيٌ في الواقع البشري، هو يرتبط بالشيطان، ولهذا كان مرتبطاً في الآية المباركة {وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاء الشَّيْطَانِ}.

 

وهكذا كان يوم الفرقان (غزة بدر الكبرى) وهكذا أراد الله لهذه الأمة أن تكون قوية عزيزة لا تقبل بالخضوع للطواغيت وهكذا قدم لنا رسول الله (صلوات الله عليه وعلى آله) درسا مهما وعظيما وهو التحرك في مواجهة الطواغيت بكل الإمكانات وعدم الخضوع أو الاستماع لأصحاب النفوس الذليلة المهزومة والحاقدة من المنافقين والمتذبذبين .. إنه درسا عظيما يعلمنا كيف يجب أن تكون موقفنا أمام طواغيت العصر أمريكا وإسرائيل وما الموقف المناسب أمام جرائمهم ومجازرهم ومؤامراتهم بحق أبناء أمتنا في فلسطين وفي غيرها من البلاد الإسلامية..

 

 

قد يعجبك ايضا